صالح أيت خزانة

هناك شبه لامبالاة، إن لم أقل لامبالاة حقيقية، من هذا الركود السياسي الذي يعرفه المغرب السياسي، كما الاقتصادي، بسبب “البلوكاج” الذي طال أمده، حتى لم يَعُدْ يُثار بالحِدَّة والإصرار الذي كان يثار بهما في خلال الثلاث الأشهر الأولى، إبان حرارة اللقاءات التي كان يجريها السيد رئيس الحكومة المكلف، مع مختلف الفرقاء السياسيين.
فباستثناء بعض القراءات العابرة التي ينخرط فيها المحللون السياسيون، وبعض أساتذة القانون الدستوري، وبعض الصحافيين الذين لا يكفون يبحثون عن الإشارات العابرة التي تصدر عن هذا المسؤول أو ذاك، والتي تحولت هذه الأيام إلى عملة نادرة تتلقفها الصحافة في فرح طفولي، وتنشرها دون أي تعليق، في محاولة لملء الفراغ الإخباري الذي يعرفه هذا الملف؛ لا نكاد نجد في سوق الخبر الوطني ما يميط اللثام عن حقيقة هذا “البلوكاج” الذي تحول إلى أُحْجِيَّة مبهمة، بين مختلف الفرقاء السياسيين فضلا عن الرأي العام المغربي الذي بدأ يتَطَبَّع مع هذه الحال، حتى ما عاد يُعير أيَّ اهتمام للدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الدستورية، خصوصا مؤسستَي الحكومة والبرلمان، بعد أن لا حظ ألا شيء تغير بين أمسِ الحكومة المعيَّنة والبرلمان المشتغِل، ويومِ تصريف الأعمال وعَطالة البرلمان. فالحالتان عنده سيان. مما جعله “يستنتج” أن الحكومة والبرلمان مؤسستان وجودهما كعدمهما، بل عدمهما عند الكثير من عامة الشعب المغربي أفضل، ما دام ملك البلاد يضطلع بأضعاف ما تضطلع به المؤسستان، من إنجازات، وتشييدات، وقرارات استراتيجية،… فلا داعي- زعموا- إلى هذا الإهدار في المال والوقت والجهد!.
وهو منطق، وإن كان فيه شيء من الصواب، وغير قليل من عدم التقدير الموضوعي لدور الدولة بمؤسساتها الدستورية في استمرار الحياة الطبيعية للمواطنين؛ فإن الدافع إليه هو ما يلاحظه المواطن العادي، بعد ما يناهز خمسة أشهر من “البلوكاج”، من استقرار، واستمرار عادٍ للحياة، وغياب أي اهتزازات اجتماعية، أو تمردات سياسية، أو دعوات حقيقية لفك هذا “البلوكاج”، خلا الحراك الاجتماعي العادي الذي يعيشه المغرب قبل الآن واللحظة، والذي استمر منذ 2011. بالإضافة إلى الإثارات العابرة في الإعلام الخاص وفي الصحافة، والإعلام العمومي بشكل أقل، والتي ترِدُ على ألسنة النخبة، وصناع القرار السياسي، ومحللي المشهد السياسي، بلغة خاصة، مشوبة بالكثير من المجاز اللغوي، واللاوضوح القانوني، والقراءات المحتملة التي لا تحسم في شيء، ولا يفهمها أحد، مما يجعلها خارج اهتمامات العامة، بل خارج اهتمامات الكثير من المتتبعين من غير ذوي الاختصاص. بل مما زاد من هذه اللامبالاة، هو صَوْمُ الكثير من المسؤولين السياسيين ممن يهمهم أمر تشكيل الحكومة، عن الكلام، واكتفاؤهم بالتصريحات المقتضَبَة التي تحتمل أكثر من معنىً، وتُحيل على أكثر من سيناريو وحلٍّ، بما فيهم السيد رئيس الحكومة المكلف الذي لا ينفك يخاطب مناضلي الحزب، المتشوقين إلى معرفة جديد المشاورات، بلغة غير مفهومة : “غادي اكون خير”.. “كاينين اشارات مُطَمْئِنة”..” الحكومة ستتشكل قريبا”… إلى غيرها من الإشارات المبهمة، التي تدفع الأتباع الذين أسلسوا القِيَاد للزعيم، وفوَّضوا له الحديث والقرار باسمهم، إلى مواصلة تفاؤلهم بانتهاء “البلوكاج”، وعودتهم إلى دفة الحكم، وتَحَقُّق نبوءة الكثير منهم بالولاية الثانية المؤكدة!.
لقد توزع الناس في تحليل هذا “البلوكاج” إلى مذاهب وفرق؛ بين من يُحمِّل مسؤوليته الكاملة للسيد بنكيران، ويعتبر أن حله بين يديه. وهذا الفريق يعتبر طريقة تدبير السيد بنكيران للمشاورات هي المشكل؛ إذ فيها الكثير من الاستعلاء، والتعجرف، والعنجهية، وعدم الإنصاف في التعامل مع مختلف الفرقاء السياسيين، بتقديمه لفريق وإقصائه لآخر، وتعامله الدوني والاحتقاري مع آخرين، واستعلائه على الجميع بادعائه المستمر أن “الشعب بغانا”، وأننا يجب أن نكون تحت حسن ظنه، تماما كما فعل بعد التصويت على قرار “إفساد” نظام التقاعد حينما شكر، في أول خرجة إعلامية له، بعد انتكاسة الدكاكين النقابية وخذلانها للطبقة العاملة، الشعب المغربي (هكذا!!) الذي تفهم الحاجة إلى هذا الإصلاح ومنحه هذا التصويت!!.
وبين من حمَّل جزءً من هذه الفرملة إلى جماعة العفاريت والتماسيح والسحليات التي تدبر بليل، وتوجه الأحزاب التي لا تملك قراراتها، إلى لعب أكثر من دور، وارتداء أكثر من قناع، في التعامل مع السيد رئيس الحكومة المكلف. وقد ظهر ذلك في التصريحات والقرارات المتباينة حَدَّ التناقض، والتي ظل يدلي بها أكثر من زعيم حزبي، مما يدل على أن ثمة شيئا مَا غير واضح في هذا الخِضَمِّ المُتلاطم، أو ربما هناك شروط غير ظاهرة، أو أجندات غير معلنة، تسعى لتقليم ما بقي للسيد بنكيران من أظافر، قبل تقعيده كرسي رئاسة الحكومة جسدا بلا روح، يوقع، مكرها، على القرارات القاتلة، التي ستنهي حياته السياسية، وحياة حزبه، إلى الأبد.
وهناك من اعتبر هذا “البلوكاج” لا أساس له من الحقيقة، مادام الحاكم الفعلي للبلد هو الملك، وهو المسؤول دستوريا على حسن سير واشتغال مختلف المؤسسات الدستورية بما فيها الحكومة والبرلمان. والحديث عن “البلوكاج” حديث عن قصور في الاضطلاع بهذه المهمة الدستورية، وهو ما لم يقل به أحد.
فالتزام الملك للحياد، لا يمكن أن يستمر إلى ما لانهاية. فالقضية مسألة وقت ليس إلا. إذ انشغال الملك بالشأن الإفريقي، وما لهذا الموضوع من ارتباط بالقضية الوطنية الأولى، وما له كذلك من أولوية وطنية، قد يؤجل كل اهتمامات تدخل في صلب البيت الداخلي، دون أن يوقفها، أو يقفز عليها. فكما اجتمعت الأحزاب الممثلة بالبرلمان بمقر رئيس الحكومة بأمر من الملك، ولم يشذ منها أحد، وكما تم انتخاب رئيس مجلس النواب بحضور كل النواب، وقبل تشكيل الحكومة، لأجل “المصلحة العليا للوطن”، فكذلك ستتشكل الحكومة في الوقت المناسب، بعد أن يَحين دورها في سلم الأولويات الوطنية، وبالطريقة التي سيصفق لها الجميع.
إنه مخاض قد يسفر عن ولادة غير متوقعة، وقد يعيد ترتيب أوراق المشهد السياسي برمته، إذا استمر السيد بنكيران في “رَفْضِيَّاتِهِ”، ولم يقبل بالإذعان لشروط اللعبة في مرحلتها الحاسمة، وظل يعتقد في المعادلة الرياضية 125>20 و125>37 وو… الذي أثبتت انتخابات رئيس مجلس النواب خطأها.
لقد اعتقدنا منذ البداية أن الخوض في السيناريوهات الممكنة، هو خبط في عشواء، وحطب في ليل، لأن السيناريو الذي سيكون حقيقيا هو السيناريو الذي سيُعْلَنُ عنه رسميا يوم تصبح مصلحة الوطن العليا هي الداعي لتجاوز مرحلة التوقف و”البلوكاج”، و يصبح الترفع عن الحسابات الضيقة، والصراعات السياسوية المفتعلة بين مختلف أطراف اللعبة؛ واجب اللحظة، ولازم المرحلة.
دمتم على وطن..!!

 

التعليقات على البلوكاج الحكومي بين الإشارات واللامبالاة مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…