خالد أمزال*
تمت الإشارة في الجزء الأول من هذه الورقة التحليليةّ(*) إلى أن جوهر احتجاجات منطقة الريف التي انطلقت منذ ثمانية أشهر هو سياسي صرف، فالمطالب الاجتماعية تخفي نزوعا شعبيا متناميا -في تلك المنطقة وفي غيرها، بوعي أو بدون وعي- نحو معارضة الدولة في طريقة تدبير السلطة والثروة.
لذلك وبفعل الفهم الخاطئ لدوافع ومحفزات حراك الريف، وتغليب المعالجات الأمنية المفرطة على غيرها من المعالجات، وبفعل الصراع بين أطراف الدائرة الضيقة لصناعة القرار بالمغرب للفوز بحظوة التدبير الحصري لهذه الأزمة، وتسميم المناخ السياسي العام بفعل تدخل السلطات في الحياة الحزبية المتهالكة أصلا، وتلاعبها بإرادة الناخبين، وكذلك الطابع الاستثنائي للاحتجاجات الشعبية بالحسيمة ونواحيها، سواء على مستوى القيادة والأساليب والزخم، بفعل كل هذه العوامل عجزت الدولة عن فك شفرة الحراك الشعبي بالريف، مما جعل معضلة الاحتجاجات تتحول لمشكل مستديم ينذر برياح عاصفة ستضرب استقرار البلاد، وستضر بمؤسسات الدولة، وستعرض السلم الاجتماعي للخطر، خصوصا مع استمرار المعالجات القاصرة لهذه الأزمة.
 في تداعيات أزمة احتجاجات منطقة الريف :
يمكن تشبيه أزمة احتجاجات الريف بتلك الدوائر التي يحدثها إلقاء قطعة حجر في بركة ماء، حيث تتشكل دوائر متتالية، كل دائرة أوسع من التي قبلها، وتساهم كلها في تحريك سطح الماء الذي كان ساكنا قبل ذلك. فالحراك الشعبي بالحسيمة ونواحيها يؤثر مبدئيا على الاستقرار الاجتماعي، الذي يربك بالضرورة الوضع الأمني، فتتعطل الحركية الاقتصادية وتضعف قدرة المنطقة على جلب الاستثمارات، وتصبح السلطات في وضع حرج، فلا هي تنجو من انتقادات الخارج عند التدخل الصارم للتضييق على الحراك، ولا هي تجرؤ على الاستجابة لمطالب الساكنة خوفا من فقدان هيبتها أمام الداخل، ليصبح بالتالي الوضع السياسي هو المتضرر الرئيسي بفعل عجز الفاعلين الأساسيين في معادلة السلطة عن تدبير هذه الأزمة.
وبشكل موضوعي يمكن رصد خمسة تداعيات رئيسية لأزمة احتجاجات الريف، هي أساسا نتاج مباشر لحركية الصراع الدائر بتلك المنطقة :
• الإضرار بصورة الدولة المغربية التي عملت منذ تولي الملك محمد السادس العرش على تلميع نفسها، وتبييض وجه مؤسساتها من سواد سنوات الرصاص وما رافقها من فساد واستبداد، وذلك حتى يظهر المغرب بوجه البلد النامي الذي يسير بثبات في طريق الانتقال الديموقراطي، ويسعى لبناء مجتمع حداثي، ويؤسس لدولة الحق والقانون. كما أن أحداث الريف وضعت فكرة “الاستثناء المغربي” على المحك، تلك الفكرة التي تقدم المغرب كبلد مستقر يعيش وسط محيط إقليمي ملتهب، واستطاع مواجهة رياح “الربيع العربي” دون خسائر تذكر.
فما تعرفه المنطقة من احتجاجات يبدد جزءا ليس بيسير من الرصيد السياسي الدولي الذي كسبه المغرب بفعل المسار الإصلاحي الذي بدأ في أواسط تسعينيات القرن الماضي، ويلحق ضررا بالغا بسمعته أمام الرأي العام الدولي، ويجعله عرضة لانتقادات الخصوم والمتربصين سواء في الجوار الإقليمي أو في القارة الإفريقية، ويتحول لمادة دسمة تنضح بها تقارير المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
• خدش الاحترام الواجب للمؤسسة الملكية بفعل تطاول البعض عليها، وتعرضها في الشهور الأخيرة لانتقادات لاذعة خصوصا من طرف بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي، والذين انزعجوا من إحجام هذه المؤسسة عن التدخل في ملف احتجاجات الريف، فقد تنامت الدعوات الموجهة للملك من أجل إصدار توجيهاته للسلطات حتى يتم حل هذه الأزمة، بل ودعا “ناصر الزفزافي” لحضور الملك شخصيا للحسيمة لكي يستمع لمظلمة الساكنة هناك، باعتباره الوحيد الذي مازال يحظى بثقتهم.
صحيح أن الملك يتمتع بشعبية واسعة لن تستطيع هذه الأزمة ولا غيرها النيل منها، لكن الجديد هو الجرأة على شخصه، والتعامل معه كما لو كان مسؤولا داخل السلطة، يعاتب (بفتح التاء) ويحاسب (بفتح السين كذلك)، مما يدل على أن هناك توجها بدأ ينشأ عند قطاعات من المجتمع لا تُخفي ولا تخاف من نقد المؤسسة الملكية، توجه يعتبر الملك هو المسؤول الأول عن كل الاختلالات التي تعرفها الدولة، ويحمله وحده وزر كل إخفاقات السلطة على مستوى تدبير الشأن العام.
• تآكل ما تبقى من الثقة المهزوزة أصلا في الحكومة الجديدة، فهذه الأخيرة والتي تشكلت في ظرورف استثنائية اتسمت بالتعطيل والالتفاف على نتائج الصناديق الانتخابية، فقدت ومنذ البداية مصداقيتها أمام الرأي العام، خصوصا عندما تألفت من خليط غير متجانس من الأحزاب المشكوك في استقلالية قرارها، واستسلمت لتحكم وتوجيه بعض أجهزة الدولة خلال تأليفها، حتى صارت كما وصفتها بعض التعليقات الساخرة “محكومة” في حين كان يجب عليها أن تكون “حاكمة”.
فاختفاء رئاسة الحكومة وباقي الوزراء خلف وزير الداخلية، بل وتغطية قراراته سياسيا خلال تدبيره الأرعن لأزمة احتجاجات الريف، دليل قاطع على أن الذين جاؤوا بالإرادة الشعبية المعبر عنها انتخابيا، ينصاعون للتدابير المتعنتة واللامسؤولة للقادمين للحكومة بالتعيين، والذين لا يخضعون لأي رقابة شعبية أو محاسبة سياسية، مما ينذر بقرب انتفاء الحاجة للحكومة، وإعلان عجزها سياسيا عن تدبير جزء كبير من الشأن العام، وتحولها لجهاز بيروقراطي تتحكم فيه حصريا قوى من خارج الأجهزة الرسمية للدولة.
• تقوية شوكة الحركات الاحتجاجية عموما وتزايد المتعاطفين معها، وتحولها لبديل شعبي يسد الفراغ الناتج عن انعدام فعالية مؤسسات الوساطة المجتمعية الحالية كالأحزاب والنقابات، وانفصالها عن مطالب وهموم الناس، مع بروز زعامات شعبية جديدة وقيادات سياسية غير تقليدية، بمقدورها حشد المحتجين عن حق أو عن باطل، والدفع بهم نحو معارك عادلة أو مشبوهة.
فاستمرار احتجاجات الريف سينقل الحقل السياسي المغربي، رغم عيوبه الواضحة والفاضحة، من حقل مغلق ومضبوط بمؤسسات وممارسات مقننة، لحقل مفتوح تتحكم فيه التوجهات المتضاربة للفاعلين في ميادين التظاهر، ولينتقل بالتالي الصراع من داخل المؤسسات الرسمية والذي يمارسه عادة الفاعلون المنتمون للهيئات الحزبية والنقابية، إلى حراك شعبي في الشارع العام، يمارسه كل قادر وقادرة على إعلان الرفض والاحتجاج، والنزول للشارع للتعبير عن ذلك، فيصبح هذا الحقل بالتالي مفتوحا على كل الاحتمالات الممكنة، المرغوبة منها والمرفوضة.

• البروز الحاد للنزعة الإثنية الريفية المتمركزة على البعد الجغرافي (منطقة الريف) واللغة الأم (تاريفيت) والهوية الثقافية (الأمازيغية)، سواء كأداة لتمثل الذات وتمييزها عن الآخر، أو كوسيلة لرد الاعتبار والتنابذ مع السلطة ورموزها. الأمر لم يصل بعد للطائفية العرقية التي تهدد تماسك الأمة، وتسعى لفك عرى التضامن المجتمعي القائم على المواطنة، لكن رغم ذلك لم يتورع بعض غلاة الحراك عن ترديد مصطلحات من قبيل “الحكم العروبي” و”الشعب الريفي” و”التعريب الإديولوجي”، بل ودعا آخرون للاعتراف بالريف كأمة وكيان مستقل، والإقرار بحقه في تقرير مصيره بنفسه.
إن لحمة المغرب لن تتأثر حتما بهذه النداءات التي يراها البعض متطرفة، ويراها البعض الآخر تندرج في إطار التعبير عن الرأي، لكن الخطير هو إمكانية انتقال هذه النزعة الإثنية ومثيلاتها لباقي مناطق البلاد، وتحولها (أي هذه النزعة) لحصان طروادة يخفي مطامع الانفصال، المتسترة وراء المطالب المشروعة لجل جهات المغرب، وحقها في التنمية الجهوية والحكم المحلي.

 في كيفية معالجة أزمة احتجاجات منطقة الريف :
هناك معالجتان ممكنتان لأزمة احتجاجات الريف، الفارق الرئيسي بينهما هو في مدى العمق الذي ستصل إليه كل واحدة في مواجهتها لمسببات الحراك بالحسيمة ونواحيها، هكذا يمكن الحديث عن معالجة سطحية وأخرى عميقة، الأولى تواجه أعراض الأزمة وتعمل على التخفيف من الالتهابات وحرارة التوترات، والثانية تتجه نحو الأمراض الناتجة عن الأسباب، وتتدخل حتى جراحيا لمعالجتها.
1- المعالجة بالاحتواء :
وهي المعالجة الأثيرة عند السلطة، والمعتمدة عادة عند مؤسسات الدولة عند مواجهتها للأزمات الناتجة عن حركة الشارع، هنا بمقدور الجهات التي تقوم بتدبير ملف أزمة احتجاجات الريف القيام بإجراءات سريعة وفاعلة تستطيع تخفيف توتر الشارع، وإزالة حالة الاحتقان في أفق إيجاد معالجات أعمق، وذلك من قبيل :
– إطلاق سراح المعتقلين على ذمة أحداث الريف، ووقف المتابعات في حقهم، باستثناء الذين ثبت تورطهم في أعمال العنف والتخريب.
– إعفاء والي جهة طنجة تطوان الحسيمة، والحل القضائي لجميع المجالس المنتخبة بالإقليم، في أفق إعادة انتخابها.
– تأكيد الحكومة في بلاغ رسمي على الإلغاء الصريح لما بات يعرف بـ “ظهير العسكرة”، وعلى أنه قد تم نسخه فعلا بظهير التقسيم الإداري.
– السحب التدريجي للتعزيزات الأمنية المتواجدة بالمنطقة، وإنهاء حالة الاستنفار هناك، والعودة بالوضع الأمني لما كان معمولا به إلى ما قبل تاريخ مقتل “محسن فكري”.
– تحديد المسؤولين عن تعثر مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”، ومتابعتهم قضائيا على تقصيرهم في تنفيذه.
– تسريع وتيرة التنمية بمنطقة الريف بالتركيز على المشاريع ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والاعتماد في تدبيرها على المقاربة التشاركية مع ممثلي الساكنة.
– إنشاء مؤسسة جهوية تعنى بالثقافة الأمازيغية الريفية، وبحفظ الموروث الحضاري للمنطقة، ونشر اللغة الريفية الأمازيغية.
إن الإجراءات الاحتوائية المذكورة سالفا وأخرى مماثلة، بمقدورها العودة بشكل تدريجي لأوضاع الاستقرار السابقة لبداية نونبر 2016، وهي في جوهرها إجراءات توفيقية، تحفظ لمؤسسات الدولة هيبتها، وتستجيب لجزء من مطالب الحراك الشعبي بإقليم الحسيمة.
2- المعالجة بالاستشفاء :
وهي المعالجة التي من غير المتوقع أن تقدم السلطة على تنفيذها، لكونها قد تخل بميزان القوى في الحقل السياسي المغربي، وقد تهدد مصالح بعض النافذين في مؤسسات الدولة، لكنها وبالمقابل تسهم في تحقيق معالجة جذرية لأزمة احتجاجات الريف، وتمنع كذلك بروز أي حراك شعبي آخر في المنطقة مستقبلا، ويمكن اختزال هذه المعالجة في الإجراءات والتدابير التالية :
– إصدار عفو ملكي شامل عن جميع معتقلي حراك الريف، وإطلاق سراحهم بشكل فوري دون قيد أو شرط.
– تمكين معتقلي الحراك من حقهم في المطالبة بجبر الضرر المادي والمعنوي، ومحاسبة جميع المتورطين في شبهة تعذيبهم وإساءة معاملتهم خلال فترة الاعتقال.
– تشكيل هيئة مستقلة للتحقيق في ملابسات مقتل “محسن فكري”، وتقديم جميع المتورطين في ذلك أمام القضاء.
– توجيه الدولة لاعتذار رسمي لساكنة الريف عن كل الانتهاكات التي تعرضت لها المنطقة منذ الاستقلال.
– نقل رفات الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي من القاهرة إلى مسقط رأسه بأجدير، وتنظيم جنازة رسمية له، اعترافا بماضيه النضالي.
– إعفاء جميع الوزراء الذين طالتهم الغضبة الملكية بفعل تأخر البرامج التنموية بالحسيمة، في أفق إجراء تعديل حكومي موسع، يتم فيه استوزار الحزبيين فقط دون التقنوقراط.
– القيام بحملة تطهير واسعة داخل مؤسسات الدولة بأقاليم الريف، عبر إعفاء المسؤولين الجهويين المتورطين في الفساد الإداري والمالي، ومتابعتهم قضائيا على ذلك.
– وضع مخطط تنموي استعجالي لتجاوز الوضعية الهشة لأقاليم الريف، وتوجيه الاستثمارات العامة والخاصة نحوها.
فهذه التدابير مجتمعة ستمكن المغرب من يتجاوز هذه الأزمة، فيشفى جسده العليل من الأمراض الناتجة عنها، ويخرج منها الجميع رابحا، حيث سيربح ساكنة الريف مكتسبات ملموسة ستكون ثمرة الاستجابة للمطالب الأساسية للحراك، كما ستسترد السلطة ثقة الداخل وتحصل على المزيد من تقدير الخارج، لما ستقوم به في سبيل تجاوز الاحتباس المجتمعي بتلك المنطقة، وسيغنم المواطنون عودة الإحساس بالأمن واستدامة الاستقرار، وستفوز الدولة ورموزها أخيرا بشرف تغليب صالح الشعب والخضوع لإرادته على نوازع السلطة وشهوتها.
وفي الختام، وعلى مشارف السطور الأخيرة من هذه الورقة التحليلية، من المفيد القول إنه في حال تماطل مؤسسات الدولة في معالجة أزمة احتجاجات الريف، أو تقاعسها عن إيجاد السبل الكفيلة بتجاوزها، أو الاستمرار في الاعتماد على المقاربة الأمنية، فإن المغرب سيكون على حافة وضع غير مسبوق، سيهدد لا محالة استقراره وسلمه الاجتماعي، وسيضعف لحمته الوطنية، وسيضر بوحدة أراضيه، وقد يصبح في حال استفحال الأوضاع وخروجها عن السيطرة، ساحة مفتوحة أمام التدخلات والتجاذبات الإقليمية والدولية.
لذلك من الضروري الإصلاح الفوري للعطل الذي أصاب البوصلة السياسية المغربية، وتوجيهها بشكل رئيسي ناحية تأسيس مشروع مجتمعي حقيقي، تقوده مؤسسات الدولة بدعم من القوى الحية بالبلاد ووفق رؤية تشاركية، ثم الشروع في هيكلة الحقل السياسي في أفق تحقيق ديموقراطية تتماشى والخصوصية المغربية، والعمل على جعل السلطة تتعامل بإيجابية ومسؤولية مع تطلعات المجتمع، وتسعى جاهدة لخدمة المصلحة العامة وتلبية حاجيات المواطنين، ذلك لأن احتجاجات الريف ما هي في الحقيقة إلا ومضة برق تنذر برعد عاصف.

* محلل سياسي

التعليقات على احتجاجات الريف (2) : في تداعياتها وكيفية معالجتها مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

نزار بركة يوجه نداءا للمؤتمرين الاستقلاليين عشية المؤتمر 18 للحزب من أجل “وحدة الصف”