ادعى المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت على أربعة قضاة بينهم النائب العام التمييزي، في إجراء غير مسبوق رفضته النيابة العامة التمييزية الثلاثاء، ما ينذر بأزمة قضائية وسط ضغوط سياسية عرقلت التحقيق منذ انطلاقه.
ورغم عشرات الدعاوى التي طالبت بعزله وعلّقت تحقيقاته منذ أكثر من عام، استأنف القاضي طارق بيطار الإثنين تحقيقاته في الانفجار. وحدّد الثلاثاء مواعيد لاستجواب 13 شخصاً مدعى عليهم، على أن تحصل في الفترة الممتدة بين 6 فبراير و22 من الشهر ذاته، في إطار دعاوى حقّ عام “بجرائم القتل والإيذاء والإحراق والتخريب معطوفة جميعها على القصد الاحتمالي”، من دون تفاصيل محددة حول المآخذ على كل من المدعى عليهم.
وجاء تحديد مواعيد الاستجواب غداة ادعائه على ثمانية أشخاص، بينهم النائب العام التمييزي غسان عويدات، إضافة الى ثلاثة قضاة آخرين، في إجراء غير مسبوق في تاريخ لبنان، البلد الذي تسود فيه ثقافة الإفلات من العقاب منذ عقود وتعطل التدخلات السياسية عمل المؤسسات الدستورية والقضائية.
وأوقع الانفجار في الرابع من غشت 2020 أكثر من 215 قتيلاً و6500 جريح. ومنذ البداية، عزت السلطات اللبنانية الانفجار إلى تخزين كميات ضخمة من نيترات الأمونيوم داخل المرفأ من دون إجراءات وقاية، واندلاع حريق لم تُعرف أسبابه. وتبيّن لاحقاً أنّ مسؤولين على مستويات عدّة كانوا على دراية بمخاطر تخزين المادة ولم يحرّكوا ساكناً.
وأوضح مصدر قضائي أن عويدات أشرف العام 2019 على تحقيقات أولية أجراها جهاز أمن الدولة حول وجود ثغرات في العنبر رقم 12 حيث كانت تخزّن شحنة نيترات الأمونيوم.
ومن بين الأشخاص الثمانية الذين ادعى عليهم الى جانب القضاة، المدير العام للأمن العام عباس ابراهيم الذي تربطه علاقة جيدة بالقوى السياسية خصوصاً حزب الله، اللاعب السياسي والعسكري الأبرز في لبنان، ومدير جهاز أمن الدولة طوني صليبا المقرب من الرئيس السابق ميشال عون.
وكان بيطار ادّعى في صيف 2021 على رئيس الحكومة السابق حسّان دياب وطلب رفع الحصانة عن نواب آنذاك، بينهم وزيرا الأشغال السابقان يوسف فنيانوس وغازي زعيتر، ووزير المالية السابق علي حسن خليل.
كما طلب الإذن لاستجواب كلّ من ابراهيم وصليبا.
وامتنع البرلمان السابق عن رفع الحصانة عن نواب شغلوا مناصب وزارية، ما حال دون استجوابهم، وامتنع مسؤولون عن منح بيطار الإذن لاستجواب مسؤولين أمنيين تحت سلطتهم، وامتنعت قوى الأمن عن تنفيذ مذكرات توقيف.
وردّ عويدات الثلاثاء على قرارات بيطار بتوجيه كتاب اطلعت وكالة فرانس برس على محتواه، الى “المحقّق العدلي المكفوفة يده”، وفق تعبيره، جاء فيه “نؤكد أن يدكم مكفوفة بحكم القانون ولم يصدر لغايته أي قرار بقبول أو برفض ردّكم أو نقل أو عدم نقل الدعوى من أمامكم”.
وكان التحقيق في الانفجار عُلّق في دجنبر 2021 جراء دعاوى رفعها تباعاً مُدّعى عليهم بينهم نواب حاليون ووزراء سابقون، ضدّ بيطار. واصطدم المحقّق بتدخلات سياسية حالت دون المضي بمهمته، مع اعتراض قوى سياسية عدّة أبرزها حزب الله، على عمله واتهامه بـ”تسييس” الملف، وصولاً إلى المطالبة بتنحّيه.
لكن بيطار أجرى مطالعة قانونية أعلن على أساسها قراره استئناف التحقيقات برغم الدعاوى المرفوعة ضده، ما أثار جدلاً قانونياً وسياسياً واسعاً.
وفور استئنافه التحقيق الاثنين، طلب بيطار إخلاء سبيل خمسة موقوفين منذ الانفجار ومنعهم من السفر، بينهم عامل سوري ومسؤولان سابقان في المرفأ.
وأفاد مسؤول قضائي فرانس برس أن النيابة العامة التمييزية، بتوجيهها الكتاب اليوم الى بيطار، تكون رفضت كافة القرارات التي اتخذها، بينها استئنافه التحقيق.
وجاء قرار بيطار استئناف تحقيقاته بعد نحو أسبوع على لقائه وفداً قضائياً فرنسياً زار لبنان بهدف الاستفسار عن معلومات طلبها القضاء الفرنسي الذي يجري تحقيقاً في باريس بشأن مقتل وإصابة فرنسيين في الانفجار.
في المواقف من استئناف التحقيق، قال المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل الإثنين لصحافيين “هذا الثوب القضائي الذي يفترض أن يكون أبيض اللون، للأسف تعرض للكثير من النقاط السوداء، أحدها ما جرى قضائياً في ملف المرفأ”.
وعنونت صحيفة “الأخبار” المحلية القريبة من حزب الله، مقالها الثلاثاء حول استئناف التحقيقات، بعنوان جاء فيه “طارق بيطار جُن”.
وكتبت “يجب انتظار مفاعيل الخطوة لاحقاً، فإما أن ينفجر الملف مجدداً وإما أن تكون خطوة البيطار مجرد قنبلة دخانية”، معتبرة أن قرار الاسئناف جاء “بقوة إسناد قضائي أوروبي وأوامر أميركية”.
وجدّد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس مطالبة السلطات اللبنانية بتحقيق “سريع وشفاف”. وقال في إيجاز صحافي ليل الإثنين “ضحايا انفجار آب/أغسطس 2020 يستحقون العدالة. ويتعيّن أن يحاسب المسؤولون” عنه.
ويؤجّج تعليق التحقيق والتدخّلات السياسية المتكرّرة غضب أهالي الضحايا ومنظمات حقوقية تطالب الأمم المتحدة بإرسال بعثة تقصي حقائق مستقلة.
واتهمت “منظمة العفو الدولية” في بيان الإثنين السلطات اللبنانية بإعاقة التحقيق “بشكل مخجل ومنهجي”، ودعتها إلى “اتخاذ كافة التدابير لضمان إمكانية استمرار التحقيق المحلي من دون تدخل سياسي، من أجل الوفاء بالتزاماتها بضمان الإنصاف عن انتهاكات الحق في الحياة”.