عبد العزيز سلامي*

في مجتمعنا العربي و في المجتمع المغربي، ضيعنا فرصتنا أمام الحداثة، و ذلك حينما لم نطور نمط عيشنا تزامنا مع الثورة الثقافية التي حدثت في المجتمع الغربي، وقتها. أي بعد النصف الثاني من القرن العشرين. مما انعكس على الرهانات السياسية التي تُفرض اليوم عبثا على المجتمع، من دون أن يكون له أي دخل فيما حدث في البلدان العربية منذ أكثر من خمسين سنة، سياسيا و ثقافيا و أخلاقيا.
نثفق مع عبد الله العروي، حينما ربط تقدم مجتمع وفق الحرية الداخلية في تسيير شؤون الدولة. بعد التحرر من المستعمر، لم تدرك الدولة، بأنه كان عليها أن تطور نمط عيشها، في المستوى الأخلاقي و الديني و المدرسي؛ إذ بقيت المدرسة، حبيسة مقررات تستهدف خلق أطر للدولة، عوض تكوين طالب متحرر من سلطة هذه المدرسة، كما حدث في الصين، الثورة الخضراء و في فرنسا بعد ثورة1968، و ما أعقبها، من تغيير لنمط المدرسة السكولائية. و كمحاولة لإرضاء تعاطف المسلمين مع ماضي غابر، حافظت الدولة على الدين، باعتباره حلقة حاسمة في شد المستقبل إلى الماضي، و لو أن هذا الماضي، كان متعثرا، و لا يحضر باعتباره حاجة اجتماعية، إلا لأنه اعتبر حاجة ضدا على الحاضر بتغيراته و جديده و عوائقه الاقتصادية. قَبل المغربي، بواقع مزدوج النمط، رجل في القرون الوسطى و رجل في الحاضر، إلا أن هذه النظرة الالتفافية في الحياة، لم تعد في القرن الواحد و العشرين تُقبل، و تُعاش بنفس درجة التوازن التي كانت في القرن العشرين. إذ بات المغربي و العربي عامة، يعيش حياة الانسان العالمي، في جميع أنحاء الحياة، بفعل العولمة، إذ لم يعد الطفل في هذا العصر، يميز نفسه عن شخص في قارة أخرى، و إذا كانت له القدرة الشرائية، يمكنه أن يعيش نفس الطفولة التي يعيشها أمريكي أو روسي، لكن فقط بشكل خاص، و من دون أي علاقة بتمثلات الدولة لواقعه و لما يرغب فيه، لأن الدولة العربية بصفة عامة منفصلة عن المجتمع. لهذا، هذه العلاقة بين المجتمع و الدولة قد انفصلت جذريا، و ظلت ضمنية، تتلخص في الواجبات؛ لأنه كما قلنا لم تتخذ الدولة وسائل بيداغوجية و سياسية لربط تلك العلاقة الضرورية. فمثلا، في عدم قدرة الطفل على تحقيق جميع رغباته الاستهلاكية، ينمو داخله، سلوك عدواني و مرضي اتجاه كل ما يشكل ثقافته التي أضحت عالمية، لكنها بالنسبة له، ضيقة، و لا تلبي رغباته. لذلك، يفصل نفسه عن العصر، بالتفافه، نحو سلف، شحيح و مُتقادم و بسيط. إن بنية الاقتصاد، لا تنفصل عن بنية الثقافة، و بنية السياسة لا يمكن أن تعوض الحياة، فالسياسة وسيلة و ليست غاية في حد ذاتها. إن كل تمثل للحياة، من دون الأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى المُتغير، الذي هو العصر، بجديده العلمي و التقني و الثقافي، فهو تمثل ارتكاسي، يستند لماضي، لم يعد ضروريا. إن غياب الدولة، باعتبارها المخزن أو السلطة، أخفقت هذه المرة، بعد الربيع العربي ،أمام التجربة الديمقراطية، و التي تُوجت بأغلبية برلمانية إسلامية في مجموعة من الدول العربية، و ما هي إلا تحصيل حاصلtautologie، سياسة السلطة في انفصالها عن رأي المجتمع، باعتباره نخبة و حس مشترك. و يمكن القول، إن التجربة الاشتراكية، كما يقول العروي، كما حدث في روسيا و في مجموعة من دول أوربا الشرقية، أدت إلى تمدين المجتمع، و ما عاشته أمريكا من رأسمالية تحديثية، عاشته هذه الدول في الاشتراكية. لكن ماذا عن الدول العربية ؟ اعتمادا على التحليل النفسي للمجتمعات، يمكن القول، بأن الشعور العربي، لا زال يعيش على لاشعور قديم و سلفي، وجد الأرضية خصبة، و عاد لكي ينبث من جديد كحل لا شعوري. و كل ذلك لفراغ الوعي العربي من معرفة، و ثقافة، كان من الممكن أن تُحصل في الذهن أي معرفة علمية بالواقع، و كيفية التعامل معه، أكثر براغماتية. السلطة في المجتمعات العربية، في حيرة من أمرها : تمتلك الوسائل المادية، لكن تنقصها الوسائل الثقافية، إذ لا يمكن أن تصنع ثقافة مجتمع و تجددها في زمن قصير، بل إن كل مشروع ثقافي، تلزمه سياسة تهدف للمدى البعيد، لصنع المستقبل و مجاوزة هذا اللاشعور الأسطوري، و الذي يظل يحوم حول الذات و يمنعها من التقدم إلى أمام. إن التركيبة السياسية التي ستفرزها صناديق الاقتراع، هي حاسمة من جهتين : الأولى، أن الفئات الحداثية، و المتشبثة بالعصر بما كونته من معرفة بالواقع، لن تقبل بالعودة إلى تنظيم سياسي إسلامي المرجع، فكما لو أنه كابوس، سيعود مرة أخرى، بتمثلاته و أفكاره و إيديولوجيته القروسطوية. و من جهة أخرى، المجتمع بأغلبيته، الأمر عنده سيان، أن تتوج الانتخابات بفوز حزب معين، إذ الواقع أمامه مسدود الأفق، لا يمنحه التغير، و لا يشكل حلقة جديدة في حياته، لأنه لا يستفيد من السياسة، إلا ما تنص عليه الدولة، بمعنى المخزن، و أن الحياة مستمرة في تمثلات دينية للواقع، لا دخل فيها للبشر كي يغير الواقع من إنسان فقير إلى انسان متوسط الحال. كما أنه لا يمكن فصل هذا التمثل عند الأغلبية عن المدرسة، التي ركزت على تلقين نفس التمثل للواقع. إن الأخطاء السياسية، لا يمكنها أن تصنع ناخبا موضوعيا، بل المدرسة الجديدة، المتتبعة لآخر إنتاجات العلم، هي ما يمكن أن يصنع شخصا مستقلا في أفكاره، حازما و له صوت و سلطة في ربط رهان المجتمع بالدولة كجهاز في خدمة المجتمع.
ليست الحداثة هي التحديث، بل الحداثة هي الوعي بتغير الزمن كما يقول كانط، حينما يستقل الفرد بذاته، و يميز نفسه عن الغير،بقدراته الذاتية عن وعي بالواقع. إذ حينما يكون الفرد مسؤولا عن صياغة قانون الدولة بواسطة صوته.

*ذ. باحث في ع. النفس و ع. الاجتماع و الفلسفة.

التعليقات على السياسة بين سلطة التقليد و رهان الحداثة مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

التنسيق النقابي الوطني بقطاع الصحة يقرر “التصعيد” مع بداية السنة الجديدة

قرر التنسيق النقابي الوطني بقطاع الصحة، استئناف برنامجه الاحتجاجي مع مطلع السنة الجديدة بع…