عبد الله الجباري

استقر العمل الفقهي منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم إلى اليوم، على إعطاء الورثة بالفرض أنصبتهم، وإعطاء ما بقي – إن بقي – للورثة الأقربين الذكور، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : “ألحقوا الفرائض بأهلها، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر”،

هذا الحكم، أثار ويثير حفيظة كثير من المهتمين بقضايا المرأة وحقوق الإنسان في عصرنا ومن قبلهم. بدعوى تغيرات المجتمع، ومشاركة المرأة العاملة في إعالة الأسرة، ويضيف هؤلاء بعض التوابل لدغدغة العواطف، فيوردون أمثلة، مثل :

مات رجل، وترك دارا للسكنى، وترك بنتا وابن ابنِ عم بعيد جدا، لا يتصل بالهالك ولا يكاد يعرفه، ثم بعد الوفاة، يأتي عند بنت المتوفى، ويشاركها العقار المتروك.

ولتليين المشاعر، يستعملون عبارات : خروج البنت من دار السكنى – الظلم – الاضطرار إلى البيع لحل المشكل …

وللمشاركة في النقاش الذي أريد له أن يثار في المغرب مؤخرا، أود أن أنبه إلى أساسيات رئيسة، لا بد من الانتباه إليها :

أولا : نقرر هنا مسألة في غاية الأهمية، وهي أن مجال القانون وقسمة الممتلكات والعقارات يختلف تماما عن مجال الشعر ونظمه، والمسرح وفنونه، وما فيهما من رومانسية وأحلام، فالمجال الأول لا علاقة له بالمشاعر والأحاسيس، والمجال الثاني لا علاقة له بالصرامة والمساطر والشكليات.

ثانيا : تبنى المساطر والقوانين على التجرد والاستقراء والاطراد، والمسائل النادرة لا تبطل القواعد المطردة.

ثالثا : القانون / الفقه يُفترض فيه أنه عادل، ولا نجزم بذلك ولا نقطع به، لأنه في أحيان كثيرة، لا يكون عادلا، وهو ما يعبر عنه البعض بعبارة “القانون هو العدالة الظالمة”، فهل نسمح بناء على هذا الظلم المعترف به بنسف المنظومة القانونية كلها ؟

ومن القواعد المقررة عند العقلاء، قولهم : لا يقضي القاضي بعلمه، ومعلوم أن القاضي قد يحكم في مسألة وهو يعلم يقينا أن حكمه غير عادل، لأنه مقيد بالمساطر وما في الملف من قرائن وحجج، وليس ملزما بالحكم بعلمه، وسبق لقاضي فرنسي أن شهد جريمة قتل، ولما عُرضت القضية عليه، حكم بما في الملف من إثباتات وحجج، وهو يعلم يقينا أن حكمه موافق للقانون، وغير موافق للعدالة.

لذا، فإن إيراد قضايا بعينها لإثبات “ظلم” نظام التعصيب، لا يفيد شيئا في هذا الموضوع، ونتحدى أن يأتي المعارضون بمنظومة بديلة، تحقق العدالة المطلقة، ولا يتضرر منها أي شخص.

أما قضية المشاعر والأحاسيس، فيمكن أن نضيف فيها وإليها ما لم يذكروه، لأن في بعض الأحيان، قد يأتي شخص لم ير الميت طيلة حياته، ولا يعرفه، ويقول للبنت : أنا شريكك في التركة.

ويمكن أن نعتمد على الأحاسيس أيضا، ونقلب المسألة على أصحابها، ولنا أمثلة على ذلك :

الأول : شخص خاصم أباه، وتبادلا الضرب والجرح، وبينهما قضايا متعددة في المحكمة، إضافة إلى قطيعة رحم دامت سنوات، ثم مات أحدهما، فهل يتوارثان أم لا ؟

بالمنطق القانوني الفقهي، يرث أحدهما الآخر. وبمنطق المشاعر والأحاسيس والرومانسية، لا يتوارثان.

الثاني : شخص تزوج بمدينة الداخلة، وأنجب من زوجته بنتا، وبعد سنوات، هجرها، وتزوج أخرى بمدينة وجدة، وأنجب منها ابنا، ثم مات. والبنت لا تعرف أخاها، ولم يسبق لها أن رأته، وبعد مدة، توفيت البنت، فهل يرثها أخوها الذي لم يسبق له حتى التعرف على قسمات وجهها أم لا ؟ وما هو موقف الفقه الرومانسي في النازلة ؟

الثالث : شخص هجر زوجته، وغادر بيت الزوجية دون طلاق، ولا ينفق على زوجته وأبنائه، وتحملت الأم الصعاب في الحياة، واشتغلت، وتملكت عقارا، ولم تطالب بالطلاق طيلة حياتها، وبعد مدة توفيت، ويكون الزوج وارثا. أو يموت هو، فتعتد هي أربعة أشهر وعشرا، ويحرم عليها الزواج أثناء العدة، فما موقف الممثلين والشعراء من هذه النازلة ؟

وهكذا دواليك، يمكن إيراد حالات وحالات تنقض رومانسية وأحلام المطالبين بإلغاء التعصيب بالنفس.

ومن جهة ثالثة، فإنني أرى من المعيب جدا، الحديث عن “الظلم” في الإرث، لأن الظلم لا يتحدث عنه الإنسان إلا بعد أخذ ممتلكاته وما جناه من أموال بعرقه وكد يمينه، أما أن يموت فلان، وتنتقل أملاكه إلى فلان وعلان، فهذا تكرُّم من المشرع وتفضل، فما حصل عليه الوارث فليحمد الله عليه، وما لم يحصل عليه فلا يأسف عليه، وهذا منطق تربوي عميق، يجب أن يستلهمه الرومانسيون قبل الفقهاء والقانونيين، وأن يتحمل الممثلون والشعراء والصحافيون مسؤوليتهم في بلورته في أعمالهم الإبداعية من أجل ترسيخه في أذهان الناس، وقد يتذرع البعض ببعض الدعاوى، مثل مشاركة البنت لأبيها – أو الزوجة لزوجها – في العقار بطريقة من الطرق، وهذه حالة استثنائية، يجب على الأب أن يتعامل معها بمنطق استثنائي، وهو أن يفوت جزءا من العقار أو كله لبنته أو زوجته بطرق متعددة، أباحها له الشرع وأتاحها القانون، ولا ينبغي أن نغير القانون كله بناء على الاستثناء.

نعم، نقر بأن في تطبيق الإرث وتنزيله مشاكل متعددة، فينبغي لنا ألا نخوض معارك دونكيشوطية بعيدة عن جوهر المشكلة.

مثلا : هناك من يموت ويترك بنات صغيرات، ويأتي العاصب ولو كان صاحب حق ضئيل، ويغلق مشاريع الميت ومحلاته وحساباته البنكية، إلى أن توزع التركة، هذا واقع لا يرتفع، فهل الحل هو إزالة العاصب ؟

مثال عكسي : هناك من يموت، ويترك أبناء، أو أشقاء، فيقوم أحدهم بإغلاق محلات الهالك، وتوقيف جميع المشاريع، والمطالبة بأحسن ما في التركة، ويرفض الآخرون، ويلجون ردهات المحاكم، ويطول مقامهم بها سنة أو سنوات، إلخ. فهل سيكون هذا المشكل – وما أكثره – سببا لحذف الأبناء أو الإخوة عموما من الإرث ؟

هذا نظير ذاك، إذن، ما الحل ؟

الحل في نظري، هو توعية الآباء، خصوصا من لهم بنات صغيرات، وتنبيههم لما قد يقع لبناتهم، وما قد يلحقهن من ضرر، وقد لا يجدن بعد توقيف مشاريعه حتى ما يسدد لهن مصاريفهم الأساسية الضرورية قبل توزيع التركة، ويلفتوا انتباهه إلى ضرورة أن يهب لهن أو يمنحهن شيئا وفق العقود المعروفة قانونا وفقها، وهذا دور الفنانين والصحافيين والشعراء والممثلين.

إن المشاكل موجودة، وكثيرة، وحلّ المشاكل لا يكون بالحذف والإلغاء، بل يكون بالتوعية والتربية،

وهناك مسألة مهمة، وهي أن نيل أبناء العمومة الأباعد نصيبهم في الإرث تعصيبا، لا يعدو أن يكون حالات قليلة جدا، ومتناثرة هنا وهناك، وليست ظاهرة تستدعي إقامة معارك في شأنها.

وبما أن المسألة القانونية خضعت للمنطق الرومانسي، أضع بين أيدي الممثلين والشعراء والصحفيين نازلة مهمة، عسى أن يوقعوا على بيان في شأنها :

مات بائع متجول، وترك في بيت يستغله بموجب عقد كراء زوجةً وثلاث بنات صغيرات، وبعد أقل من شهر، جاء مالك البيت مطالبا الصغيرات بالسومة الكرائية، ومهددا إياهن بالإفراغ . فما رأي أصحاب المذهب الرومنسي ؟

مع العلم، أن هذه النازلة هي التي تعكس واقع المغرب الحقيقي.

التعليقات على عبد الله الجباري يكتب: الإرث بالتعصيب.. بين الفقه والرومانسية ! مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

بايتاس معلقا على ندوة “البيجيدي”: لا يمكن مناقشة حصيلة حكومية لم تقدم بعد

اعتبر مصطفى بايتاس، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان، الناطق ا…