أن تكون ذكرا وتعشق رجلا ليس بالأمر الهين في وطن لا يسمح بالحب إلا للغيريين، على أن يكون حبا مشروطا بوثيقة الزواج “الكاغيط”.

تذكرت لما كانت أمي تستعد لوضع أختي الصغرى، وهي خجِلة من أن تلد مجددا بعدما أنجبت الكثير من الأطفال. حاولت في أول الحمل أن تجهض لأنها لا تريد أن تربي وترضع وتمسح غائط الأطفال… قصدت طبيبا كانت تتردد عليه لمدة طويلة فكان كل مرة يقول لها اذهبي حتى تتأكدي من أنك تريدين فعلا إجهاض الجنين. أمي لم تعد تقوى على الحمل ويستنزفها جهدا كبيرا. ذات يوم عادت من عيادة الطبيب وقت الظهر. حُمنا حولها أنا وأخواتي نسألها: ماذا جرى؟ قالت: لن أُسقط الجنين.. فقد قال لي الطبيب إن من تريدين إجهاضه من الممكن أن يحرر فلسطين.

لأول مرة أسمع أمي تحكي مثل “أبو علي” وهي تحاول أن تلف الحديث على أنها ستلد مجددا وتقول: الفلسطينيات يلدن كثيرا من أجل دعم المقاومة وكل عائلة فلسطينية على الأقل مات لها شهيد، و نحن وفلسطين شعب واحد وعلينا كذلك أن نحارب الاسرائليين أولاد الحرام، بدلا من أن نترك الفلسطينيات يلدن ويموت أبناؤهن… فعلا أجد كلام الطبيب حكيما، وأن من ببطني يمكنه أن يحرر  فلسطين.

وُلدت أمي بعد 14 عام من النكبة الفلسطينية (يا الله حسبتها) وطول حياتها كانت فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني ولم تكن تفكر في تحرريها. كانت تتذكرها فقط عندما تشاهد أطفالا يموتون، وكل ما كانت تفعله أنها تجهش بالبكاء. كل ما قدمته أمي لحق العودة هي الدموع. لكن أنا متيقن من أن أمي لا تهتم لأمر تحرير الشعوب. أظنها فقط خافت أن تفقد حياتها وهي بغرفة عمليات الإجهاض السرية أو ربما خافت أن يلاحظ أبي التعب باديا عليها  وعواقب أن تقول له: لقد أجهضت.

أصبحت بالبيت طفلة جديدة ولكي نسجلها بدفتر الحالة المدنية كان على أمي أن تحضر أوراق عقد الزواج ولكنها لا تعرف مكانها وربما ضاعت بين أوراق الكهرباء والماء والتلفون وكنانيش أبي وأوراق الطبيب.. رافقتها إلى أحد العدلين الذيين عقدا قرانها كي يستخرج لها نسخة جديدة من “عقد النكاح” (هكذا يسمونه) بعد خمسة وعشرين عام على زواجها من أبي. سلمَته نسخة غير أصلية من “عقد النكاح”، ومائتي درهم تجمعت لها من هدايا نساء الحي اللواتي كان من عادتهن أن يجمعن بعض المال للنفساء والمريضة ومن زوّجت إحدى بناتها…

أشكال التضامن هاته  كانت تجسد جزءً من حياتنا كحيٍّ متلاحم. أتذكر “جْميعة مرات العساس”، مرة جمع ساكنو الحي لها ثمن اقتناء كبش عيد الأضحى. كانت جميعة امرأة سمينة، ولو أنها كبيرة في السن فقد كان المخاط ينزل دائما من أنفها كطفلة بلهاء. كانت جميعة فقيرة جدا ولا تملك هي وزوجها شيئا. كان زوجها حارسا ليليا ولما أصيب بالعمى لم يعد يقوى على حراسة السيارات فانقطع خبزه، وبقي رفقة زوجته جميعة يعيشان على ما يقدمه لهما نساء الحي من طعام.

في هذه الوقت كان يدرس معي حمزة. كان يفرق مسكنه عن حيّنا أربعة أحياء. صار صديقا لي وقليلا ما كانت تكون لي صداقات مثل صداقته. كنت أزوره و يزورني كل يوم. يمر علي لنذهب للإعدادية معا، نتغذى في بيته، فقد كانت أمه ترفض أن يزوره الأولاد إلا أنا لأنه قال لها إنني أدرس بالجامع وأني أحفظ بعضا من القرآن. كان حمزة يجعلني أشعر بأني لا أمشي مع صديق عادي، كنت أقلق لما لا يأتي للقسم أذهب مباشرة بعد الدرس أسأل عنه. لم أكن أجد أية أهمية لوجودي بالقسم إذا لم يكن حمزة موجودا به.

السادسة مساءً، دق الجرس فخرجنا من القسم، لكن اليوم كان أحدهم ينتظر حمزة، إنه أحد أبناء حي كالوجيرا. وجدته يتكلم معه بشكل غريب وكأنه أحد أقربائه المقربين. كنت أحدق به وأنا صامتة أتأمل أمر هذا الشخص وكيف تعرف إلى حمزة. أخد ينتظره كل يوم بباب الإعدادية. صرت أغار من ابراهيم لأني أظن أني أنجدب عاطفيا لحمزة وكان حبي له أحاديا فلم أكن أريده أن يعرفه لأني أخاف أن أفقد صداقته لذلك كنت احتفظ بالسر لنفسي. ولا يهمني إن كان ابراهيم ينوي سرقته مني أو لا.

التعليقات على لم تجهض أمي من أجل فلسطين مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…