أحمد التوفيق والتسليمة المقدسة
الدكتور عبد الله الجباري
مما تختزنه ذاكرتي من عجائب وزارة الأوقاف المغربية، توقيف نظارتها – أواخر الثمانينيات أو بداية التسعينيات – بمدينة العرائش لإمام أحد المساجد، وهو القرار الذي لم يُرض فعاليات المدينة، ما جعلهم يشكلون لجينة لثني النظارة عن هذا القرار، ووصل بهم الأمر إلى طرح القضية على عامل الإقليم، وما أن فاتحوه في الموضوع، حتى انتفض في وجههم، رافضا ملتمسهم، بحجة أن الإمام يقول: السلام عليكم deux fois.
نعم، قالها بالفرنسية، وقالها بغضب.
منذ ذلك الحين، وأنا أفكر في هذه النازلة، عن سر غضب السيد العامل، عن سر تشبثه بالتسليمة الواحدة، وأطرح السؤال على نفسي: لماذا لا يغضب العامل في الاستغلال غير الرشيد للمقالع التابعة لنفوذه الترابي؟ لماذا لا يتشدد العامل في القضايا المتعلقة بالمال العام؟ هل التسليمة أو التسليمتان أهم من نزاهة الانتخابات؟
لم أجد جوابا عن هذه الأسئلة طيلة هذه المدة، واكتشفته فجأة من خلال الدرس الحسني الذي ألقاه الروائي والمؤرخ أحمد التوفيق أمام الملك مطلع رمضان 1438 هـ (قبل أيام).
ذكر السيد الوزير مسألة “الخروج من الصلاة بتسليمتين” ضمن “المخالفات المذهبية الجزئية”، التي اعتبر ظهورها في المجتمع المغربي بمثابة “الخدوش والنشوزات”، وليته توقف عند هذا التوصيف، بل أضاف مسألة في غاية الخطورة، وهي توصيفه لهذه المخالفات بأنها ذات “خطورة سياسية”.
ولقد كان حريا بالسيد أحمد التوفيق أن يترفع عن مثل هذا الخطاب، لأنه بحضرة الملك أولا، وأمام جمع من علماء العالم ثانيا. والحديث في حضرة هؤلاء يجب أن يصونه صاحبه عن “الخدوش والنشوزات”، احتراما للمقام وللحاضرين.
ولو اتبعنا كلام الوزير المذكور، فإنه يحق للشرطة اعتقال أي شخص يقبض في الصلاة، أو يبسمل فيها، أو يخرج منها بتسليمتين، لما لهذه الأفعال من “خطورة سياسية”.
ولعلي أجزم أن الوزير لا يقصد هذا، ولا يريده، إلا أن تسرعه وتعصبه المذهبي أورداه المهالك.
وبعيدا عن هذا النقاش، يمكن أن نورد ما يبين سنية “الخروج من الصلاة بتسليمتين”، وأنها ليست من “الخدوش والنشوزات” كما ادعى الروائي التوفيق في حضرة الملك.
أولا : الخروج من الصلاة بتسليمتين متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عبد البر (وهو مالكي) : “روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمتين، من وجوه كثيرة، منها حديث ابن مسعود، وهو أكثرها تواترا، ومنها حديث وائل بن حجر، وحديث عمار، وحديث البراء بن عازب، وحديث ابن عمر، وحديث سعد بن أبي وقاص”. (الاستذكار : 1/493)
ثانيا: ضعف أحاديث التسليمة الواحدة.
رويت أحاديث تفيد تسليم النبي مرة واحدة، لكنها أحاديث لا تصح كما قال العلماء أهل الاختصاص، أورد أقوال بعضهم، لأنها أهم من أقوال المؤرخين والروائيين.
• قال القاضي عياض (وهو مالكي) : “اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسليمه من الصلاة، واحدة واثنتين، وأحاديث الواحدة معلولة”. (إكمال المعلم : 2/532).
• قال القاضي ابن العربي (وهو مالكي): “اختلف علماؤنا في صفة السلام من الصلاة، فثبتت عنه في ذلك أحاديث كثيرة، أنه كان يسلم تسليمة واحدة، وهي غير ثابتة”. (المسالك : 2/393).
• قال الباجي (وهو مالكي) : “وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في أنه كان يسلم تسليمة واحدة، وهي غير ثابتة”. وقال عقب إيراد حديث في التسليمتين: “وهذا هو المشهور عنه، الذي لم يُروَ عنه خلافه”.
• قال ابن عبد البر: “روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم من الصلاة تسليمة واحدة، من حديث سعد بن أبي وقاص، وعائشة، وأنس بن مالك، وكلها معلولة الأسانيد، لا يثبتها أهل العلم بالحديث”. (التمهيد : 16/188). ونقله القرطبي (وهو مالكي) في تفسيره مُقِرّاً. (تفسير القرطبي : 1/363). وقال ابن عبد البر أيضا: “وأما حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة، فلا يصح مرفوعا”. (التمهيد: 11/207).
ثالثا : التسليمتان في المذهب المالكي
اشتهر عند متأخري المالكية القول بالتسليمة الواحدة، ومنهم من تشبث بها إلى درجة التعصب، مثل الوزير الروائي، مع أن التسليمتين معمول بهما في المذهب المالكي.
• نقل عن الإمام مالك في المسألة أقوال، منها ما ورد في سماع ابن وهب : يسلم تسليمتين عن يمينه وعن يساره. (التبصرة للخمي: 2/536). وروى ابن القاسم عن الإمام مالك: “من صلى لنفسه يسلم عن يمينه ويساره. وأما الإمام فيسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، يتيامن بها قليلا”، (التمهيد : 11/206)، وهذا تمييز غير معقول، إذ ما الفرق بين من صلى لنفسه، ومن صلى إماما؟ ولعل المشكل ليس في الإمام مالك، بل في ابن القاسم الراوي عنه، وابن وهب أعلم بالسنة، وأحفظ من ابن القاسم، لذا يمكن أن نؤاخذ ابنَ القاسم وننتقده على هذه الرواية، كما انتقده الملك الحسن الثاني في مسألة تغميض العينين في الصلاة، وفي مسألة القبض والسدل.
• قال ابن العربي المعافري: “والذي أقول به: يسلم اثنتين”. (المسالك : 2/396).
فهل يحق للوزير أن يصف سنة متواترة بـ”الخدوش والنشوزات”؟
وهل يجوز له أن يصفها بذلك الوصف رغم أنها ثابتة عن الإمام مالك؟
وهل يحق له الانتصار لرأي والتمسك به، رغم أن أئمة المالكية قالوا بضعف الحديث المستند عليه وعدم صحته؟
نعم، قد يتطوع بعض “العلماء” للانتصار للوزير الضعيف علميا، وينقلوا عن ابن عبد البر ما يفيدهم في الدفاع عنه، وأنا أعفيهم من مهمتهم، وأحفظ عليهم جهدهم، فأورد كلامه والرد عليه بحول الله.
قال ابن عبد البر بعد حديث ابن عمر الذي يتضمن التسليمتين: “وهذا إسناد مدني صحيح، والعمل المشهور بالمدينة: التسليمة الواحدة، وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر”. (تفسير القرطبي : 1/363).
وللرد على ابن عبد البر رحمه الله تعالى، نقول:
• رواة هذا الحديث مدنيون كما قال، وهذه قرينة على أن العمل عندهم هو التسليمتان لا التسليمة الواحدة، وهو ما نعضده بما بعده.
• لم يرو أحد عملَ أهل المدينة بالتسليمتين، فمن أين جاء ابن عبد البر أنها من عملهم المتوارث كابرا عن كابر؟
• جمع العلامة السيد محمد علوي مالكي في كتابه “فضل الموطأ” قضايا عمل أهل المدينة المبثوتة في الموطأ، وصنفها ورتبها، ولم يذكر منها التسليمة الواحدة، مما يدل على أن المدنيين براء مما نسبه إليهم ابن عبد البر رحمه الله.
• على فرض صحة العمل، فإنه يقدّم عند المالكية على الحديث وفق ضوابط وشروط، منها أن يكون الحديث آحادا، أما المتواتر، فلا يقدَّم عليه العمل المدني.
• قد يتمسك بعض “علماء” أحمد التوفيق بما تقرر من جواز العمل بالحديث الضعيف في الفضائل والمندوبات، وهذا صحيح، إلا أنه لا يُلجأُ إلى الضعيف إلا عند انعدام الصحيح، ولم يقل أحد من العلماء بالإعراض عن المتواتر والصحيح والتمسك بالضعيف. وهذا ما انتصر له أحمد التوفيق، فخانه التوفيق.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…