عبد الحــق الريــكي
عشرة أفكار لمحاولة فهم الحضور الدائم لحزب الاستقلال لأكثر من سبعين سنة في المشهد السياسي المغربي وقدرته على التأقلم من جيل إلى جيل ولعبه أدوارا ريادية تجعل منه رقما مهما في كل التوازنات والمعادلات السياسية. سنتناول هذا الموضوع بعيدا عن المواقف المبدئية والإيديولوجية من هذا الحزب، بل سنركز على المعطيات والحقائق لفهم فاعلية واستمرارية هذا الحزب.
هم منشغولون بحزب الاستقلال
نحن منشغولون بالصراع القوي ما بين إلياس العماري عن حزب البام وعبدالإله بنكيران عن حزب البيجيدي، وهم منشغولون بحزب الاستقلال وأدواره المستقبلية… نحن، أي عامة الناس المتتبعون للشأن السياسي الوطني… أما هم، فيسميهم البعض بدوائر القرار والبعض الآخر بالدولة العميقة… وحين نتوقف لبرهة ونتعمق في الأشياء، نجد أنهم محقون في اهتمامهم بهذا الحزب التاريخي وتتبع مواقفه والعمل على احتواء طموحاته حتى يبقى في دائرة التوازنات المطلوبة….
حزب الاستقلال، طائر الفينيق المغربي
هذا الحزب يمكن اعتباره ظاهرة فريدة في عالمنا هذا… فهو من ضمن الأحزاب القليلة التي عايشت فترتين: فترة الاستعمار وحصول الاستقلال وفترة بناء الوطن… حزب رأى النور في ثلاثينيات القرن الماضي للمطالبة بالاستقلال وما زال إلى يومنا هذا فاعلا أساسيا في العمل الحزبي والسياسي والمؤسساتي… لقد اندثرت جل الأحزاب التي أُسِسَت في فترة الاستعمار أما حزب الاستقلال المغربي، أو حزب علال الفاسي كما ينعته البعض، ما زال حيا يرزق… ما السر وراء ذلك؟ الإجابة الوافية تحتاج إلى دراسات وندوات وأطروحات، لكني سأقدم بعض رؤوس الأقلام…
راهنية وصية علال الفاسي
يمكن أن أُلَخِّصَ وجهة نظري في قضايا كبرى مكنت هذا الحزب الوطني من الاستمرار في الفعل السياسي وحمل المشعل من جيل لآخر… أساسا، اعتبار المهمتين اللتين أسس من أجلهما حزب الاستقلال ما زالتا قائمتين… وهكذا، فنجد الزعيم علال الفاسي في كتابه “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”، الصادر سنة 1947 يحدد مهام الكتلة الوطنية في مهمتين إستراتيجيتين، حيث يقول في الصفحة 285 (الطبعة السادسة مصححة 2003): “لهذه الأسباب كلها يرى (حزب الاستقلال) أن يطالب – معبراً عن رغبات الشعب – بما يأتي: أولا – الاستقلال والوحدة التامة لجميع مناطق المغرب. ثانياً – تكوين نظام ديموقراطي… يضمن حقوق سائر العناصر والطبقات التي تتكون منها الأمة المغربية”…
استقلال كل شبر من الوطن ووحدة كل مناطقه وترسيخ النظام الديمقراطي وضمان حقوق المواطنين شعارات ما زالت تؤثت المشهد السياسي إلى يومنا هذا وما زال حزب الاستقلال يرفعها ويدافع عنها حسب الظروف والمناسبات…
“سلفية نبيلة”
حزب الاستقلال من ضمن الأحزاب القليلة في المشهد السياسي المغربي التي أولت اهتماما دائما لدور الدين الإسلامي في حياة المغاربة. هنا نستحضر دور الأب الروحي للحزب، الزعيم علال الفاسي، في نشر “السلفية النبيلة” والإسلام المعتدل الوسطي… أما اليوم، مع الصحوة والمد الإسلامي، فإن حزب الاستقلال، بمرجعيته الإسلامية السلفية، حزب “مقبول” من طرف العديد من التنظيمات الإسلامية ويمكن القول أنه الحزب الأكثر قربا من حزب العدالة والتنمية…
حزب وسط
حزب الاستقلال، استطاع بعد استقلال المغرب الحفاظ على دور وسيط ما بين النظام والمعارضة… فهو لم يقطع أبدا شعرة معاوية مع الملكية وعرف كيف يتفاوض حين مشاركته في الحكومات المتعاقبة ولدى انخراطه في كتلة المعارضة كما هو الحال مع “الكتلة الديموقراطية” حيث دفعا إلى المطالبة بتعديل الدستور ونظام الانتخاب ودمقرطة المؤسسات… والحقيقة أن حزب الاستقلال يزعج في المعارضة ومرغوب فيه في الحكومة… إنه حزب وسط بامتياز…
جيل الرواد ما زال فاعلا
هذا الحزب استطاع الحفاظ على وحدته وتمرير المشعل من جيل لآخر دون الحاجة إلى قتل الأب أو الانشقاق عنه، على خلاف أحزاب تاريخية أخرى، خاصة حزب الاتحاد الاشتراكي والذي عرف انشقاقات متتالية وابتعاد جل قادته التاريخيين عنه تاركين الحزب يعيش اليوم وضعا صعبا. جيل الرواد، الذين عاصروا فترة قيادة الحزب من طرف علال الفاسي، ما زال فاعلا إلى يومنا هذا ولو في الخفاء…
فعلى سبيل المثال، نجد أن قائد الحزب لفترة طويلة من بعد علال الفاسي، أعني الأستاذ محمد بوستة، كان له دور فعال في تقريب وجهات النظر ما بين حميد شباط وعبدالواحد الفاسي… الأستاذ محمد بوستة، القائد السياسي البارز، سيتذكره التاريخ بموقفه الشجاع حين رفض قيادة حكومة التناوب بمشاركة ادريس البصري وزير الداخلية القوي في عهد الملك الحسن الثاني… كما كان لقائد حزبي آخر، السيد امحمد الدويري، دور يذكر في عملية بروز وصعود نجم حميد شباط، الأمين العام الحالي لحزب الاستقلال، وجعل فاس قلعة الاستقلاليين لفترة طويلة…
قدرة على تقديم المنتوج المطلوب
أما اليوم، فحزب الاستقلال لا يجد صعوبات كبيرة في تقديم المنتوج المطلوب حسب الظرف… هكذا، حين كانت الحاجة إلى حكومة شبابية، قدم الحزب أطرا شابة من أمثال ياسمينة بادو وتوفيق احجيرة ونزار بركة وعادل الدويري… أما حين اشتعل لهيب الصراع داخل الحزب وخارجه ظهرت عناصر شابة لقيادة المعركة إعلاميا وتنظيميا ومؤسساتيا، أذكر من بينهم عبدالله البقالي وعادل بن حمزة وعبدالقادر الكيحل وكنزة الغالي… إنه حزب سلس في التنظيم والتأطير والاستقطاب… ناهيك عن وعيه الباكر بحاجة الحزب لشبكة مكونة من العائلات والجمعيات والمؤسسات ومعاقل انتخابية…
حزب الاستقلال مطلوب في المعارضة وفي الحكومة
نظرا لثقله السياسي حاول البعض الزج بحزب الاستقلال في معارك متعارضة مع طبيعة نشأته، وذلك لإضعاف حزب العدالة والتنمية الفائز بأول انتخابات ما بعد الربيع العربي… المشكل أن من خطط لهذا السيناريو نسي أن حزب الاستقلال لم يُخْلق ليلعب أدوارا ثانوية أو يكون تابعا… لم تدم تجربة الحزب في المعارضة طويلا حتى ظهرت التناقضات ما بين الطموح التاريخي للحزب والدور والمرتبة اللذان أراد البعض منحهما لهذا الحزب… فكانت القطيعة ورجوع الحزب إلى كينونته… وهكذا مر الحزب من المعارضة الشرسة إلى المعارضة النقدية وفك ارتباطه بحزب الأصالة والمعاصرة وتقرب من حزب العدالة والتنمية، مما جر عليه وما يزال الغضب الرسمي لوزارة الداخلية وقرارات انتقامية وتحذيرية في حق العديد من قيادييه الوطنيين والمحليين…
الصراع حول المرتبة الثانية ما بين حزب الاستقلال والبام
شكلت المنافسة القوية ما بين عبدالصمد قيوح عن حزب الاستقلال وحكيم بنشماش عن حزب الأصالة والمعاصرة لرئاسة الغرفة الثانية للبرلمان تسخينات ما قبل المبارزة الكبرى ما بين الحزبين خلال الانتخابات التشريعية للسابع أكتوبر 2016 لاحتلال المنصب الثاني ما دامت كل التكهنات، الخارجية والداخلية، تذهب في اتجاه ترجيح احتلال حزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى وقيادته الحكومة الثانية للربيع المغربي… ستكون المعركة حامية خاصة أن حزب الاستقلال استوعب الدرس جيدا خلال عملية انتخاب المجالس البلدية والقروية والجهوية… ألا يقال أن المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين…
حزب الاستقلال والتوازن المطلوب
نحن منشغولون بمن سيفوز برئاسة الحكومة المقبلة، هل هو إلياس العماري أم عبدالإله بنكيران؛ وهم منشغولون بما يدور في “العقل الجمعي” لقيادة حزب الاستقلال وعن نيته، انطلاقا من مصالحه، تقوية الجبهة الحكومية بالتحاقه بحزب العدالة والتنمية وتمكين هذا الأخير بالتفاوض بكل أريحية مع الأحزاب الراغبة في التدبير الحكومي… هذا السيناريو سيترك فراغا كبيرا في صفوف المعارضة بقيادة حزب جديد هو الأصالة والمعاصرة وحزب تاريخي ضعيف هو حزب الاتحاد الاشتراكي ومن تم منح فرصة لتيارات سياسية أخرى، من خارج البرلمان، لاحتلال ساحة المعارضة قولا وفعلا…
تمعنوا في هذه الأرقام لفهم محاولات البعض تعديل المنظومة الانتخابية. اليوم يتوفر حزبا العدالة والتنمية (107 مقعدا) والاستقلال (60 مقعدا) على ما مجموعه 167 مقعدا برلمانيا من أصل 395 أي أكثر من 40 بالمائة… ويُتَوقع أن يحصلا في الشروط الانتخابية الحالية على 190 مقعدا برلمانيا أي الاقتراب من الأغلبية النسبية، وهذا سيكون إنجازا تاريخيا في مغرب ما بعد الاستقلال… والواضح أن حزب الاستقلال يشغل بالهم ليل نهار…