نزار الفراوي (و م ع)

قد يبدأ عبد الفتاح كيليطو كتابة النص بلغة وينهيه بلغة أخرى. الترجمة إذن لا تبدأ بذلك الفعل المعلن الذي ينقل النص الأصلي إلى لغة مغايرة، بل هي فعل صامت يمارسه الكاتب داخل المطبخ الحميمي للكتابة. ترن العبارة في خاطره ويجد نفسه منصتا لوقعها بلسان أجنبي، أو لدلالتها المحتملة.

كان كيليطو بذلك يزكي كلام مترجمه الذي حاوره، أمس الجمعة بالرباط في المعرض الدولي للنشر والكتاب، في جلسة احتشدت بعشاق الأدب ومتابعي تجربة فريدة في الكتابة النقدية والإبداعية، ومدرسة متميزة في تحيين قراءة النصوص الكلاسيكية، العربية والغربية على السواء. فعبد السلام بنعبد العالي، الفيلسوف الذي واكب نصوص صديقه كيليطو، في ثنائية خلاقة أثمرت توسيع نطاق تلقي أعمال كيليطو الصادرة بالفرنسية ليشمل أبعد تخوم العالم العربي، يقول إن ازدواجية اللغة تسكن النص الأصلي، إذ ثمة حوار خفي بين اللغتين، مستحضرا كتاب كيليطو “أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية”. بعبارة أكثر وضوحا: “في قلب كل كاتب يقبع مترجم”.

ماذا يحدث بين النص الأصلي وترجمته؟ هناك محبة وانجذاب. لا أحد منهما يود العيش دون الآخر، بل إن حياة كليهما رهينة بوجود الآخر. أحيانا يوجد تنافر، لكنه أساسا تنافر بين لغتيهما.

يمعن كيليطو في تجسيد العلاقة الحميمة بين النص وترجمته مستدعيا تلك العبارة الغرامية المألوفة: “لن أستطيع العيش بدونك”. الترجمة تعلق بالنص وتحن إليه لكنها لا تغني عنه. في المقابل، يتحدث عبد السلام بنعبد العالي عن حنين النص الأصلي الى ما يتمم لغته ويكمل نقصه. الترجمة إذن ليست نقلا آليا، بل تأخذ النص الأصلي الى تفجير المعاني والدلالات بما يتجاوز النوايا والمرامي الواعية للمؤلف. لذلك يتحدث الفيلسوف المترجم عن “دين متبادل” بين الناقل والمنقول.

لا المترجم ولا المؤلف يتحكمان في اللعبة، لأن الترجمة عملية معقدة تتجاوزهما. يقول بنعبد العالي إن الترجمة تكشف للمؤلف نفسه ما تضمره اللغة الأصلية، إنها تكشف الخصائص الخبيئة للنص. لذلك فإن تهمة الخيانة لا تخص المترجم حصرا، بل تطال المؤلف أيضا، لأنه لا يتملك المعاني ولا يتحكم فيها. النص يفلت من قبضة صاحبه.

فعل منفتح بامتياز يقود كيليطو الى القول إنه لا يمكن أن يتفق مترجمان على ترجمة جملة تنتمي الى الأدب. قد يبلغ الاختلاف حد العداوة. خلاصة ساخرة يلقي بها صاحب “حصان نيتشه” الذي لا يتشدد في سياق مراجعة ترجمات نصوصه الا تجاه العنوان والفصول. لم يتردد في التوقف عن قراءة ورقته المختصرة التي تعددت طياتها، والزج بالجمهور في اختبار مفتوح يكشف الصعوبة الأزلية لفعل الترجمة. كيف تترجمون: fins de la littérature ؟..بعضهم قال: نهايات، وآخرون: غايات. ابتسم كيليطو..ثم لم يفصل.

عكس تدفق أسئلة الحضور تلك النكهة الخاصة التي يكتسيها متن كيليطو، وحقيقة أن نصوصه صنعت طائفة متذوقة من القراء يتابعون مشروعه بشغف المريد. أسئلة قلقة قابلها كيليطو، على عادته، بأجوبة مفتوحة وشديدة الاقتضاب. يبدو مترددا في الحسم، حتى في القضايا التي تبدو قريبة من البداهة. كان يصدر أزمة الجواب باسما الى صديقه عبد السلام، لكنه انبرى متحمسا وهو يقول: “النص الحي هو الذي تعاد ترجمته. توقف الترجمة يعني وفاة النص”.

صورة صداقة فكرية على جناح الكتاب بين كيليطو وبنعبد العالي تجسدت في معروضات رواق دار منشورات المتوسط التي أصدرت لهما رواية “والله إن هذه الحكاية لحكايتي” وكتاب “عبد الفتاح كيليطو أو عشق اللسانين”.

التعليقات على في جلسة احتشدت بعشاق الأدب.. عبد الفتاح كيليطو يبدأ كتابة النص بلغة وينهيه بلغة أخرى مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

أخنوش: نراهن على إرادتنا السياسية القوية والهيكلة الحكومية الجديدة لتطوير التجارة الخارجية