فتيحة النوحو
في هذا الروبورطاج، الذي خصتنا به الشاعرة فتيحة النوحو، نستعتيد مع عدد من قدماء مدرسة ابن البيطار، الخاصة بالمعاقين بمدينة الخميسات، ذكرى مديرها “دجون كان”.. ذلك الميلياردير البريطاني الذي زهد في الدنيا ومتاعها، وتفرّغ لرعاية أطفال أصيبوا بإعاقات بدينية، مجنّبا إياهم السقوط في إعاقات ذهنية أو نفسية أو اجتماعية..
حينما ينبض الحس الإنساني لا نحتاج لمقاربات نظرية تتحول لمضاربات في سوق القضية .هكذا يمكن تمثل الوضع الاعتباري لأناس في وضعية إعاقة بالمغرب حينما نرى كل هذا اللغط من المناظرات والاستراتيجيات والحملات بخصوص هذه الفئة والتي تلوح تارة بشارة الحقوقي وتارة أخرى بمنطق الإحساني. قلة من بعض المحظوظين انفلتوا صدفة حينما ألقى القدر بشخص اسمه “دجون كان” أسس لتجربة استثنائية لأشخاص استثنائيين كانوا على الهامش ولا زالوا.
في هذا الروبورطاج نستعيد مسار مدير وتلاميذ وطلبة مدرسة ابن البيطار بمدينة الخميسات التي يمكن اعتبارها انتفاضة ناعمة ثلاثية الأبعاد: الإنساني الحقوقي والتربوي
مواطنون مع وقف التنفيذ
يستعيد الفاعل الجمعوي عبد اللطيف النعوري ذكريات التحاقه بمدرسة ابن البيطار التي تشرف عليها العصبة الانجليزية لحماية الطفولة عام 1967 بفاس وذلك بتدخل من المشرفة الاجتماعية بالمستشفى الصوفي بالدار البيضاء آنذاك ويقول في هذا الصدد:
أصبحت أتمتع بحقي في التمدرس في اللعب وفي المهارات اليدوية بفضل مربيات مغربيات وأجنبيات ومتطوعين ومتطوعات من بينهم سيد يدعى “دجون”.
ذات يوم نظمت العصبة حفلا وكان من بين المدعوين عامل مدينة فاس، والذي لم يرقه تواجد مؤسسة في مدينته تعنى بالأطفال المعاقين وتوفر لهم شروط التعليم وتمنحهم الحق في الاندماج، فأمر بإغلاق المؤسسة وقال بالحرف: “كل واحد يقرا فدارو”
فغادر الكثير منا إلى بيوتهم، توقفنا عن الدراسة، لا اذكر السنة بالضبط لكن أربطها بحدث الزلزال الذي حل بفاس آنذاك وهو نفسه الذي حل بحلمنا الذي كادت تعصف به مزاجية شخص لولا إصرار دجون الذي زار أهالينا ليوقعوا معه عريضة وجهت للديوان الملكي، فنتج عنها إعطاء أمر بمنح مكان لإنشاء المدرسة وذلك عام 1972 خيرنا بين مدينتي إفران والخميسات، وتم اختيار ضيعة بهذه الأخيرة بناء على رغبة الأطفال الذين عاينوا المكانين، لان ضيعة الخميسات تتوفر على مسبح وكانت تمتد على مساحة سبع هكتارات سيتم استغلال مرافقها للنوم وللدراسة التي تغيرت هياكلها وبرامجها؛ فبعدما كنا في فاس ندرس اللغات إلى جانب فقيه يدرسنا القرآن والعربية، أصبحنا نخضع لبرامج وزارة التربية وتكوين الأطر المغربية بمعلميها، لكن كان التميز هو أن المدير أجنبي وكانت له نفس صلاحيات مدراء المؤسسات التعليمية الوطنية.
وعن خصوصيات ابن البيطار يقول النعوري: في الحقيقة لم تكن مدرسة بالمعنى المتعارف عليه بل كانت عبارة عن جزيرة، لأنها كانت تبعد عن مركز الخميسات بـ5 كلمترات، ورغم ذلك لم نكن معزولين. بل كنا نشعر أن المكان له شخصية معنوية قائمة الذات، تلقينا داخلها تربية نفسية واجتماعية تقوي جهاز المناعة بالاعتماد على النفس رغم تواجد المربيات كنا نقوم بترتيب أفرشتنا، نستحم نأكل ونلعب بدون مساعدة احد. أثناء السقوط نعتمد على أنفسنا للنهوض، وخارج الفضاء ربطنا علاقات مع جمعيات ثقافية فنية ومسرحية وانخرطنا في النادي السينمائي بالمدينة، كما كنا نعقد لقاءات مع شخصيات عامة مثلا استضفنا الأميرة آن ومستشار الملكة إليزابيث، وكنا نحن من نستقبلهم ونتحدث معهم كأصحاب البيت. هذه التفاعلات بين حياة الداخل والخارج صقلت شخصياتنا وقوتنا لننخرط في المجتمع بتحرر تام، حتى على المستوى الحياة الشخصية لم نختر شركاء معاقين الذكور منا والإناث.
ويخلص النعوري إلى كون ابن البيطار منحت المعاق حقا في التمدرس والحركية التي كان ولازال محروما منها رغم هذه الزوبعة القائمة الآن حول هذه الفئة، ورغم توصيات المجلس الوطني لحقوق الكانسان فإنها لا تترجم على أرض الواقع، فنحن مواطنون مع وقف التنفيذ .
بريطاني يشتري لنا القرآن..
لن تنسى الصحفية في الإعلام الاجتماعي والجمعوي جميلة لمنات يوم تم لفظها من المدرسة عندما كان عمرها سبع سنوات وتقول: لازلت أذكر أن مدير المدرسة الابتدائية لم يقبل بي كشخص في وضعية إعاقة، محتجا أنه كيف سألج المدرسة كل يوم و أنا لا أملك كرسيا متحركا ولا عكاكيز.. أمي كانت تحملني على ظهرها لذا كان حضوري إلى القسم مقرون بأمي. أكدت والدتي للمدير بأنني انتظر عملية جراحية نهاية السنة حيث سأتمكن معها من استعمال العكاكيز. . لكنه رفض عدنا أدراجنا إلى البيت وعقلي الصغير لا يتقبل أنني لن أحمل كراستي و لن افرح بحقيبتي المدرسية ولن أكون كأبناء عماتي و أخوالي.. حرمت من حقي الطبيعي في التعليم .
و كجبر لخاطر طفلة، اصطحبتني أمي لمنزل جدتي.. وأنا العب أمام المنزل وحيدة لأن كل الأطفال في سني كانوا في المدرسة.. سألتني سيدة كانت مارة أمام منزل جدتي “أين والدتك” ناديت عليها.. فإذا بالمرأة تسلم أمي عنوان مدرسة داخلية للمعاقين بمدينة الخميسات، قالت إن شقيقة لها تتابع دراستها فيها وأقنعتها أن التعليم هو الهدف و ليس أن تحتفظ بي معها تحملني في كل مشاوريها.
كان ذلك أثناء العطلة المدرسية الصيفية حيث استقبلنا أنا وأبي أحد المؤطرين لم ننتبه بداية إلى أنه كان مبتور اليدين.. امتحان الولوج أذكره كان اختبارا لنباهتي وأنني لا احمل إعاقة أخرى ذهنية.. أعطونا موعدا بعد العطلة الصيفية .. لم تكن فرحتي أثناء الدخول المدرسي كما كانت السنة الماضية، تأخرت سنة كاملة عن موعد دخولي للصف الابتدائي وأحمل الدولة ضياع سنة من عمري ومساري التعليمي..
في سنتي الأولى في ابن البيطار كنت أرى الكبار يعيشون حياة أخرى.. دراسة و غناء ورقص .. كنت أراهم أصدقاء المؤطرين والمربيات.. و كانوا أبناء لمدير المدرسة .. دجون لم أر فيه يوما حسم المدير لأنه كان يقف معهم ومن بعيد اسمع ضحكته، كانوا يقضون أغلب وقت الفراغ في غرفته..
لم يكن يصلي و لم يصم يوما.. ليس مسلما ولا أعرف ديانته .. توفي في أواخر رمضان 1990.. نتيجة حادث سير بسبب صائم يسوق شاحنة بسرعة.. كان يشتري لنا كتب الدين والقرآن والحديث وغيرها.. كان يسعد عندما نسعد .. غرفته كانت ملكا للجميع .. كلما مر بجانبي لمست يداه شعري الأسود القصير أو ربت بها على كتفي… كان الأطفال كلما علموا بسفره إلى إحدى المدن أو نزوله إلى مدينة الخميسات لا ويعدون لائحة من الطلبات يسلمونه إياها فيأتيهم محملا بها وهو على شدة من الفرح .. كان حنونا طيبا رغم قساوة قراراته أحيانا.. جون كان يعاقب كل متهاون، كان صارما مع الظالم. كان يعلمنا دون أن نشعر كيف نواجه قساوة الحياة الحقيقية.
كان يطلب ممن سقط على الأرض أن يقف وبدون مساعدة.. تعلمت منه أن أقف لأن في حياتي سأسقط مرات عديدة ولن أجد من يساعدني.. تعلمت أن ارفع الرأس رغم نظرة الغير، ففي الاختلاف حكمة.
تستعيد جميلة يوم وفاة جون بكثير من الأسى: كان يوما من أيام رمضان أذكر أنه ذهب إلى البيضاء، اشترى لنا لعبة المونوبولي كما وعدنا، سمعت صراخ الكبار مات دجون … برحيله ستختل المقاييس ولن تستقبل المدرسة كل ذي إعاقة. وسيرحل الكبار إلى أهاليهم بعد مستوى السادس ابتدائي. لن تكون هناك وسيلة نقل تقلهم إلى ثانوية. رأيت أحد الكبار اليتامى و هو يضرب يده على الحائط ويصرخ: “مات ابي للمرة الثانية”. في تأبينه وضعوا الصندوق الذي يحوي جثته في قاعة التلفاز أو الصالون كما كنا نسميها.. فدخلنا لوداع جون الوداع الأخير..
كنا آخر دفعة عايشت دجون، بعده سيمسك التعاون الوطني الإدارة بعد مرحلة انتقالية لسنتين أدارتها كل من السعدية معطى الله وزوجها الانجليزي بيتر وهما من أبناء الدار. بعدهما تغير كل شئ نظام الأكل.. الملبس.. الدراسة.. الترفيه…
تجربة ابن البيطار طبعت شخصيتي فأصبحت امرأة صلبة كالحديد في قراراتي، لكن روح جون ربت بداخلي الحس الإنساني الذي يتفاعل مع قضايا حقوق الإنسان بشموليتها وليس فقط الأشخاص في وضعية إعاقة.. بعد تكوين في مجال الصحافة طرقت باب التطوع في الجمعيات. باب العطاء بدون مقابل، لقاءات وندوات وورشات تكوينية.. جمعت اليوم بين مهنتي كصحفية وحبي للتطوع والعمل الجمعوي في مجال اسمه “لإعلام الجمعوي والمواطن”.
مات دجون فأجهزوا على حقوقنا..
يرفض جمال مصلة، الذي يشتغل كحَكَم فدرالي للعبة الشطرنج كلمة “ذوي الاحتياجات الخاصة” التي يقول إنها ملغومة، ويفضل بدلها كلمة إعاقة التي يقول إنها الأقرب للفئة التي ينتمي إليها.
أصبتُ بالشلل في سن 3 سنوات عندما وصلت سن التمدرس لم أقبل بالمدرسة فمكثت في البيت بالدار البيضاء، وبما أن أصولي من الخميسات فقد تناهى إلى علم أهلي أن هناك مدرسة تعنى بالمعاقين فالتحقت بها، يحكي جمال ويضيف: بداية كان الأمر غاية الصعوبة، لأنني فصلت عن حضن الأهل لكن سرعان ما بدأت اندمج وذلك بفضل المدير دجون الذي كان يمارس أبوته كاملة، كان يشاركنا في كل شيء نلعب كرة القدم ونسبح في مسبح المدرسة، ينظم لنا رحلات لكثير من المدن وزيارات لمعاهد موسيقية ومحترفات الصناعة التقليدية يصحبنا إلى السينما خاصة المتفوقين حتى يشجعنا على المنافسة في الدراسة، يجلب لنا منحا مالية، يقدم لنا هو وبعض من أصدقائه هدايا في رأس السنة فنفاجأ بها صباحا تحت وسائدنا، ولعلم بعض المشاغبين منا بموعدها، كانوا يأتون خلسة ويستبدلونها حينما نكون نحن نياما.. ذكريات كثيرة، يقول جمال، لا يمكن استحضارها كلها لكن كل ما كان دجون يقوم به تجاهنا كان هدفه هو تحصيننا نفسيا ومعنويا من عيون الناس التي كانت تنظر إلينا بكثير من اللبس.
لكن بعد موت دجون تغيرت كل الأمور، وتم الإجهاز على كل حقوق أبناء ابن البيطار، حتى البسيطة منها، وهكذا أصبحنا، مثلا، نشرب في كؤوس البلاستيك، وقس على هذا من أشكال السطو على إرث دجون الإنساني والتربوي وكل ما ناضل به من اجلنا.
ويضيف جمال مصلة: عندما كنت في سن السابعة عشر سقطت في الثانوية وألمت بي وعكة أجبرتني على ترك المدرسة والمكوث ببيت أهلي فانقطعت عن الدراسة لكنني لم أستسغ هذا الوضع، ولأعوض الفراغ التحقت بدور الشباب والجمعيات وانخرطت في تعلم لعبة الشطرنج فتمرست فيها لدرجة أصبحت مدربا وحكما وطنيا وفدراليا وعضو لجنة التحكيم بالجامعة الملكية المغربية للشطرنج وأيضا عضوا في لجنة الاتحاد الدولي للشطرنج لذوي الإعاقة. وحلمي هذه السنة تأسيس أول مدرسة للشطرنج بمعايير دولية في المغرب.
إن عزيمتي للمضي قدما في تحقيق أحلامي، يؤكد جمال، تعود إلى دجون الذي علمنا أن نضع نصب أعيننا هدفا وننطلق بكل ثقة وكبرياء إلى تحقيقه.
من يكون “دجون كان”؟
يسلط محمد فرح، رجل الأعمال الحرة ومخترع الدراجة النارية للمعاقين، على شخصية دجون الغريب عن البلد والذي استطاع أن يبني أجيالا من ذوي الإعاقة في المغرب ويقول:
عصبة حماية الطفولة منظمة بريطانية، بدأت نشاطها بعد الحروب العالمية التي خلفت مآسي إنسانية كالفقر والإعاقات، وكانت هذه المنظمة تشتغل خاصة في مجال تقديم مساعدت للدول الأكثر فقرا، وكان المغرب ضمن هذه الدول خلال الستينيات إثر الظروف المزرية التي عاشها أثناء الاستعمار، ومن أهم ما قامت به عصبة حماية الطفولة منظمة بريطانية في المغرب هو تأسيسها مركز ظهر المهراز بفاس نظرا لتفشي مجموعة من الإعاقات أهمها الشلل وإعاقات أخرى نتجت عن الزيوت المسمومة. ويظم مجموعة من المعاقين من كل أنحاء المغرب يعنى بشؤونهم الصحية والدراسية تحت إشراف مجموعة من الأطر المغربية يرأسها طاقم بريطاني، و كان من بين هؤلاء دجون كان الذي كان في بادئ الأمر يشتغل كمتطوع، قبل أن يصبح مديرا لهذه المؤسسة نظرا لما كان يبدله من جهد وتفاني وحب في خدمة الأطفال، في سنة 1972 انتقلت هذه المؤسسة إلى الخميسات لتستقر في إحدى الثكنات التي خلفها الاستعمار الفرنسي، وهناك استمر اشتغال هذه المنظمة في تلك المؤسسة بقيادة “دجون كان” ومساعدته السيدة كاتلين ديكس، وبعد وفاته سنة 1990 سلمت هذه المؤسسة بكاملها إلى التعاون الوطني المغربي.
يتحدّر دجون مكايل كان ينحدر من أسرة بريطانية ثرية خلفت له إرثا مهما. كان دحون إنسانا بكل معاني الكلمة؛ بقيمه وروحه. أسدى العديد من الخدمات لشريحة واسعة من المعاقين وأهاليهم، وبفضل القيم التي زرعها دجون في معظم المعاقين الذين مروا من تلك المؤسسة، أصبح العديد منهم يعيشون الآن حياة مستقرة ومثمرة، لقد علمهم روح التحدي وإثبات الذات وتحدي المستحيل وعدم الرضوخ.. وكل هذه الخصال التي من شأنها أن تعطي إنسانا معاقا نافعا.
زرع في نفوس أبناء المدرسة التواضع والمساواة، انطلاقا من ذاته حيث كان يشارك نزلاء المؤسسة مأكلهم ومشربهم، كما كان يرفض كل الامتيازات التي تعطى له. كان إنسانا عاديا في حياته مع العلم أنه كان مليونيرا ويقدم مساعدات لصندوق العصبة التي كانت ستوقفمساعدتها للمغرب. وبفضل ضغوطاته استمرت العصبة في تسيير المؤسسة إلى ما بعد وفاته. كان جون يشارك الأطفال أيضا حياته الخاصة كأنه نزيل مثلهم، وكما يشاركهم أنشطتهم ولعبهم. كانوا يقتسمون معه محتويات بيته داخل المؤسسة، بيت مساحته 12 مترا مربعا،كما كان يقتسم منزله بمدينة فاس مع بعض المعاقين الذين ساعد عددا منهم بماله الخاص في تكوين حياتهم في المغرب وخارجه،.
لقد كان دجون يرغب في القيام بالكثير الكثير.. لكن الموت تربّصَ له في حادثة سير أوقفت هذه المسيرة المشبعة بالإنجازات والقيم السامية. لكن صدى جون مازال يصدح في حياتنا التي لا تعترف المستحيل.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…