فتيحة أعرور
شُيد تاريخ الأمويين بحد السيف وورّثوا هذا المنهج في الحكم لأتباعهم وللأنظمة السياسية التي تلتهم وصارت على نهجهم. فعندما توفي الخليفة معاوية بن أبي سفيان عن سن تناهز 78 سنة، تولى الحكم من بعده ابنه اليزيد بن معاوية الذي رفض عدد من أبناء الصحابة مبايعته، خاصة الحسين بن علي بن أبي طالب الذي توجه إلى العراق من أجل الاحتماء بشيعة أبيه.
لم ينج الحسين بجلده كما اعتقد، فقد أمر اليزيد أمير الكوفة والبصرة، عبيد الله بن زياد، بمحاصرته في كربلاء حيث قتلوا ابنه “عليا الصغير” قبل أن يفصلوا رأس الحسين عن جسده ويسلبوا سراويله وسلاحه ويأمروا بدك جثته دكا، وقد كان ذلك في العاشر من محرم 61 هجرية الموافق لسنة 680 ميلادية. بعد ذلك ستتم إبادة سلالة علي بن أبي طالي من الذكور عن بكرة أبيها وتتبقى منها الإناث فقط منهن ابنته زينب وحفيدته سكينة.
سيتوجه قاتل الحسين إذن إلى فسطاط عمر بن سعد طالبا أن يجازى على صنيعه مناديا:
أوقر ركابي فضة وذهبا أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا وخيرهم إذ ينسبون نسبا
تروي الحكاية أن السيدة زينب أخت الحسين حملت عظما من جثة أخيها إلى أرض مصر ودفنته هناك، وكأنها تأمل في إيجاد قبر رمزي لروحه التي حُرمت من أن يكون لها مزارا إلى حدود اليوم.
لقد توارث الشيعة طقوسا جنائزية تقام في ذكرى مقتل الحسين فيها الكثير من تعذيب الذات والشعور بالذنب على عدم نجدة الحسين والحليولة دون مقتله، وهو ما توارثوه جيلا بعد جيل. وانتقلت هذه الطقوس إلى الأمصار التي انتشر فيها المذهب الشيعي من بينها المغرب، خاصة على عهد الأدارسة والفاطميين.
مازال المغاربة يحتفظون بالكثير من مظاهر التشيع، حتى وإن حاول الحكم طمسها من خلال فرض المالكية كمذهب رسمي لأسباب سياسية، وحتى وإن كان ذلك على حساب حق الناس في اعتناق المذهب الذي اختاروه عن طواعية أو ورثوه عن أجدادهم، بحيث أصبح اليوم شيعة البلد أقلية معزولة ومحاصرة ومتهمة بالعمالة للخارج في الغالب، وكأن نظام الحكم لا يحتاج من حين لآخر إلى تذكير “رعاياه” بأنه يستمد شرعيته من الانتماء لآل البيت الشيعة أصلاً!
في الجنوب المغربي، خاصة في منطقة الريصاني، ما تزال النساء تتشحن بالسواد كما هي عادة شيعة العراق اليوم. وتواصل الأسر هناك ممارسة بعض مظاهر وطقوس التشيع، عن قناعة وفي صمت أو على نحو تلقائي بحكم العادة، رغم تحول العديدين إلى المذهب الرسمي الذي فرضته الدولة، وذلك في مناسبة عاشوراء خصوصا.
وفي قبيلة “بني عمير” بسهل تادلة مثلا، ظل الناس إلى عهد قريب يحيون ذكرى اغتيال الحسين في أيام عاشوراء بطقوس يميزها الحزن والبكاء الرمزي، بحيث تقص النساء خصلات من شعرهن دلالة على الحزن، كما يتناولن عظما ويلبسنه قميصا أبيضا وعمامة ثم يأخذنه للدفن الذي يشرف عليه شاب عازب بالضرورة، وكأنهن بذلك يُقمن جنازة رمزية للحسين كما فعلت أخته زينب حينما دفنت عظما من جسده في مصر… تفعل نسوة “بني عمير” ذلك منتحبات مرددات اللأبيات التالية:
حَيْ بّا عيشوري
حلقت عليك شعوري
قد النخلة قد الأشكال
قد الموت الغرارة
قد الحبال الجرارة
شوف البغلة ومدى جرات
حتى لسهول الشاوية
حَيْ بّا عيشوري…
يرافق هذا الطقس توزيع الماء في جرار خزفية وكأنهن تستحضرن بذلك روح الحسين العطشى لما منع عنه جند عبيد الله بن زياد الماء.
إن نظام الحكم في المغرب، حتى وإن لجأ إلى فرض مذهب ودين واحد على حساب تعدد المذاهب والأديان الأخرى، وحتى وإن حاول طمس حقائق التاريخ والتضييق على الأقليات وتكفيرها، حماية لمصالحه، فإن التاريخ القريب ومظاهر وطقوس المعيش اليومي ما تزال تشهد على أن المغاربة كانوا في معظمهم شيعة قبل أن يُجبَروا على اعتناق المذهب السني المالكي، دون أن ينسلخوا عن هويتهم الشيعية المترسخة والتي اختارها أجدادهم وجداتهم عن طواعية مع مجيء إدريس الأول، هذا الأخير الذي نشر المذهب الشيعي دون عنف ولا قتل كما فعل ورثة اليزيد بن معاوية، وبذلك تكون هوية المغاربة وتاريخهم متعددي الأبعاد وعصيين على الطمس والتزييف.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…