لم تكن الانتفاضات الشعبية، أو ما اصطلح على تسميته، زمن التغيير من أسفل، ودخول الشعوب للحيز العام، إلا جواباً تاريخياً على الأطروحات الفكرية-النقدية لبعض رموز ومثقفي مدرسة الفكر النقدي، والذين كرسوا جل نشاطهم الفكري لنقد بنى المجتمع التقليدية ووعي التأخر، على خلفية الهزائم المتتالية، التي منيت بها المجتمعات العربية، وتحديداً هزيمة يونيو1967. وكانت هذه الأخيرة بمثابة المحرض الذي دفع بالمثقفين النقديين للانصراف الكلي للتفكير من أجل تبيان الأسباب المجتمعية-التاريخية لمسألة التأخر العربي.
على المقلب الآخر، لا يمكن اعتبار الانتفاضات الشعبية القاعدية، فيما لو توفر لهذه الانتفاضات التنظيم والقيادة الثورية التقدمية، إلا حاملة اجتماعية لأفكار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية والتحرر الوطني والعقلانية والتنوير وبناء الدولة الديمقراطية. هذه الأفكار التي هي محط اهتمام وتفكير رواد ومثقفي عصر النهضة العربي. ولكن بقيت هذه الأفكار أسيرة طرحها الفوقي، ومني المشروع النهضوي العربي بالفشل ولم يتم تبيئة هذه الافكار التنويرية والثورية لعدم توفر الحامل الاجتماعي وقتذاك، سيما وأن الفئات الشعبية والقوى التقدمية هي المعنية بتبيئة هذه الأفكار التحررية والعلمانية والديمقراطية والتي كانت على الضد من الفكر القروسطي-الغيبي-اللاهوتي. كان في وهم العديد من مثقفي عصر النهضة، وتحديداً طه حسين، والذين كانوا مأخوذين بأوروبا عصر الأنوار والتنوير والمنبهرين بنظمها وافكارها أن البورجوازية العربية هي الشبيه أو المعادل العربي للبورجوازية الأوروبية في طور صعودها الثوري-التقدمي فصاغوا مشاريعهم ورؤاهم على هذا الأساس المتخيل.
وكما أن البورجوازية جملت مشروعها الهائل المتمثل في تحطيم البنى التقليدية المعيقة للتقدم، وأقامت النظام الرأسمالي بوصفها الطبقة الصاعدة المستقلة، التي أوقدت ثوراتها في كل الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفكرية وحطمت الإقطاع، وسلطة الكنيسة وحققت العلمانية، وأقامت النظام البرلماني ورفعت راية الديمقراطية، فلا بد أن تقوم رديفتها العربية بالدور نفسه وأن يكون المشروع النهضوي العربي، كما كان مشروع ديدرو ومونتسيكيو وروسو بالنسبة للبورجوازية الفرنسية. لكن الزمن كان قد صار غير الزمن، والبورجوازية الأوروبية نفسها تغيرت، وتحولت الى استعمارية، والنظام الرأسمالي تحول الى امبريالية، وهذه الأخيرة هيمنت على سائر الأنظمة العربية والبورجوازيات في العالم تحكمت بالتطور اللاحق للبلدان والشعوب ليصب في مجرى هيمنتها. هكذا تكونت البورجوازيات العربية، وفي إطار هذه الهيمنة الامبريالية، كبورجوازيات تابعة خانعة ومتخاذلة أمام المستعمرين، أصبحت ضعيفة، أمام مختلف البنى القديمة، لا بل هي عملت على الحفاظ على مختلف هذه البنى، في حين وجهت قمعها الأشد قسوة وشراسة وهمجية، ضد شعوبها وعلى الأخص ضد قوى الحرية والتقدم، وضد المبشرين بالأفكار الراديكالية والعقلانية، ومثل هذه البورجوازيات ليس في مشروعها، ولا في استطاعتها، انجاز تغيير ثوري جذري اقتصادي-اجتماعي علمي وثقافي في المجتمع، ولا في ارساء نظام رأسمالي ديمقراطي علماني مستقل.
هي إذا غير مؤهلة بالأساس، لتكوين الحامل الاجتماعي لمشروع النهضة، فضلاً عن أن هذه الأفكار قد حوصرت من قبل القوى التقليدية، كما حوربت من قبل اليسار التقليدي الذي نظر الى المشروع النهضوي العربي على أنه مشروع بورجوازي!
ومن المفيد ذكره وضمن هذا السياق، أن طه حسين كان مع ثورة يوليو في بدايات بناء حكمها، ولكن طه حسين كان قد صارحهم قائلاً: “مصر لا تحتاج الى شيء بمقدار ما تحتاج إلى أن تحرر عقول أبنائها، وهي إذا حررت العقول، بلغت كل ما تريد في فروع الحياة جميعها، والعقل الحر، هو الذي لا يقبل أن يفرض السلطان السياسي عليه رأياً من الآراء ومذهباً من المذاهب، والعقل الحر هو الذي لا يقبل ديكتاتورية مهما كان نوعها، ومهما يكن غرضها، وأسلوبها في الحكم، ولن نرضى من الثورة إلا أن يتسع سلطان العقل، حتى يغزو بالمعرفة نفوس المواطنين جميعاً”.
أيقنت القوى الثورية والديمقراطية، وحتى الناصرية، وبعد تجارب مريرة، وبعد الانهيارات، أن موقف طه حسين هو الموقف الحق والصحيح، من حيث أن استمرار الثورة وتطورها، وانتصار مشروعها، كان يقتضي منها تحقيق الديمقراطية، لا حجبها وإطلاق حرية العقل، لا الحجر عليه. مشروع طه حسين كان يمكن أن يفيد الثورة حين تبلورت ملامحه التقدمية، عندما باتت تخوض معارك مصيرية مع اليمين. لكن فكرها التوفيقي، ونهجها البراغماتي وضيق أفقها، منعها من الإفادة من مشروع طه حسين.
وعندما خذلت البورجوازيات العربية بمختلف أجنحتها، المشروع النهضوي عموماً وطه حسين خصوصاً، لم يطرح التقدميون والماركسيون العرب على أنفسهم السؤال الجدي لماذا خذلت البورجوازية هذه مشروعها، وهل هذا هو مشروع البورجوازية. ونحن نزعم، بأن الحامل الإجتماعي الحقيقي، للمشروع النهضوي، ليست هذه الطبقة التي كان يفترض وهماً، أنها هي التي ستحققه، بل الطبقة النقيض،أي الفئات الشعبية والقوى الثورية التقدمية، في مستقبل لا بد من السير باتجاهه.
مهما يكن من أمر، فإن مشروع النهضة ومشروع طه حسين، تجاوز الطبقة التي ظن أنها الحامل الاجتماعي، لأنه وبصياغته هذه كان أكثر جذرية، مما تحتمل البورجوازية، وأكثر اقتراباً من القوى الثورية والطبقات النقيضة، وكان المفترض بأحزاب وتنظيمات الفئات الثورية التقدمية، أن تصوغه أو تتبناه وتطوره وتدمجه في برنامجها الكفاحي العام.
غني عن البيان القول، بأن فشل المشروع النهضوي يعود للأسباب الاجتماعية-الطبقية بالدرجة الأولى.
ولكن مهمة استرداد افكار عصر النهضة التنويرية–الحداثية، كالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعقلانية، وادراجها في سياق الحاضر، لما تحمله من قيمة تاريخية ومستقبلية يقع على عاتق القوى والأحزاب الثورية سيما وأن هذه الافكار، لا تزال راهنية، ولا يزال النضال مستمراً من أجل تبيئتها، ولا تزال تكتسب راهنيتها في زمن التراجعات والردات الثورية، مع ما يرافق هذه الردات من صعود للمذهبيات والأشكال التقليدية الماقبل دولتية، والتي ستكون عقبة تحول دون بناء الدولة الديمقراطية، ومن شأنها أن تؤسس لاندماج مجتمعي، بدلاً من التمثيل الطوائفي–الأهلي ولن يكون في أسوأ الأحوال، الا اعادة انتاج للتفكك المجتمعي كل ذلك سيقودنا الى نقاش مفهوم على درجة كبيرة من الأهمية وهو “التأخر التاريخي” والذي تصدى له، المفكران اللامعان عبدالله العروي وياسين الحافظ اللذان سلطا الضوء على جدلية “الخارج-الداخل” التي ساهمت بتكريس حالة التأخر العربي.
عبدالله العروي وياسين الحافظ ومفهوم التأخر التاريخي
ارتبطت هواجس عبدالله العروي الفكرية والسياسية باشكالية التأخر التاريخي وانطلاقاً من قناعاته الفلسفية والتاريخية، اجتهد في بلورة رؤية فكرية محكمة ومتماسكة، كان الهدف منها العمل على تدارك التأخر التاريخي، الحاصل في الواقع، وفي الثقافة العربية، سيما وأن الأسئلة الجديدة التي تطرح في زمن الهزيمة “المؤقتة” والتأخر تدعونا الى قراءة ما كتبه العروي واعادة التفكير في ضوء مستجدات الراهن، وخاصة وأن التاريخ لا تحكمه مطلقات، وحتميات ومعارك الحداثة الفكرية والسياسية والايديولوجية والاقتصادية “الاشتراكية” لا تزال متواصلة ولا تزال عبارة العروي الشهيرة يتردد صداها “أن الثورة هي الرد التاريخي على مسألة التأخر التاريخي”.
وفي هذا السياق، يقول العروي: “إن تأخرنا شامل وعام ولم ينتج السلفي\الانتقائي وهما الممثلان الرئيسيان للإيديولوجية العربية المعاصرة، أي الشيخ والليبرالي، أي برنامج ثقافي، يسمح بإلغاء التأخر الثقافي، وتحقيق نهضة ثقافية تتيح للعرب التصالح مع ذاته، الشيخ وهو رمز للمثقف السلفي، الذي ما فتئ يردد نفس الشعارات، ويرفض الأفكار المستوردة، ويمجد الماضي، إنه يفكر بمنطق واحد، منطق يتلخص في الدفاع اللامشروط، عن المطلقات والكليات وشمولية الدعوة الاسلامية، وأما الليبرالي فمأساته أعمق، إنه يتابع حركة الغرب، بصورة لاهثة، مكتفياً في الغالب، بالمواكبة التابعة السطحية والنداء المستلب. إن طوبى الشيخ تتردد على شكل حنين، وطموح المثقف الليبرالي يرد الى تبعية غير واعية، وهما بالتالي يكرسان استمرار غياب الوعي التاريخي، الأمر الذي سيضاعف مستويات التأخر التاريخي في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية”.
لم يكتف العروي، بنقد الشيخ\الليبرالي بل وجه سهام نقده الجريء، الى الماركسية المتأخرة واليسار التقليدي الذي اكتفى بالتفسير الاقتصادوي وعلى أهمية دور التبعية والهيمنة الامبريالية والتبادل اللامتكافىء والتقسيم العالمي للعمل الذي يركز الصناعة\التقانة في المراكز ويترك للهوامش وظائفا زراعية وتصنيع بدائي من شأنه أن يلجم التطور الرأسمالي المستقل.
ولكن ما لا يمكن تجاوزه أيضاً، هو التأخر الثقافي والايديولوجي كعوامل إضافية تساعدنا في فهم التخلف يقول العروي: “إن تجاوز التأخر يقتضي إنجاز ثورة عامة على الأوضاع السائدة، وهذه الثورة العامة، تتضمن إحداث ثورة ثقافية، مقتنعة بوحدة التاريخ البشري”. هنا يبرز تأثير الفيلسوف الايطالي غرامشي على المثقفين النقديين والذي رفض القوانين الجامدة، التي تتحكم بمسيرة التاريخ تحكماً صارماً، سيما وأن غرامشي أعطى أهمية كبيرة لموضوع الهيمنة الثقافية، توازي اهمية السيادة والسيطرة الاقتصادية والسياسية. هنا يكون قد تمايز غرامشي عن غيره، عندما أقر بأهمية الثقافة ودور المثقفين في تغيير الوعي تغييراً كلياً. كما انحاز العروي الى الماركسية التاريخانية، باعتبارها الأداة الاستراتيجية التي تتيح للعرب امكانية استيعاب المعاصرة، والأمة محتاجة لهذا النوع من الماركسية لتكون نخبة مثقفة قادرة على تحديثها ثقافياً وسياسياً واقتصادياً.
وتبقى الماركسية وفق تعبير العروي البديل لأنها تعلمنا نسبية التأخر وتدفعنا الى التطلع المتفائل نحو التقدم.
بيد أن الإشكالية التي شغلت بال العروي، منذ مطالع عقد السبعينات والتي عرفها على النحو التالي: كيف يمكن للفكر العربي، أن يستوعب الليبرالية ومن دون يعيش مرحلة ليبرالية، وهي المرحلة التي سوف تتيح للوعي العربي الانتقال من الوعي التقليدي\القروسطي\الخرافي الى الوعي الحديث، ولربما تكون هذه المرحلة، بمثابة المعادل الفكري-النظري للثورة الديمقراطية البورجوازية كما عرفها ماركس ولينين والياس مرقص لما يعيشه الوعي العربي من تأخر ثقافي، ناتج عن ثقل مواريث التقليد والنظرة السلفية. لمشكلة برأي العروي، تكمن بغياب الحلقة الليبرالية في مسار تطور المجتمعات العربية، وعدم استناد الفكر الثوري والماركسية العربية، الى مقدمات الفكر الحديث، والى منظومة الفكر الليبرالي الذي مهد لميلاد الماركسية الأمر الذي ساهم بتكريس التأخر الثقافي وتأخر الوعي العربي.
وبهذا المعنى، لا يكون العروي ليبرالياً ولا يشبه الليبرالي، الذي انتقد نظرته في “الايديولوجية العربية المعاصرة” لأنه يدعو الى استيعاب مكتسبات الليبرالية، وهي دعوة راهنت على الأمل، حين أطلقها في نهاية الستينات ومطلع السبعينات على امكانية تأسيس مشروع مجتمعي تقدمي، وبقيادة حركة ثورية، مسلحة بماركسية تستوعب مطالب الحداثة الاجتماعية والسياسية والثقافية والتوسل بهذه الماركسية من قبل المثقفين والقيادات السياسية، يزود المشروع المجتمعي التقدمي برؤية تاريخية، لا غنى عنها، وتقطع مع المنطق التقليدي والذي بررت بهذا الأخير أهدافها الثوريةولأن الماركسية نمت وتطورت،انطلاقاً من مكتسبات الفكر البورجوازي. ودرءاً لأي التباس،حين يتحدث العروي عن الليبرالية، فهو يعني بها النظام الفكري المتكامل، الذي تكون في القرنين السابع عشر والثامن عشر والذي حاربت البورجوازية الفتية حينها الافكار والأنظمة الاقطاعية.
بيد أن التوسع الامبريالي الاستعماري كان له الدور البارز، في القضاء على القيم التحررية لليبرالية. ويستغرب العروي الأسباب التي تدفع النخب السياسية والثقافية العربية، الى التوسل بمنطق الفكر التقليدي، للدفاع عن مشروع سياسي-اجتماعي وهم الذين ما انفكوا يعللون الأهداف التحررية في ضوء المنهج التقليدي، وجربوا الباس الأفكار الجديدة، ثوباً تقليدياً لتقريبهما الى الأذهان. وكانت النتيجة أن تساهل التقدميون مع المنطق التقليدي، بدعوى أن المعركة في المقام الأول مع الاستعمار والامبريالية. والمطلوب، هو توسل المنطق الحديث أي تغيير منهج النظر والتفكير، الذي يمس المنهج لا الأهداف (التنمية الديمقراطية والاشتراكية) وبهذا النقد الرصين، يكون العروي، قد عرى الفقر المعرفي في أوساط الماركسية العربية، ونقد اليقينيات وطريقة التفكير وهم اللذين وقفوا على الضد من أفكار ماركس.
يقول العروي: اذا كان ماركس الناقد للنظام الرأسمالي، يستهوي مثقف الغرب فإن ماركس الناقد للتأخر التاريخي، يستهوي مثقف العالم الثالث وسيبقى ماركس الايديولوجي حياً، يبعث من جديد، ما دام هناك بقعة متأخرة في العالم. لذلك دعا الى ما سماه “الماركسية الموضوعية” في كتابه الايديولوجية العربية المعاصرة أي ماركسية مطابقة لمتطلبات الأمة العربية.
أما المفكر السوري ياسين الحافظ، والذي كان من بين أهم المفكرين الماركسيين النقديين، تأثر تأثراً بالغاً بأطروحات العروي، وجمعتهما رؤية واحدة والذي أدرك قيمة ما ذهب اليه العروي، من نقد لبنى التقليد والتأخر. لعل الحافظ أحد ألمع من تفاعل مع الموضوعات النقدية الجديدة، التي اقترحها العروي على الوعي العربي، واعترف بتواضع الكبار، بمدى ما كان للعروي من أثر حاسم في إنضاج تلك القناعات الجديدة التي تكونت لديه وبالحساسية النقدية العالية التي انفرد بها مبكراً ووسمت إنتاجه الفكري، منذ منتصف الستينات. ومثل العروي، انصرف ياسين الحافظ الى الاهتجاس بالقضايا ذاتها، التي شغلت العروي كنقد التقليد والتأخر التاريخي والايديولوجيا السلفية والدفاع عن الحداثة والفكر التاريخي والقيم الكونية الانسانية واعادة الاعتبار للتراث الليبرالي، في مرحلة صعوده الثوري، من دون أن يرتد وينقلب على ماركسيتها التي زاد منسوب نقديتها، وخصوصاً بعد هزيمة 67 وهو من بين قلة قليلة، التي هزتهم الهزيمة بعنف، وربما ارتفعت درجة النقد في تفكير الحافظ الى حد غير مسبوق في الوعي العربي.
ومن قرأ كتابات الحافظ، سيلاحظ بأنه لم يغير ويبدل كثيراً في الإشكاليات التي انشغل بها كالتقدم الاجتماعي والديمقراطية والتحرر الوطني وظل محافظاً على ماركسيته، وظلت هذه الماركسية تشدد على اشكالية التبعية وقضايا الاستغلال الرأسمالي والصراع الطبقي والاشتراكية والتي اعتبرها جواباً تاريخي على معضلات التخلف الاقتصادي-الاجتماعي. لكنه وبعد هزيمة 67، لفت نظر متابعيه الى مفهوم “التأخر التاريخي” إذ والى جانب التحرر من التبعية الرأسمالية، والتحرر الوطني من الاحتلال الاجنبي وتحرر الأمة من الهيمنة الامبريالية ومن سلطات الاستبداد، أضاف الى ذلك تحرر المجتمع من التأخر وتحرر الثقافة من التقليد وتحرر العلاقات الاجتماعية من الموروث البطركي الذكوري والخرافة المعادية للحداثة. تكمن ظاهرة التأخر بحسب الحافظ في الرواسب والبنى الماقبل دولتية، كالعشائرية والقبلية والطائفية ولعبت أنظمة الاستبداد كما الخارج الامبريالي دورا بارزا بتمكين هذه البنى العصبوية-التقليدية وهذا التأخر يتخطى إطار البنية السياسية، بما هي بنية علاقات السلطة وأجهزة الدولة الى الثقافة برمتها ما العمل اذا؟؟
وتحت تأثير العروي، لا بل التماهي الفكري معه، رأى الحافظ بأن الخروج من مأزق التأخر، يكون باعادة الاعتبار للحلقة الليبرالية في التطور التاريخي السياسي والثقافي والقطيعة مع النظرة التبسيطية لليبرالية، بوصفها ايديولوجيا طبقة او باقامة مماهاة بينها وبين الاستعمار، واعادة الوعي بالماركسية، بوصفها وريثة القيم الليبرالية وهي الأطروحة الفكرية المركزية التي اشتغل عليها عبدالله العروي. ويعرف الحافظ الحلقة الليبرالية، على أنها منظومة القيم والأفكار والمبادىء التي تكونت في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث حاربت البورجوازية الفتية الافكار والقيم الاقطاعية وشدد الحافظ على محتواها الثوري بوصفها ثورة على منطق القرون الوسطى وعلى نظمها ومؤسساتها أي ضد فكرة الماورائيات وتبيان الفرق بين الليبرالية كايديولوجيا طبقة كما أسلفنا أعلاه وبين الليبرالية كتراث انساني نهلت منه الماركسية، ويسلم الحافظ بأن الاشتراكية مستحيلة في بلادنا من دون استيعاب مكتسبات الليبرالية، ويخشى أن تبنى الاشتراكية على أرضية المفاهيم التقليدية “التأخراكية” وسيكون مصيرها الفشل المحتوم.
كما فشلت تجربة اليمن، في بناء الاشتراكية، وفي هذا السياق يقول فواز طرابلسي وكما ورد في كتابه صورة الفتى بالأحمر “عندما عاينت مجتمعاً رعوياً ذا زراعة بدائية، ينظمه تنظيم تركيب قبلي، ضعيف التمايز الاجتماعي، ينقسم بين قبائل مستضعفة وقبائل ارستقراطية مقاتلة، حيث الثانية تسستتبع الاولى، وتوكل اليها مهمات الخدمة، ويقوم التراتب الأخر، في التركيبة الاجتماعية على نبذ العمل اليدوي ،مقسماً الناس بين مهن شريفة، كالقتال والصيد والرعي، وذوي المهن المحتقرة أمثال الصيادين والأرقاء ذوي الأصل الافريقي وبعد سنوات على هزيمة ثورة ظفار عزا البعض الهزيمة الى اسباب داخلية كالقبلية!”
وبالعودة الى الحافظ والذي تساءل إلام نعزو هذا التأخر التاريخي؟ كان جوابه على هذا التساؤل التاريخي أننا لم نعرف المرحلة الليبرالية كضرورة تاريخية للقضاء على الأشكال الماقبل رأسمالية وعلى الوعي التقليدي\القروسطوي أي تخلف البنى الفوقية والتحتية.
وهذا يعود الى أن البورجوازية العربية لم تدخل في صراع فعلي مع الإقطاع بل ولدت في تربته، ونمت في ظلاله، هذه البورجوازية ويخطأ الحافظ إذ ينعتها بالوطنية وهذا التوصيف يكاد يتناقض مع تحليله لتاريخ تكون هذه البورجوازية، وهو القائل: بأن البورجوازية وقسم منها نشأ من استثمار ريع الأرض الإقطاعي، كما أن القسم الأكبر منها تولد من الرأسمال التجاري الاحتكاري، كما لم تهدم الاقطاع لتقوم على أنقاضه، كما حصل في فرنسا بل نمت حوله، ولهذا امتصت كل ما هو رجعي وبدائي ومتخلف، ولم تأخذ موقفاً حاسماً من الاستعمار، حاملة روح المساومة وأنصاف الحلول، وعاشت متذبذبة وانتهازية حتى في أقصى حالات النهوض الثوري.
ولربما يكون توصيف المفكر مهدي عامل أكثر دقة لهذه البورجوازية التي سماها بالكولونيالية المتماسكة في تبعيتها البنيوية للامبريالية. قد يجتمع التاجر الكبير والصناعي والبنكي في رجل واحد وهو “البورجوازي الكولونيالي” بمعنى أن البورجوازية الكولونيالية، تتكون في الواقع من هذه الطبقات كلها مجتمعة، وإن ظهر في شروط تاريخية شيئاً من التناقض بين عناصرها، ولكنه يبقى تناقضا ثانويا وليس تناحريا بين طبقتين متمايزتين.
والفرق بين البورجوازية العربية والأوروبية التي قدمت أعمق وأروع ما في التراث الحضاري من فلسفة و أدب وعلوم وفنون وهدمت صرح اللاهوت، وصفت الغيبيات وكنست كل عفن الاقطاع الفكري، وقدست العلم والعقل قبل أن تتحول الى استعمارية، وتنقلب على القيم التحررية، وتتحول الى محافظة تبربرية وفق تعبير العروي.
أما البورجوازية العربية التي نمت على تربة الاقطاع وعلى ثقافة القرون الوسطى فجابهت ثقافة علمية وثورية من شأنها أن تخدم أهداف الجماهير، ووقفت ضد كل ما هو تقدمي وعلمي وثوري في التراث الانساني، وسيما وأن أبرز مثقفي هذه الطبقة ما زالوا يحملون ثقافة ووعي القرون الوسطى التقليدي في الجوهر، وحداثتهم الفكرية شكلية.
وما كان للبورجوازية الغربية، ووفق تعبير الحافظ، أن تبني نهضة صناعية متطورة لولا فضل القيمة الفاحش الذي كانت تقتطع من أجور الطبقة العاملة، ومن النهب الاستعماري للبلدان المتخلفة من مواد خام وأسواق. وهذا ما ساهم في تمويل تلك البورجوازيات ولا زال.
وكان الاجتياح الاستعماري حدثاً فاصلاً في التطور العربي، حيث غرز فيه رأسمالية متأخرة وطرفية وعندها انتقل المجتمع من تقليدي الى متخلف.
وكان لافتاً اجماع بعض المفكرين الماركسيين النقديين والذين شددوا، وبالاجماع، على ضرورة نقد الاقتصادوية، وضرورة أن يمهد ويسبق الثورات السياسية والاجتماعية ثورات ثقافية وفكرية. وها هو سمير أمين الذي انتقد كما العروي الطوبى الاسلامية والليبرالية “التغريب” وطالب بثورة، تشمل كل المجالات الدولة\المجتمع وبتحديث الفكر من خلال الثورة الثقافية، وأقر بالتأخر الايديولوجي الفكري وهو ليس انعكاساً مباشراً للأوضاع الاقتصادية، وأصبح التخلف الفكري عنصراً هاماً في عرقلة التطور، كما جاء في كتابه “بعض قضايا للمستقبل”. واعتبر أمين الثورة في الفكر التي سبقت حدوث الثورة الفرنسية هي التي أنهت هيمنة الميتافيزيقا الدينية والفلسفية، وأعقب هذه الثورة ثورة في مجال قوى الانتاج وعلاقات الإنتاج، تمظهرت في ظهور الرأسمالية كنظام اجتماعي-ثقافي بحيث بلغت الثورة في مجال علاقات الإنتاج، درجة التغير الكيفي، الذي فتح تطورا، أدى الى إنهاء هيمنة الزراعة، الأمر الذي أنهى هيمنة المطلق، وإعطاء الحرية للفكروانهاء المقدس.والثورة الاجتماعية، من دون التقائها بالثورة الثقافية، لن تأتي بالثمار المرجوة ولعل الفشل سيكون مصيرها.
ومن جهته، اعتبر المفكر الياس مرقص أن شرقنا يواجه مهام الثورة البورجوازية وأن تحول الثورة الديمقراطية-البورجوازية الى اشتراكية هو بمثابة القانون عند ماركس ولينين، واتخذت اسم الثورة الدائمة، إذ لا ثورة اشتراكية من دون التقاء الثورتين ولربما مأثرة تروتسكي انه طرح دينامية الثورة الدائمة في بلد متخلف.
ولأن الثورة هي عملية نمو وتحول صراعي اعتبر مهدي عامل بدوره بأن البنية الكولونيالية العربية تحتاج الى ثورات في ثورة واحدة، هي في الحقيقة ثورة واحدة.
وعلى الفئات الشعبية والطبقة العاملة أن تقوما في الثورة الأولى “البورجوازية” بهدم جذري لعلاقات الانتاج الماقبل رأسمالية وان تحققا بالتالي تراكم رأس المال وفي الثورة الثانية “الوطنية”، وان تقوما بمهام التحرر الوطني وتقطعا علاقة التبعية للامبريالية، وفي الثورة الثالثة “الاشتراكية” تقومان بمهمتهما التاريخية اي الانتقال الى نظام الانتاج الاشتراكي.
لم يع اليسار التقليدي هذه السيرورة الثورية، والذي ما فتئ يلح ويؤكد على دور الاقتصادوية وكان لا بد من نقل بعضاً من افكار الحافظ، كما وردت في كتابه “الهزيمة والايديولوجية المهزومة” وستكون بمثابة الرد المبطن على هذا التيار من اليساريين يقول الحافظ: “الثورة الروسية والتي بدأت وجدياً بعد قلب البنية السياسية المفوتة، وهذا القلب مهد له، انجازات ايديولوجية طويلة، بلغت من النضج، في انتصار الماركسية، في صفوف الانتلجنسيا الروسية، لا بوصفها ايديولوجيا اشتراكية، بل بوصفها تحديثاً راديكالياً للمجتمع الروسي، ومن هنا أتى تعريف لينين للاشتراكية بأنها سلطة السوفياتات+كهربة روسيا وكما سبق ثورة اكتوبر العظيمة نضالات وافكار ديمقراطية.
واذا كان التأخر التاريخي، والكلام للحافظ، للشعب الألماني قد وجد مع الهزيمة وجزئياً، بسببها حلاً بورجوازياً، فإن التأخر التاريخي للشعب الروسي قد وجد مع الهزيمة وجزئياً، حلاً اشتراكياً، والحل الاشتراكي نظراً لتأخر الشعب الروسي سيكون اشتراكياً، من نوع مميز، وليست مهمته اعادة ترتيب الهرم الطبقي بل أيضاً وربما أساساً، اعادة بناء كل عمارة المجتمع الروسي المفوت، وهذا النزوع التحديثي الذي كان في في اساس التصور اللينيني عن الثورة الاشتراكية”.
وماذا عن الوضع العربي؟
من البداهة القول، بأن الاستعمار ساهم في تعميق حالة التأخر التاريخي للمجتمع العربي. كان الاستعمار مشغولاً بكيفية شفط الفائض، الامر الذي أعاق عملية التراكم الوطني المستقل، وكانت النتيجة أن جرى رسملة للبنى التقليدية من الخارج وجرى قطع الطريق على التطور الرأسمالي الطبيعي النابع من تفارق الطبقات وبنى الانتاج، وتحول شيوخ العشائر ووجهاء المجتمع المحلي إلى ملاكين، فضلاً عن الهيمنة الأبوية للدولة في المجتمعات الشرقية، التي لم تساهم في بلورة حامل اجتماعي، كان يمكن أن يفرزه صراع الطبقات على غرار ما حصل عشية الثورة الفرنسية والذي تمخض عنه نشوء البورجوازية الصاعدة على عكس الوضع العربي، حيث أبقي على تجاور الطبقات، وعلى الأشكال الماقبل رأسمالية ونظام القرابة. لا ضير من القول بأن تطور البلدان الغربية هو نتيجة تاريخية لتخلف البلدان المستعمرة، لأن “العلاقة الكولونيالية” دفعت وبشكل قوي تطور القوى المنتجة في البلدان الاستعمارية، وحدت من هذا التطور، في البلدان المستعمرة وهذا يفسر كيف أن البورجوازية يستحيل أن تصير في تطورها الطبيعي صناعية لأنها ولدت مشلولة وتابعة، الأمر الذي سد من آفاق تطور القوى المنتجة وأفشل عملية التطور الرأسمالي المستقل.
والبورجوازية السائدة اليوم، وهي بورجوازية مالية، ولدت من صلب البونابرتية البيروقراطية. هذه البورجوازية لا تساهم في عملية تنمية الانتاج، انما تسعى الى تنظيم المدخرات في الخارج، ولولا الطابع الريعي للبورجوازية، لكان بالامكان استيعاب الكتلة المهمشة من الفئات الشعبية، في مجالات كثيفة العمالة، فضلاً عن أنها لم تقم بثورة، على البنى التقليدية، مما أدى الى تخلف البنية التحتية والفوقية والتي تعود الى الماقبل رأسمالية.
وتخلف البنية الفوقية هو شرط لتجدد السيطرة الطبقية للفئة المهيمنة، وأساس بقائها ولهذا يرى مهدي عامل بأن التغيير النسبي والمحدود في البناء التحتي، الذي تلجأ إليه الطبقة المسيطرة، يستحيل أن يكون هدفاً للطبقة المسيطرة، لأنه وبأجهزته المختلفة هو عامل ديمومة سيطرتها الطبقية. والتغيير الذي تنشده لا يتعدى الاصلاحات الشكلية. كسر التوافق بين البناءين، لا يتم بشكل آلي، بل يتحقق في عملية معقدة من الصراع الطبقي والطبقة الثورية الجذرية هي المخولة بأن تحطم البناء الفوقي، أي يجب أن تعمل، على تفجير التناقض بين البناءين. عملية التحطيم هذه، لا تتطلب صراعات موضوعية فقط، بل تتطلب ايضاً الوعي وارادة حل تلك الصراعات. من هنا تنبع أهمية اطروحات غرامشي عن الارادة الذاتية ودور الحزب والتنظيم في فرض الهيمنة الثقافية، وتثوير وعي الفئات الشعبية. واذا لم تتبلور الطبقة الثورية النقيضة للسائدة التي من شأنها أن تفرض هيمنتها الثقافية والسياسية، هذا يعني بأن الطبقة المسيطرة سوف تسعى الى اعادة تجديد سيطرتها وهمينتها من خلال اعادة انتاجها لكل الاشكال المتخلفة كالطائفية واعادة انتاج الوعي الطائفي والتقليدي.
اذا التناقض بنيوي، وكامن في بنية هذا النظام الذي يقوم بتوظيف الطائفية التي تعود الى ما قبل الرأسمالية كي يحافظ على هيمنته الطبقية، وهو النظام السياسي الخاص بسيطرة البورجوازية وأسباب التأخر التاريخي كامنة في هذا النظام الاجتماعي المرتبط بنيوياً بالامبريالية. هذان النظامان، أي الكولونيالية والامبريالية ما انفكا يعيدان انتاج التأخر من خلال اعادة انتاج الاشكال الماقبل رأسمالية من أجل توظيفها في الحقل السياسي والمجتمعي كي يحافظا على هيمنتهما الطبقية.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…