في إطار التعقيب على ورقتي نبيل الشيخي وعبد العزيز افتاتي في الحوار الداخلي لحزب العدالة والتنمية ليوم 30 يونيو 2018، تقدم مصطفى الرميد عضو الأمانة للحزب، بهذه المداخلة التي ننشرها كاملة:

“إن الحوار لحظة تأمل جماعي وقراءة متأنية وشهادة لله على النفس والآخر، وليس لحظة نضال واستنهاض وتعبئة، ولا هو لحظة صراع ومبارزة وإفحام.
لذلك ينبغي اعتماد التحليل الدقيق والانصاف اللازم لتكون المخرجات النهائية صحيحة ومفيدة، كما أن مواضيع الحوار في غاية الدقة والتعقيد، إنها السهل الممتنع خاصة وأنها تنصب على مرحلة ما زالت ممتدة في كافة معطياتها وأطرافها، ويشتد التعقيد ليصل إلى درجة الحساسية بسبب الموقع الذي يحتله حزب العدالة والتنمية في المرحلة الحالية والجهات التي يعنيها موضوع الحوار، وكيفما كان الحال فبعض قضايا الحوار تتطلب قوة الملاحظة وشدة المخالطة، والتعبير بالإشارة التي تغني عن العبارة إذا لزم الأمر.
إن الورقتين تعبران عن مجهود محمود، ورصد محترم لأهم معطيات تطور الحالة السياسية الوطنية بغض النظر عن بعض النتوءات التعبيرية التي حفلت بها الورقة الثانية، وهما ان اختلفتا في لغتهما فقد اتفقتا نسبيا في عمق تحليلاتهما وقد قامتا بإبراز أهم الاختلالات وحالات التعثر في مسار التطور السياسي الوطني.
وقد تضمنت الورقتان كما هائلا من المعطيات والتحليلات يصعب تتبع تفاصيلها لذلك سأكتفي باستعراض بعض القضايا التي أرى أهمية الوقوف عليها، مما سيعتبر نوعا من الحوار مع الورقتين بالتكامل وليس بالتناقض.
وأول ملاحظة تتمثل في كون الورقتين لم تبرزا أوجه القوة في أداء المنظومة السياسية الوطنية والتي ساهمت في صنعها جميع المكونات الفاعلة الأساسية وبالأخص الشعب والدولة والحزب، وعلى سبيل المثال فحزب العدالة والتنمية هو الحزب الوحيد ذي المرجعية الإسلامية في العالم العربي الذي يترأس أهم البلديات عبر كافة ربوع الوطن، فضلا عن رئاسة الحكومة للمرة الثانية على التوالي، وبالرغم من كل المماحكات والاحتكاكات والمضايقات التي لا يمكن أن تنفك عن أي تجربة مماثلة تمضي الأمور وتتحقق الإنجازات، وما يزال الحزب من هذا الجانب في مواقعه والتي إذا أحسن تدبيرها فإنه يمكنه تأكيدها وتعزيزها.
إن أهمية الورقتين وعمق تحليلهما لا يمنع من الإشارة إلى اهمالهما للمعطيات الدولية التي تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في الواقع السياسي الوطني، فكما لا يمكن الحديث عن الحراك المغربي الذي أعلن عن نفسه يوم 20 فبراير 2011، دون استحضار ما سمي بالربيع العربي الذي بدأ بتونس ومر عبر العديد من الدول العربية ليستقر بالمغرب من خلال الدستور الجديد والانتخابات الجديدة والحكومة الجديدة التي عرفتها المرحلة المذكورة، فلا يمكن تفسير كثير من المعطيات السياسية الوطنية الموالية دون استحضار تطورات الثورة المضادة والتي عرفتها تونس نفسها فضلا عما وقع في مصر وغيرهما… ومع ذلك فإن كان التأثير الإيجابي للمحيط هاما في المرحلة الأولى فإنه في المرحلة الثانية كان محدودا، نعم، وقعت تراجعات واضحة ساهمت فيها أطراف حزبية بأدوار أساسية، وعلى سبيل المثال فإن تراجعات حكومة 2013 حيث تم إسناد وزارة الداخلية ووزارة التربية الوطنية لشخصيتين تكنوقراطيتين إضافة إلى وزارة الصناعة والتجارة وإن بلون حزبي، إنما تم كل ذلك في سياق تفجير الأغلبية الحكومية بانسحاب حزب الاستقلال بدون أسباب واضحة، وهو ما جعل الحكومة تحت رحمة الغير…وكان يمكن أن تنتهي قيادة حزب العدالة والتنمية للحكومة في تلك المرحلة بعد حوالي سنة ونصف من ولايتها وبإنجاز جد محدود، ولكن الأمور سارت في اتجاه إبقائه قائدا للحكومة مع إعادة صياغتها بشكل قوى موقع العنصر التكنوقراطي داخلها على حساب الفاعل السياسي الحزبي، وبذلك تكون المرحلة قد تمخضت عن تسوية مقبولة نسبيا، إذ لولاها لما كان لحكومة الأستاذ عبد الاله بنكيران أن تستمر، ولا أن يسمع لها إنجاز أو يكتب لها أثر.
إن الملاحظة أعلاه إن كانت تبرز أهمية المناخ المحيط، في علاقته بالتطور السياسي الوطني، فإنها تبرز أيضا الهشاشة التي يعاني منها الحقل الحزبي الوطني، والتي تقلص من هامش النضال الديمقراطي، وتعرقل الانتقال الديمقراطي نفسه، ذلك أن النظام الانتخابي اللائحي النسبي المعتمد، وكما هو معلوم لا يمنح الحزب الأول، إلا أغلبية نسبية وهو ما يعني الحاجة الدائمة إلى أحزاب شريكة لتشكيل الحكومة، وإذا كانت أغلب الأحزاب لا تملك قرارها، فيكون من العبث الحديث عن حكومة قوية فاعلة وعن مسار سياسي واضح وقادر على اتخاذ المبادرة والتأثير الإيجابي في أداء المؤسسات والسياسات بشكل حاسم.
ولو افترضنا أن عموم الأحزاب السياسية الوطنية تملك قرارها، وأن لها خياراتها الذاتية فإن ذلك كان سيخولها حق إنتاج بلوكاج سياسي “مشروع” إلى غاية إفشال رئاسة الحكومة من قبل الأستاذ عبد الإله بنكيران، وأيضا رئاسة الدكتور سعد الدين العثماني …. والنتيجة الحتمية في كل السيناريوهات الممكنة دستوريا سواء بالقراءة النصية أو المقاصدية تؤدي إلى القول بأن الأمر كان سيؤول إلى الحزب الثاني وهو في حالتنا هذه الحزب المعلوم.
وهذا ما يجعل من المشروع القول بأن الحقل الحزبي غير ناضج وغير مستقل في عمومه، بل وللأسف الشديد غير ديمقراطي كفاية، لذلك يبقى السؤال مشروعا: مع من؟
وكما تلاحظون فإن الوضع السياسي القائم هو نتيجة تفاعلات، يختلط فيها الإيجابي بالسلبي سواء بالنسبة للسلطة أو الفاعل الحزبي، تتمخض في الغالب عن نتائج عادة ما يتم تحليلها جزئيا وبطريقة انتقائية مع العلم أنه حين يكون المسار طبيعيا وعاديا فهو كذلك، وحين لا يكون كذلك، فلا يمكن انتظار نتائج طبيعية كما في المسارات العادية.
وينبغي أيضا ملاحظة أن الربيع العربي كما أنتج دستورا مغربيا يؤسس للانتقال الديمقراطي، فإن الخريف العربي أنتج تطورات سلبية محدودة بفعل الإرادة الشعبية التي تعززت بالإرادة الملكية، وذلك ما أعلنت عنه الانتخابات الجماعية لسنة 2015، والبرلمانية لسنة 2016، والتي اعتمدتها الدولة ولم تتنكر لها، كما قلت مرارا فإن حزب العدالة والتنمية ينبغي أن يكون واعيا أنه لا يكفي الحصول على ثقة الشعب بل لابد أيضا من الحرص على تعزيز الثقة مع الملك، إذ لا تغني الأولى عن الثانية، كما لا تغني الثانية عن الأولى، ومثالي الدائم في هذا الباب هو أن الثقة كالشيك لا تتصور إلا بوجود من يمنحها وهو الشعب، ولا قيمة لها فعليا إلا بصرف استحقاقاتها من قبل من له الاختصاص وهو الملك.
إن الورقتين يلاحظ عليهما أيضا عدم استحضار استحقاقات المرحلة السياسية والمؤسساتية التي تعيشها بلادنا، والتي وإن اختلفت توصيفاتها فإنها حتما ليست حالة استبداد، كما أنها ليست حالة الديمقراطية الحقة، إنها تعيش مخاضا عسيرا، وتتطور تطورا مستمرا ومضطردا، لكنه بطيء ومضطرب.
وإن الرصد الدقيق يثبت أن مراحل الانتقال ديمقراطي ليس لها وصفة واحدة، وإن كانت لها سمات مشتركة، منها الغموض والتردد، والذي يدعو إلى عدم الثقة فيها والايمان بها إلا بالنسبة لصناعها الأساسيين.
وإن المتفق عليه لدى فقهاء الانتقال الديمقراطي أن التدبير التوافقي شرط لازم لإنجاحه.
لذلك فإن الفاعلين المؤسساتيين الأساسيين يتجرعون كما كبيرا من المعاناة والتحمل من أجل ضمان التعايش واستمرار التجربة…
وفي كل يوم هناك تنازلات متبادلة وهي إن كانت تستدرك على الفاعل الحزبي ويلام عليها إلا أنه من المؤكد أن هناك معاناة في الجهة الأخرى، ولكل موقع أحكامه. (لا يحس بالجرح إلا من به ألم).
لكن أهمية تدبير المرحلة بالتنازلات الضرورية إنما تسوغه القدرة على الإنجاز بمنطق خطوة إلى الوراء في سبيل خطوتين إلى الأمام، وهذا لا يتأتى إلا لقيادات ملهمة قادرة على صنع التاريخ ولو على حسابها (إدولفو سواريز بإسبانيا على سبيل المثال).
ولا يتأتى ذلك إلا إذا كانت هذه القيادة تستحضر مهمتها التاريخية وهي الاسهام في الانتقال الديمقراطي، وواعية بأن الانتقال من مرحلة الانتقال الديمقراطي إلى مرحلة الديمقراطية الحقة إنما يتحقق في شكل منظومة سياسية محددة المعالم بالنسبة للملكيات ويتعلق الأمر بملكية برلمانية التي هي المآل الطبيعي للتطور المؤسساتي الوطني في مرحلة الاكتمال.
إن ما عرفه التطور السياسي للبلاد من إنجازات أو انحدارات في مراحل متعددة لم يكن مركز السلطة هو المسؤول الوحيد عنه، وإنما هو نتيجة تفاعلات لا يحوز إهمال دور الفاعل الحزبي فيها، وذلك منذ سنة 1956 إلى الآن.
وبناء عليه يتعين التأكيد على أهمية دور حزب العدالة والتنمية فيما حققته بلادنا في المرحلة الأخيرة من إنجازات إيجابية عديدة، بقدر ما ينبغي التساؤل عن دوره في بعض المراحل من توتر وردود أفعال كادت أن تعصف بالمكتسبات وكل التراكمات، ودون الحاجة إلى الدخول في التفاصيل ينبغي على الحزب أن يكون وفيا في أداء التزاماته، أمينا في تحمل مسؤولياته سواء في علاقته مع الشعب أو الملك، أو مع الشركاء في الحكومة والمجالس المنتخبة وما عدا ذلك فمجرد تفاصيل.
وهو ما يعني أن دور حزب العدالة والتنمية يبقى دورا تاريخيا كبيرا يتجاوز المعطيات الصغيرة، والتحرشات الكثيرة، إنه دور حزب قائد جعل من شعار البناء الديمقراطي أساسا لمقاربة علاقاته مع باقي الفاعلين السياسيين وسط عالم متربص بالتجربة المغربية الفريدة التي يعتبر الملك رائدها وراعيها ضدا على التيار العام السائد.
ولا يفوتني التأكيد على أهمية تنامي الوعي الشعبي من خلال تعبيراته المختلفة، سواء اتخذت شكلا سياسيا أو اجتماعيا، وأهمية الوسائل والوسائط التي أصبحت بيد عموم المواطنين، يعبرون من خلالها عن آرائهم، والتي كسرت احتكار الدولة للإعلام وأصبح تأثيرها يتجاوز الإعلام الرسمي، وهي كما لها سلبياتها، لها إيجابياتها إذا حظيت بالتأطير اللازم، وستكون لها حتما أدوار حاسمة في المستقبل.
ويمكنني أن أقول بشيء من التلخيص، إن بلادنا ماضية في سبيل تعزيز الخيار الديمقراطي مع كل الاختلالات المرة التي تطبع المسار، وهو خيار أصبح ضرورة لا محيد عنه ولا سبيل للتراجع عنه.
ومن مسؤولية حزب العدالة والتنمية أن يزاوج بين واجبه في الدفاع عن الخيار الديمقراطي وتكريسه في المؤسسات من خلال كافة مواقعه الحكومية والبرلمانية والتمثيلية والموازية، وفي نفس الآن الحرص على علاقته بالملك وتكريس حالة الثقة معه، في سبيل تعزيز الانتقال الديمقراطي وتحصيل نتائجه على أساس القاعدة الذهبية: الإصلاح في ظل الاستقرار، التي تبقى مبدأ لا بديل عنه لتجسيد مرجعية الحزب في الإصلاح والتي أثبتت التجارب أهميتها بل وضرورتها.

التعليقات على الرميد يردّ على أفتاتي والشيخي: “البيجيدي” ينبغي أن يكون واعيا أنه لا يكفي الحصول على ثقة الشعب مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

المهدي بنسعيد: جائزة المغرب للشباب ليست فقط مسابقة بل هي تكريس لثقافة الاعتراف