“كيف أصبحت هكذا”

كل إنسان له اختيارات في الحياة، ولكل اختيار من هذه الاختيارات حكاية يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، ويحضر فيها أشخاص ووقائع وكتب ومواقف… وتغيب تفاصيلها عن الناس حتى يعتقد بعضهم أن الكاتب أو المبدع ولد بكامل الوعي والإبداع الذي عرفه به الناس، أو أن الإسلامي ولد إسلاميا واليساري يساريا…

مع الشاعرة والقيادية بحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي حكيمة الشاوي

إعداد: علي جوات

كانت أول صدمة لي مع الواقع الطبقي الملموس، حين أنهيت المرحلة الابتدائية، وانتقلت إلى المرحلة الإعدادية، وجدت نفسي أتنقل بين عالمين على طرفي نقيض في نفس المدينة التي اقطن فيها، انتقل من “الهامش” الى “المحور”:
من عالم متواضع يفتقر لمتطلبات العيش، لكنه غني بالقيم والمبادئ.. الى عالم غني تتوفر فيه كل مقومات العيش الكريم، ويزخر بالمظاهر البراقة..
فكان أول سؤال تناسل في داخلي: لماذا تلك الفوارق الطبقية في مجتمع واحد، ومدينة واحدة، بين مواطنين يجمعهم وطن واحد.. وظل السؤال هاجسا معلقا وراء الأجوبة الغائبة آنذاك..
وكان بعض المدرسين الفرنسيين من بقايا الاستعمار، بجانب أبناء الاغنياء يعمقون تلك الفوارق الاجتماعية بيننا.. ويتعاملون بطريقة عنصرية..
من هناك بدأت رحلة النضال المرير والجميل الذي سكنني…
وذات مساء حزين.. كان ذلك في دجنبر 1975، وكنت في السنة الرابعة إعدادي، كما كانت تسمى آنذاك.. سمعت اسم “بنجلون” يردده أبي هامسا، ويخبر أمي باغتياله:
“لقد اغتالوا عمر بنجلون”
وتناسلت الاسئلة داخلي مرة اخرى: “من هو، وكيف، ولماذا…”؟؟؟ !!!
وكنت محظوظة حين رافقت أبي لحضور أربعينية الشهيد، وهناك وجدت بعض الاجوبة، ونقش اسم بنجلون في ذاكرتي، وشعرت بمخاض الكلمة الصعبة، فأقسمت بدم الشهداء، أن أركب سكة النضال المرير وأتابع المسير…
انخرطت في الشبيبة الاتحادية، في القطاع التلاميذي آنذاك، ثم في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وعايشت الصراع داخل الحزب، وخاصة في المرحلة الجامعية، في إطار فصيل رفاق الشهداء، إلى أن تم حسم الصراع مع المكتب السياسي في 8 ماي 1983، فأصبح اسم الحزب الاتحاد الاشتراكي _ اللجنة الادارية .. وفي المؤتمر الرابع للحزب، تغير الاسم إلى حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ..
منذ وعيت وجدت نفسي في بيئة تؤمن بقيم اليسار، وجدت أبي يكره الظلم ويدافع عن المظلومين، ويرفض الفوارق الطبقية، كان شجاعا في الجهر بالحق، وفي صراع مستمر مع المخزن.. كان يؤمن بالديمقراطية والاشتراكية كبديل.. وقد تعرض بسبب ذلك إلى العديد من للضغوطات..
تعلمت منه الحوار والجدال والإنصات للرأي الاخر، شجعني على طلب العلم والقراءة ،، كانت جريدة “المحرر” تدخل بيتنا، وكانت لقاءات المناضلين والمواطنين في الحملات الانتخابية تتم في بيتنا..
في المدرسة كان لبعض الأساتذة الذين يحملون قيم اليسار دور مهم في تدعيم تربيتي اليسارية، أذكر أستاذة اللغة العربية في نهاية المرحلة الاعدادية، التي قدمت لي نموذج المرأة المثقفة والواعية والجدية والعادلة والمتحررة والمتساوية للرجل، والحاملة للقيم الانسانية النبيلة..
وفي نهاية المرحلة الثانوية كان لأستاذ الفلسفة دور مهم في رسم مساري الدراسي الجامعي،، على يديه تعرفت على عالم الفلسفة،، فكان أستاذا مثالا للأخلاق والقيم،، وكانت الفلسفة وسيلة للتفكير والتحليل والتنوير وتحرير العقل..
حين تدرجت في المسؤوليات سواء النقابية أو الحقوقية او النسائية او السياسية، عايشت مناضلين افذاذا تميزوا بثباتهم على المبادئ ووفائهم للشهداء وتضحياتهم، وصمودهم أمام كل اشكال القمع والتضليل، وما بدلوا تبديلا:
+ المناضل محمد بوكرين الذي سمي معتقل الملوك الثلاث، كان قدوة لجيل من الشباب في الكفاح المستمر.
+ والمناضلة أمي فامة، نموذج المرأة الصامدة والمكافحة والشجاعة ..
+ والمناضل عبد الرحمان بنعمرو الذي عرفته من خلال تجربتي معه في المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الانسان، نموذجا للمناضل الحقوقي، ومرجعا قانونيا مهما، رسخ فينا الانضباط، والثبات والصدق والوفاء والصمود والاخلاق النضالية ..
+ وقد كان لتجربتي داخل الكتابة الوطنية بجانب الكاتب العام للحزب والمناضل الفذ، احمد بنجلون اثرا عميقا في دعم وإغناء تجربتي الحزبية والسياسية، فقد كان اشتراكيا حقيقيا وسياسيا محنكا، ومحللا دقيقا، وإنسانيا حتى النخاع، ومنصتا جيدا، وحريصا على الحفاظ على “اللحمة الحزبية” وعلى الوحدة الايديولوجية للحزب وعلى أي مناضل حين يخطا، بينما كان ينتفض غضبا كلما تم المساس “بأمهات المبادئ” كما كان يسميها، فقد علمنا كيف نمارس السياسة بأخلاق، وكيف نكون سياسيين دون ان نفقد القيم والمبادئ التي ناضل وضحى من أجلها شهداء هذا الوطن ..
إن انخراطي في الجمعية المغربية لتربية الشبيبة، ومجموعة من التكوينات والتداريب التي قمت بها لتاطير المخيمات الصيفية، كان لها انعكاس ايجابي على تكويني في المجال التربوي ..
إضافة الى المجال المهني التربوي الذي مارسته لمدة 35 سنة، لتدريس اللغة العربية اولا، ثم للعمل في الادارة التربوية ..
كما أن انخراطي في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان منذ تاسيسها، وتحملي المسؤولية في أجهزتها ومواكبة فترة ضحايا سنوات الرصاص، وملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، أكسبني تكوينا حقوقيا، وخبرة في المجال، وقد قمت بتعميق تلك التجربة بدراسة شعبة القانون العام والتخصص في العلوم السياسية ..
اضافة الى شعبة الفلسفة تخصص علم النفس، التي كانت اول اختيار لي، فتح امامي افاق التفكير والتحليل الفلسفي وتحرير العقل، وايجاد اجوبة للواقع السياسي انذاك ..
هذه العوامل والاحداث منحتني مسارا تكوينيا متنوعا اغنى تجربتي السياسية اليسارية ..
بدات مسار القراءة في المرحلة الابتدائية، وانا في الاقسام الاولى .. وكنت اعشق القصص ، واجد متعة في قراءة قصص البطولات.. ثم بعدها قرأت الروايات الاجتماعية والسياسية ..
اما اول الكتابات الماركسية قراتها في الجامعة حيث كانت متوفرة انذاك، اتذكر انني كنت انفق كل منحتي تقريبا في شراء الكتب.. اشتريت مجلدات رأسمال المال لماركس وقراتها، ثم قرات سلسلة دليل المناضل، وكتب انجلز لا أتذكرها ..
واتذكر جيدا كتابا قرأته واعجبت به كثيراذ، عنوانه : ” كيف تكون مناضلا جيدا ” لليو شاوتشي .. هو عبارة عن قواعد اخلاقية للمناضل ينبغي التحلي بها ، لكي يكون مناضلا حقيقيا ..

التعليقات على حكيمة الشاوي: هكذا أصبحت يسارية مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

ملف “إيسكوبار الصحراء”.. النيابة العامة تردّ على طلبات الدفاع بخصوص استدعاء أحمد أحمد ومسؤولين في البرلمان

في أول ردّ لها على طلبات دفاع المتهمين في ملف مابات يعرف بأسكوبار الصحراء، المعتقل على خلف…