بمناسبة الذكرى 30 لوفاة الفيلسوف والأديب الفرنسي جون بول سارتر (21 يونيو 1905 باريس – 15 أبريل 1980 باريس) نعيد نشر مقال مهم للمعلم الكبير عبد السلام بنعبد العالي، كان قد كتبه في 2005 بمناسبة مرور 100 سنة على ولادة سارتر، وتطرق فيه إلى علاقة فيلسوف وأديب فرنسا المثير للجدل بالعرب والثقافة العربية.

لعل أول قضية ينبغي طرحها بهذه المناسبة هي التساؤل عن مبررات الاحتفاء بهذه المئوية. فقد يعترض بعضنا متسائلا لماذا لم نلتفت، منذ التسعينيات من القرن الماضي، إلى مفكرين عظام تفصلنا عن ميلادهم أو وفاتهم مضاعفات المائة شأن ديكارت الذي خلد العالم ذكرى مرور أربعة قرون على ميلاده، أو كنط، الذي ودعنا قريبا ذكرى مرور قرنين على رحيله، أو نيتشه، الذي يفصلنا عنه قرن من الزمان…فلماذا يحظى سارتر وحده بهذا الاحتفاء؟ رغم وجاهة هذا الاعتراض، ومهما اختلفنا حول قيمة فكر سارتر فإننا لا نستطيع أن ننكر أن الرجل تمتع عندنا بحضور قوي خلال فترة لا يستهان بها. وقبل أن نتساءل عن طبيعة ذلك الحضور، لنقل أنه شكّل، وربما أكثر من كل هؤلاء الذين ذكرناهم، جزءا من تراثنا الفكري المعاصر. ربما لا يرجع الأمر بالضرورة إلى سارتر نفسه، وربما يعود، في نهاية التحليل، إلى دار النشر التي روجت له وأعطته وجودا “حقيقيا” في اللغة العربية والعالم العربي. ومهما كانت الأسباب فان المرء لا يستطيع، بأية حال من الأحوال، أن يؤرخ لفكرنا المعاصر، بل ربما لحياتنا الثقافية والأدبية والسياسية كلها، من غير أن يذكر سارتر ومن اقترن به.​

سيكون علينا بطبيعة الحال أن نبرر هذا الزعم ونثبت حدوده خلال هذا العرض، لكن ربما وجب علينا في البدء أن نحدد العنوان ونتساءل عن هذا ال»نحن« المتسائل عن علاقته بسارتر. فلنجب على ذلك توا وسلبا ولنقل إننا لا نقصد به معنى قوميا أو أية خصوصية منغلقة، وإنما فضاء تاريخيا أصيلا un lieu historial لا ينغلق على ذاته وإنما يرتمي في فكر كوني ويتحدد بعوامل متشابكة لعل أهمها عامل اللغة من حيث هي خزان فكري يحدد، في ثرائه وفقره، مدى قدرتنا على الاستجابة إلى المعاصرة.​

و لكن، كيف يمكن لإحياء الذكرى أن يكون استجابة إلى المعاصرة؟ هل يتم ذلك باسترجاع القضايا التي طرقها المفكر للبحث عما إذا كان لها امتداد في حاضرنا؟ هل يقتضي الوقوف على التأثيرات وتقصي الآثار؟ أم يتعلق فقط بإثبات قيمة واعتراف بدين؟

للإجابة عن هاته الأسئلة ربما اقتضى الأمر أن نقف عند لفظي الذاكرة والذكرى اللذين تعودنا أن نربط بينهما وأن نعلقهما بنمط واحد للزمان هو نمط الماضي. ولا بأس أن نستأنس هنا بإشارة لهايدغر طالما رددها في عديد من محاضراته يؤكد فيها أنه»في البدء لم يكن لفظ ذاكرة ليعني القدرة على إحياء الذكرى واسترجاع الماضي«. إن ذلك اللفظ يحيل »إلى النفس بكاملها كاستيعاب باطني دائم لكل ما يخاطب الإحساس بكامله. الذاكرة في أصلها هي الحضرة بالقرب من … هي أن نظل مشدودين إلى.. لا إلى الماضي وحده، وإنما إلى الحاضر، وكل ما سيأتي. إن ما مضى وما هو حاضر وما سيأتي، كل هذا يلتقي في وحدة الحضرة التي تتخذ كل مرة، طابعا خاصا.«

في هاته الحضرة إذن لا يجثم علينا الماضي بكل ثقله، وإنما ينفجر اندفاعة نحو المستقبل، أو لنقل إننا لا نحيي الماضي هنا إلا لنبتعد عنه. الحضرة إذن ليست حضورا وامتلاء وإحياء ووصلا واتصالا، وإنما هي كذلك، وربما أساسا، غياب وابتعاد وانفصال.

ليست الذكرى فحسب مناسبة استرجاع وربط للصلة، وإنما هي كذلك مناسبة انفصال وتجديد للانفصال، إنها ليست مناسبة إحياء، فقد تكون أيضا، وربما أساسا مناسبة دفن جديد.

على هذا النحو ينبغي أن نتساءل، بمناسبة هاته المسافة الزمنية التي تبعدنا عن سارتر، عن المسافة المعنوية التي أصبحت تفصلنا عنه. ولعل هذا هو ما يبرر رجوعنا فيما سيتلو إلى أسماء عاصرت سارتر وتعلمت منه ومعه، إلا أنها انفصلت عنه ك ر .بارط وم . فوكو ول. ألتوسير وب. بورديو… ونحن نعتقد أن هذا هو السبيل لإحياء ذكرى سارتر، ولعله أفضل السبل وفاء له. ألم ينعت سارتر بأنه فيلسوف الانفصال؟ Le philosophe de la rupture ألم تكن فلسفته، وربما حياته سلسلة من الانفصالات: الانفصال عن برغسون، عن جيد، عن النزعة الفردانية اللا انسية، عن الحزب الشيوعي، عن مالرو، عن ميرلوبونتي، عن كامو…؟.

حتى نثبت الانفصال وحتى نمارسه ينبغي أن نحدد طبيعة الحضور الذي كان لسارتر بيننا. وهنا أستسمحكم بالمجازفة بهذا الحكم الذي لا شك أنه سيكون في حاجة إلى إثبات وتحديد، وسأبادر إلى القول بأن سارتر لم يحضر بيننا فيلسوفا.

تقتضي منا هاته العبارة بعض التوقف لتحديدها واستخلاص معانيها.

المعنى الأول أن سارتر لم يقرأ عندنا فيلسوفا. فأضاف إلى محاولاته الأولى حول تعالي الأنا والخيالي والتخيل ونظرية الانفعال، فان الوجود والعدم ونقد العقل الجدلي لم يجدا صدى كبيرا عندنا. فعدا بعض الصفحات حول النظرة والآخر، وعدا مقدمة الكتاب الثاني التي نشرت مستقلة تحت عنوان »قضايا منهج«، لم يكن لسارتر الفيلسوف بيننا قراء. وربما لم تتجاوز قراءاتنا لفلسفته محاضرته العمومية عن »الوجودية نزعة انسانية«، ومقدمة كتابه في الانفعال، ومقدمة نقد العقل الجدلي، وصفحاته عن النظرة.

بيد أن هذا الغياب لا يقتصر على مدى رواج فلسفة سارتر في سوق القراءة، وإنما يتعداه إلى برامجنا المدرسية بل يطال حضوره عند مفكرينا. وهنا لا بد أن نقف عند شهادة دالة ونعرض لما كتبه المرحوم عبدالرحمن بدوي قائلا: »لم أكن أعرف لسارتر قبل 1945 أية علاقة بالوجودية، لقد قرأت له قبل ذلك كتابه الأول في علم النفس وعنوانه التخيل… وآخر كتاب لسارتر في الوجودية هو الوجود والعدم، ولما قرأته وجدته بعيدا كل البعد عن وجودية هايدغر، وخليطا من التحليلات النفسية. ومنذ قراءتي له لم أشعر نحو سارتر بأي تقدير من الناحية الفلسفية وعددته مجرد أديب«.(1)

لقد اعتبر البعض كلام المرحوم بدوي هذا عدم اعتراف بالدين، هذا إن لم ينظر إليه على أنه علامة على اعتداد بالنفس. لكن ربما أعدنا النظر في هذه الأحكام المتسرعة إن ربطناها بما كتب عن سارتر الفيلسوف في موطنه. أليس ما كتبه ألتوسير، على سبيل المثال، أشد قسوة مما قرأناه الآن؟ يقول الفيلسوف الماركسي: »لم يفارقني الاعتقاد بأن سارتر، ذلك المفكر اللامع، صاحب »الروايات الفلسفية الضخمة« مثل الوجود والعدم أو نقد العقل الجدلي، لم يفهم شيئا لا فيما يتعلق بهيجل أو ماركس، وبالأولى ما يتعلق بفرويد«.(2)

و حتى الذين لم يذهبوا هذا المذهب ليعتبروا أن كتابات سارتر الفلسفية »مجرد تحليلات نفسية« أو »روايات فلسفية ضخمة«، فإنهم صنفوه ضمن التراث التقليدي للفلسفة. فهذا هايدغر يكتب في الرسالة في النزعة الإنسانية سنة1947 بأن الأمر يتعلق »بلغة جديدة داخل ميتافيزيقا تقليدية«.(3) وهذا فوكو يضع سارتر الفيلسوف ضمن ممارسة غدت متجاوزة، يقول: »لقد ولى العهد المجيد للفلسفة المعاصرة، عهد سارتر وميرلوبونتي حيث كان يطلب من النص الفلسفي، من النص النظري، أن يجيبك ما الحياة وما الموت؟ … ما الحرية؟… وماذا ينبغي القيام به في الحياة السياسية؟ وكيف ينبغي أن نتصرف إزاء الآخر؟.. يظهر الآن أن هذا النوع من الفلسفة لم يعد يجري به العمل، وأن الفلسفة، إن لم تكن قد تبخرت، فهي قد تشتتت وتبعثرت«.(4)

ما يأخذه هؤلاء على سارتر اذاً أنه لم يقف على مواطن الحداثة الفلسفية، وأنه كان لا يزال يؤمن بإمكانية التعبير عن تعقد العالم عن طريق منظومة من المفاهيم المجردة، كان لا يزال يزعم تحديد معنى الوجود، وتعيين بنية الكائن البشري، وإدراك معنى التاريخ.

بل إن من المعاصرين أمثال دريدا من ينظرون إليه على أنه ظل ميتافيزيقيا غارقا في نزعة إنسانية، وانه ظل بعيدا عن الحداثة الفكرية، ولم يخرج عن ميتافيزيقا الذاتية وفلسفات الكوجيطو.(5)

لا شك أن في هاته الأحكام شيئا من القسوة، إن لم نقل من التجني. فهي لا تأخذ بعين الاعتبار مساهمات سارتر الهامة في المجال الفلسفي، ولعل أهمها محاولته فتح الفلسفة الفرنسية، التي كانت غارقة في البرغسونية والكانطية الجديدة، على مكتسبات التحليل الفينومينولوجي. ويكفي أن نذكر هنا نصه الأساس في »مفهوم القصدية عند هوسرل« حيث يعيد النظر في مفهوم الوعي ويجعله »ليس شيئا آخر غير ما فيه خارج، غير هروبه الدائم ورفضه أن يكون جوهرا«(6)، وكذا كتيبه الطريف حول تعالي الأنا(1936) حيث لا يقدم الأنا كقوة توحيدية ولا يكون له وجود إلا في المستوى الانعكاسي التأملي، إذ أن الوعي الانعكاسي هو الذي يشكل الوجود من أجل ذاته فيحول دون أن يظل الوعي »حقلا متعاليا بدون ذات«. ولابد أن نذكر هنا أيضا الأهمية التي أعطاها سارتر لمفهوم المشروع والخروج والارتماء في المستقبل في تحديده لزمانية الوجود من أجل ذاته، وكذا مفهومه عن الحرية التي جعلها مرتبطة ببنية الوعي ذاتها، فجعل الانسان يبتدع ذاته. وكلنا يذكر العبارة التي طالما رددها أخذا عن لوكيي من أن الإنسان »يكون ما ليس هو، ولا يكون ما هو عليه«.

قد يقال إن هاته الحدوس لم تستطع أن تقف على الهزة الفكرية التي ستتبلور في نهاية الستينيات، لذا فان حضور صاحبها قد ظل باهتا في هذا المجال. وعلى رغم ذلك، ومهما قلنا عن فلسفة سارتر، فنحن لا نستطيع أن ننكر ما كان لسارتر الفيلسوف من بالغ الأثر في تغيير مفهومنا عن الفلسفة، فمعه لم تعد الفلسفة بالضرورة تأريخا للفلسفة، ولم تعد بالأولى عملا أكاديميا، و»معرفة« فلسفية. لقد رسخ سارتر صورة جديدة عن الفلسفة، بحيث لم تعد فضاءاتها هي رحاب الجامعة، بل إنها لم تعد معه اختصاصا ووقفا على نخب. ولعله، من بين الفلاسفة الفرنسيين، أول من ردم الهوة التي ظلت لوقت غير قصير تفصل الفلسفة عن الأدب، وتحبس الأجناس الأدبية داخل أسوار منغلقة.

لعل هاته الجدة هي ما جعلت جيل دولوز، أحد كبار فلاسفة فرنسا المعاصرين، بل ربما أكبرهم على الإطلاق، يكتب معترفا بدينه لسارتر: »لقد كان معلمي«.(7) بل لعلها هي ما جعلت رولان بارط ، رغم انتقاداته المعروفة لفيلسوف الالتزام، يكتب: »لقد كان لقائي مع سارتر ذا أهمية كبرى بالنسبة إلي. كنت، لا أقول أعجب، إذ ليس لهذه الكلمة معنى، بل كنت أرتج وأتحول وأوخذ، بل إنني كنت أحترق بكتاباته ومحاولاته النقدية«.

لا يعني هذا مطلقا أن بارط لم ينفصل عن معلمه. بل إننا يمكننا أن نذهب حتى القول بأنهما ينتميان ثقافيا لجيلين متعارضين: الأول للجيل الوجودي الذي كان يعتقد أن الإنسان هو الذي يخلق المعنى، بينما الثاني للجيل البنيوي الذي يعتقد أن المعنى يحصل ويجيء إلى الإنسان ويقتحمه.

فرغم أننا نجد عند بارط ، كما هو الشأن بالنسبة لسارتر، الرغبة نفسها في التوفيق بين التاريخ والحرية، والنفور ذاته من الإيمان الفاسد وسوء الطوية الذي ينطوي عليه الأدب البرجوازي الذي يستكين إلى »الخمول الثقافي« ، ورغم أن بارط يعتقد أن بامكان السيميولوجيا أن تعمل على إنعاش النقد الاجتماعي »فتلتقي مع المشروع السارتري«، ورغم أن بارط يبدي إعجابه بمفهوم الالتزام، إلا أنه لم يكن قط ليطيق لغة النضال التي لم يستطع سارتر أن يحيد عنها. ويكفي دلالة على ذلك أن نتذكر ما قاله هذا الأخير عن فلوبير مثلا حينما اعتبره »مسؤولا عن القمع الذي أعقب الكمونة لأنه لم يكتب ولو سطرا واحدا للحيلولة دونه«.

لقد كان بارط يعتقد أن الأدب لا يمكنه أن يعالج إلا اللغة، وبالتالي فان الالتزام لا يظهر فيه إلا عبر الكتابة.ذلك أنه يميز بين: 1- اللغة التي هي منظومة من القواعد والعادات التي يشترك فيها جميع كتاب عصر بعينه.

و بين 2-الأسلوب الذي هو الشكل، ما يشكل كلام الكاتب في بعده الشخصي والجسدي.

ثم أخيرا 3-الكتابة التي تتموضع بين اللغة والأسلوب وعن طريقها يختار الكاتب ويلتزم. الكتابة فهي مجال الحرية والالتزام. »اللغة والأسلوب قوى عمياء، أما الكتابة فهي فعل متفرد تاريخي. اللغة والأسلوب موضوعان، أما الكتابة فهي وظيفة. إنها العلاقة بين الإبداع والمجتمع، وهي اللغة الأدبية وقد حولها التوجيه الاجتماعي، هي الشكل وقد أدرك في بعده الإنساني وفي ارتباطه بالأزمات الكبرى للتاريخ«.

ما يقوله سارتر عن الأدب يقوله بارط عن الكتابة. لكن بينما يربط الأول الأدب بالالتزام السياسي للكاتب والمحتوى المذهبي لعمله، فان الثاني ينفصل عن معلمه معلنا »أن قدرات التحرير التي تنطوي عليها الكتابة لا تتوقف على الالتزام السياسي للكاتب، الذي لا يعدو أن يكون إنسانا بين البشر، كما أنها لا تتوقف على المحتوى المذهبي لعمله، وإنما على ما يقوم به من خلخلة للغة«. هذه الخلخلة لا تعني سارتر البتة ما دام يرى أن الناثر »هو دائما وراء كلماته متجاوزاً لها ليقرب دوما من غايته في حديثه«.

هل يعني هذا أن نظرية الالتزام السارترية لم تعد ذات جدوى؟ يبدو هنا أن ما قلناه عن سارتر الفيلسوف يصدق عن سارتر الملتزم: فكما أن حضور سارتر الفيلسوف بيننا لم يكن حضورا لفلسفة، فكذلك الشأن بالنسبة للالتزام، انه لم يحضر عندنا كنظرية، بل ربما كان الأمر كذلك حتى عند صاحبه، إذ يبدو أن الالتزام لم يكن في حاجة إلى تنظير عند سارتر. فهو يقول »إن الحرب علمتني أن ألتزم«، و»اننا محكوم علينا بالالتزام«. إننا منضوون شئنا ذلك أم أبيناه.

ليست نظرية سارتر عن الالتزام هي التي كانت ذات أهمية بالنسبة إلينا، بل انضواء سارتر نفسه. لقد شكل سارتر بالنسبة لجيل بكامله نموذج حياة، أو على الأقل نموذج المثقف. وكان من بين الأوائل الذين نبهوا أن الأدب سياسة وأن الثقافة التزام، ولا أحد يمكن أن ينكر أن مثقف الستينات عندنا لم يكن ليلجأ إلى مفهومات اللاشعور والايديولوجيا لتحليل واقعه الفكري، بل إلى مفهوم الالتزام وإلى فلسفة ضمنية عن العمل ومفهوم خاص عن الحرية، كما أنه لم يكن ليتخذ لينين أو تروتسكي نموذجا تاريخيا، بل كان يكتفي بفرانز فانون ونيزان وسارتر نفسه ليقف إلى جانب المظلومين و»المعذبين في الأرض«.

وعلى رغم ذلك فلم يمدنا سارتر بنظرية كافية عن المثقف. وربما لأن ذلك كان يستلزم إعادة نظر في مفهومات لن تتبلور إلا فيما بعد كمفهوم السلطة وعلاقتها بالمعرفة، وكل ما سيسفر عنه البحث في ما سيسمى »الاقتصاد السياسي للحقيقة«.

ومهما كان الأمر فإننا لا نستطيع أن ننكر أن سارتر استطاع »أن يناضل من أجل الحرية الشخصية، ومن أجل الثورة الاجتماعية« في الوقت ذاته(8)، وتمكن من أن يجسد موقفا يزاوج بين لامعقولية التاريخ وضرورة العمل، بين عبث الوجود والمسؤولية الأخلاقية، بين »قوة الأشياء« وقوة الكلمات، فحاول أن ينقذ الإنسان من الغرق في بحر التاريخ الذي عينته الفلسفات الجدلية.

كان سارتر يقدم وجوديته على أنها محاولة لإنعاش الماركسية وإيقاظها من سباتها الدوغمائي. ذلك أن الماركسية ظلت في نظره هي »الفكر الذي يهيمن على عصرنا ويفهمه ويعبر عنه«، إنها »ليست إلا التاريخ وقد وعى ذاته«، وهي »الأفق الفلسفي لزماننا الذي لا يمكن تجاوزه«. ورغم ذلك فان إنعاش الماركسية عنده لم يتجاوز تطعيمها بمقولات من شأنها أن تفتحها على الحرية والجواز، وتقحم الذاتية في صميم الحركة الجدلية. لقد ظل سارتر عاجزا عن خلخلة حقيقية للماركسية التقليدية، بعيدا عن إعادة قراءة نصوصها على ضوء مستجدات الأبحاث الابستمولوجية والأنتربلوجية والتحليلية، وكل تلك الأدوات التي سيتسلح بها الجيل الذي عاصره وأعقبه مباشرة أمثال ألتوسير وكانغيليم وفوكو… وكل أولئك الذين لم يتجاهلوا قط منجزات الابستمولوجية الباشلارية التي مكنتهم من الوقوف على »الروح الجديدة« التي نفخت في مختلف العلوم، وجعلتها تقول لا للفلسفات التقليدية وتخلخل العقلانية الثاوية وراءها.

هذا الانفتاح هو الذي سيسمح لألتوسير مثلا لا بالاكتفاء بتطعيم الماركسية بمقولات جديدة، وإنما بإعادة النظر في مفهوم التناقض ومراجعة علاقة الماركسية بالنزعة التاريخية والنزعات الإنسانية وفلسفات الوعي. وهذا أيضا ما سيسمح لفوكو أن يربط بين نيتشه وماركس وفرويد ليرى فيهم جميعا، لا مؤولين جددا للعالم، بل أصحاب نظرية جديدة في التأويل(9). وهذا أيضا ما سيسمح لبلانشو ودولوز أن يعيدا النظر في مفاهيم الاختلاف والآخر والتناقض والجدل ليحررا السلب من هيمنة الكل وليحولا دون توقيف عمله بفعل أي تركيب.

لقد ظل سارتر يتجاهل مخاضا فكريا سيعطي أكله مع هؤلاء، فهو لم يلتفت قط إلى باشلار الذي أصدر كتابه الهام في »المادية العقلانية« في السنة نفسها التي ظهرت فيها رواية الغثيان، ولم يلتفت الى هيبوليت الذي كان يمهد في دروسه لخلخة مفهوم الجدل، ولا إلى كتابات بلانشو وباتاي..بل انه لم يول أهمية لمدرسة الحوليات ولا حتى إلى نيتشه الذي»لم يمثل بالنسبة إليه شيئا«على حد تعبيره.

هل كان بامكان سارتر ، والحالة هذه أن يجدد الماركسية؟ لكن مهما كانت مآخذنا على »ماركسية« سارتر، إلا أننا لا نستطيع أن نذهب حتى إنكار مفعولها العملي، فهي التي أمدت صاحبها بقوة العمل ودفعته إلى اتخاذ مواقف لا يمكن للتاريخ المعاصر أن ينساها سواء ما تعلق منها باستعمار الجزائر أو بحرب فيتنام. لنقل ما شئنا عن فهم سارتر للماركسية لكننا لا نستطيع أن ننكر الدور الذي لعبته »مواقفه« في دفع جيل بكامله نحو العمل والانضواء في التاريخ.

هاهنا أيضا لم يكن لنظرية سارترالماركسية أهمية بقدر ما كان لسارتر نفسه أهمية بالنسبة للماركسية وبالنسبة إلينا. فقد حال بيننا وبين التقليد، وصاننا ضد التوتاليتارية الفكرية وعقمنا ضد كل ماركسية وثوقية.

و بعد… ها أنتم ترون أننا لم نستطع أن نبرر حضور سارتر القوي بيننا بالرجوع إلى فلسفته أو نظريته عن الالتزام وعن دور المثقف أو فهمه للماركسية، بقدر ما استطعنا ذلك بالرجوع إلى الرجل نفسه وإلى »مواقفه«. لقد تبينا أن سارتر هو بالنسبة إلينا »مواقف« أكثر منه فلسفة ونظريات. فما الذي سمح بهذه »المواقف«؟ وكيف أمكن ظهور هذا المثقف الكلي الذي كان له حضور كبير وعلى جميع الواجهات؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. ونحن نلح هنا على ذكر علم الاجتماع إشارة إلى أن الأمر يتعلق في نظرنا بظاهرة يمكن أن نسميها »الظاهرة السارترية«.

يرى بورديو أن سارتر تمكن من أن يصبح »بؤرة« يتجمع عندها مختلف العناصر التي كانت تشكل الشخصية الاجتماعية للمثقف التي ظهرت معالمها مشتتة مبعثرة فيما قبل. فهو استطاع لمّ هذا الشتات وتجسيد جميع أشكال الحياة التي عاشها المثقفون الفرنسيون كلا على حدة. ولعل هذا ما جعل المثقفين الذين عاصروه، حتى وإن بلغوا مرتبة ميرلوبونتي أو ريمون آرون أو كامو، يبدون، قياسا به، هو المثقف »الكلي« مثقفين »جزئيين«. فان كانوا فلاسفة مثل ميرلوبونتي، فهم ليسوا نقادا وكتاب مسرح أوسيناريو أو رواية، وان كانوا كذلك مثل كامو فهم ليسوا فلاسفة، وإن كانوا علماء اجتماع أو مفكرين سياسيين مثل آرون، فهم ليسوا ملتزمين ولا علاقة لهم بالنقد والأدب. أما سارتر، فكان كل هذا، بل كان وحده كذلك. لذا استطاع أن يبقى على منتصف الطريق، بين الارتباط والاتصال، وبين القدرة الدائمة على الانفصال، بين الالتزام الحزبي وبين الحرية. لقد استطاع أن يكون ثوريا على طريقته، ثوريا »نظيف الأيدي«، ثوريا من دون أن يحيد عن »دروب الحرية«. و»هذه المسافة التي فصلته عن كل المواقع الجاهزة وكل من يحتلونها، سواء أكانوا شيوعيين منضوين تحت مجلة »النقد الجديد«، أو كاثوليكيين، تحت مجلة »الفكر«، هذه المسافة هي التي حددت »المثقف الحر«. وهكذا استطاع سارتر أن يحقق إلى أقصى الحدود، وهم وضوح الذات بالنسبة لنفسها، ذلك الوهم الذي يوجد وراء رفض كل التحديدات، والإصرار على إنقاذ المثقف من كل محاولة اختزال سواء برده إلى النوع أو إلى الطبقة«.

نعم، وراء القدرة العنيدة التي كانت لسارتر على الانفصال وهم، إلا أنه كان وهما ذا مفعول حقيقي جعل صاحبه يحضر بقوة، لا بين ذويه ومجايليه، بل بيننا جميعا، حيّا وميتا. ​

———————————-​

الهوامش

(1) بدوي( عبد الرحمن) ص 138.

(2)

Althusser, (L), Lavenir dure longtemps, 1992, p199.

(3)

Heidegger, (M),(( Lettre sur lhumanisme)),

in Questions 3, Gallimard, 1966.

4)

Foucault (M), in Magazine littéraire, mars 1966.

(5)

Derrida (J), Marges, Minuit, 1972, p 137.

(6)

Une idée directrice dans la phénoménologie de Husserl: l Sartre,

intentionnalité , Situations 1, Gallimard, 1974, pp31- 35.

(7)

Deleuze (G),))il a été mon maître , in L île déserte et

autres textes, minuit, 2002, pp109-110

(8)

Sartre, Situations2, Gallimard, 1976, p .298

(9)

Foucault (M), Nietzsche, Freud, Marx , in Nietzsche,

Colloque de Royaumont, Minuit, 1967.​

التعليقات على سَارتر والثقافة العربية​.. بمناسبة الذكرى 30 لوفاة فيلسوف وأديب فرنسا الكبير مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…