بمناسبة الذكرى الاولى لغياب الاستاذ محمد العربي المساري
كتاب “رياح الشمال” الاسترجاع التاريخي والزمن الراهن
عزيز قنجاع
نجد أنفسنا ونحن نقرأ كتاب السي محمد العربي المساري “رياح الشمال” أمام سؤال أكيد انتاب العديد ممن سنحت له فرصة الاطلاع على هذا المولود الأدبي الفريد، وهو تحت أي جنس أدبي يمكن إدراج هذا الكتاب الذي يبدو أن صاحبه استغرق مدة ليست بالقصيرة في إعداده وتحضيره ليصير مادة قابلة لفعل القراءة. أكيد أن العديد منا ستصيبه الحيرة في إيجاد باب من أبواب الفنون يمكن أن يقال أن هذا الكتاب يعد إضافة له أو يندرج في بابه، إلا أنني أؤكد في البداية أن كتاب رياح الشمال حين يحاول أن يعرف بالمنطقة الشمالية ويستجلي حقبة من تاريخها وفي القلب منها مدينة تطوان، فإنه يدمج بين مضمونين في هذا النوع من الكتابة: مضمون تقليدي وآخر حداثي.
فالمضمون التقليدي وينتمي إلى تراث أدبي أصيل تفردت في ريادته الكتابة التاريخية المغربية حينما خرجت عن ضغط المدارس التاريخية المشرقية ونحتت لنفسها مسارا جديدا خالف أصولها في التأليف التاريخي الموسوعي الذي يعتني بذكر الأحوال العامة لكل الآفاق والأجيال والأعصر كما فعل المسعودي في كتابه مروج أو كما فعل الإمام ابن كثير وابن الأثير، والطبري وغيرهم. إلا أن المدرسة التاريخية المغربية شقت لنفسها طريقا خاصا في الكتابة التاريخية سيكون له تأثير كبير في إفادة البحث التاريخي المعاصر، ومده بمادة تاريخية خبرية دسمة شارك فيها مؤرخون مغاربة وأندلسيون.
ويمكن القول إن المؤرخ ابن حيان الأندلسي قد أصل لهذا النوع من الكتابة عندما قام بإتباع شكل الكتابة الصحفية اليومية وهو يسرد أخبار قرطبة، وقد سار على منوال ابن حيان مؤرخون مغاربة آخرون، ولا نشك أن صاحب كتاب “الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية” لمؤلف مجهول كان أول مغربي اختار التأريخ لمدينته مراكش منذ تأسيسها وتتبع تطورها التاريخي وتوسعها العمراني، وقد أصبح هذا النوع من الكتابة التاريخية راسخا في التأليف التاريخي المغربي فجميع المؤرخين الذين اختاروا تدوين أحداث عصرهم وطنوها ضمن تطورات أحوال مدنهم ويعد كتاب “الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس” نموذجا متفردا لهذا النوع من الكتابة التاريخية حيث ضمن صاحب هذا الكتاب علي ابن أبي زرع الفاسي كتابه أحداثا ونقل عن مخطوطات متنوعة المصدر والمنشأ للتعريف بفاس ونواحيها وأحداثها ورجالاتها. إلا أن ما يجب الإشارة إليه هو أن هؤلاء الكتاب رغم محاولاتهم التركيز على التأريخ لمدنهم فقد انساقوا إلى ملامسة آفاق تاريخية شاسعة شملت البلاد كلها إن لم نقل أقطارا عدة، ونذكر في هذا الصدد المؤرخ الكبير ذو الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الكبير “الإحاطة في أخبار غرناطة”. وهو الشيء الذي حاول مؤلف كتاب “إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس” عبد الرحمان بن محمد السجلماسي المعروف بابن زيدان تجاوزه بالتركيز على أخبار حاضرة مكناس حيث جمع في مؤلفه هذا نصوصا متفرقة لمؤرخين من كل الآفاق وشهادات الرحالة ومجموعة متفرقة من مختلف أطياف الوثائق لتثبيت تاريخ شامل كامل مانع لحاضرة مكناس وكذلك ونفس الأمر يقال عن السي محمد داوود الذي أرخ لمدينته تطوان. ولم نذكر في هذا الباب مؤلفين اهتموا بتاريخ مدنهم بالتركيز على التاريخ لأوليائها وهناك من اهتم بالتاريخ لقضاتها مثل الخشني القروي الأندلسي وكذلك المؤرخ المغربي الشريف أبي عبد الله محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني في كتابه “سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بمدينة فاس” والعنوان هذا يعفينا من شرح مضمونه.
أما عن الجانب الحداثي في عمل السيد العربي المساري، فيبدو أن كتاب “رياح الشمال” أنبني على استخطاطيات واعية ودقيقة، تساءل الأولى العلاقة القائمة بين الذات في استمراريتها والثانية العلاقة التي ينسجها الآخر حين يكون موضوع اشتغاله ذاتنا، أي البراني المقابل بالنسبة له، لذا استعمل الكاتب المادة الخبرية بجميع أصنافها واستغل جنس الرواية والعمل الصحفي والانطباعات والمذكرات الشخصية والرسائل ليعيد بناء صلة ما مع الماضي الممتد من الفترة 1860 إلى تاريخ الاستقلال، هذا الماضي الذي يبدو ظاهريا في الكتاب كاستحضار قيمي للاعتبار والاقتداء، وهو الأمر الذي نتوهمه ونحن نطالع الكتاب من خلال الشخصيات الثلاثة الأولى التي يقترحها علينا السيد العربي المساري، وهي شخصيات طبعت مسار العمل الوطني واختلفت في رؤاها المتباينة لمداخل العمل السياسي، وهم السادة: عبد السلام بنونة، وبن عبد الكريم الخطابي، وعبد الله كنون، فما الفائدة من هذا الاستحضار في كتاب لا يود أن يكون صاحبه ساردا للتاريخ فحسب، وهذا ما يجرنا لسؤال آخر حول نظرة العربي المساري إلى هذا التاريخ.
إن استثارة الماضي عند المفكر العربي المساري هي بين أكثر الاستراتيجيات شيوعا التي يعتمدها في تأويلات الحاضر، وما ينفح مثل هذه الإستراتيجية الحياة بالنسبة له ليس الخلاف على ما حدث بالماضي وما كانه الماضي فحسب، بل هو أيضا اللايقين مما إذا كان الماضي ماضيا فعلا منتهيا ومختتما، أم كان لا يزال مستمرا لكن في أشكال قد تكون مختلفة. كما أن هذه المشكلة تنفح بالحياة كذلك أنواعا شتى من المناقشات حول التأثير وحول اللوم والمحاكمة والمسؤوليات وحول الوقائع الراهنة وواقع الحال في الراهن أيضا والأولويات المستقبلية، وبصيغة أكثر وضوحا حول تصورنا للعدالة الانتقالية كما قادها المغرب في الآن بصيغ تغاضى فيها عن الإشكال الجغرافي الضاغط في الكتاب. إن الحس التاريخي عند محمد العربي المساري يتضمن إدراكا حسيا لا لماضوية الماضي فقط، بل لحضوره أيضا بوجود متآين ويؤلف نظاما متحاينا واعيا حد الوعي لموقعه في الزمن محاولا تأسيس لاستمرارية مع ماض تاريخي ملائم، فالتأريخ للاختيارات السياسية الثلاث لمداخل العمل الوطني من خلال رجال بعينهم هي تذكير بالإحالة على الآن الذي لا زال يراوح نفس الإمكانيات والأطروحات الماضية في الفعل السياسي.
في الجهة المقابلة، يبدو الآخر طاغيا في الحضور في كتاب رياح الشمال، بل هو البوصلة التي تنتظم بها درر الكتاب، فحتى في نقاش مواضيع معرفية وأدبية كما هو الحال في فصل حول الصراع الثقافي في تطوان خلال الخمسينات ورغم ما قد يبدو عليه الأمر من كونه نقاشا معرفيا إلا أنه في العمق يسيح إلى مستويات مرتبطة بالموقف من الأخر المستعمر الاسباني، كما هو الحال في المقال النقدي الذي دبجه محمد العربي الخطابي في حق قصيدة قالها السيد محمد الكبداني والتي كان لها تداعيات سياسية أججتها النزاعات القائمة بين التيارات السياسية المتقاسمة للفعل السياسي بتطوان، ويبدو الأمر أكثر وضوحا في الفصل المخصص لتنظيمات الحركة الوطنية في تطوان التي تبدو صراعات عصية عن الفهم إذا ما تم تغييب العنصر المركزي في العملية السياسية وهو ذلك الاسباني القابع في الإدارة والذي يخطط للمستقبل ويساهم في خلق تنظيم ويعمل على تسييج آخر، ويستدعي حلفاء جدد، ويحيي طرقا قديمة، في الوقت الذي تبدو فيه حركية التنظيمات السياسية كقطع شطرنج تتقاذفها الاستخطاطيات المدروسة للإدارة الاسبانية. أو ليس للأمر استمرار جارح في حاضرنا.
يبدو الأمر نفسه قائما بالنسبة لعلاقاتنا مع الآخر على مستوى التمثل، فالتاريخ المغربي كما يتأوله الوطنيون بالمنطقة الخليفية يجلو الوعد غير المنجز غير المشبع بالتحرير والرفاه ومستتبعاته وهو وعد انتهكته إسبانيا وثلة من العملاء حسب منظورهم، وتقوم الرؤية الأخرى الاسبانية على كونها قوة مقرة للحق معيدة الأشياء إلى نصابها حامية لنا من طيشاننا وصبيانيتنا المتأصلة في إفريقيتنا أو عروبيتنا أو إسلامنا، وهو ما نفهمه من الحوار الذي دار بين الجنرال فرانكو والأمين الريحاني، فكلا التأويلين صمدا طويلا ولازالا يملكان قوة الحضور في تفكير الطرفين، فإذا عدنا إلى الكتابات الاسبانية خلال المد الكولونيالي بين 1860 و1912 ومن خلال أعمال متعددة تميل إلى صنع تمثيلات للسيطرة على الثقافات الأجنبية، لكل من الكاتب الاسباني بيدرو دي ألاركون في كتابه “صفحات شاهد على حرب إفريقية ” وبيرث غالدوس والأب مانويل كاسطيانوس، حيث لا تعيد سردياتهم فقط إنتاج الأقاليم القصية البعيدة، بل إنهم يكتشفون طبيعتها، أو ينفحونها بالحياة مستخدمين تقنيات سردية ووجهات نظر تاريخية واستكشافية وأفكارا وضعية، فهذا بيريث غالدوس يسمح لنفسه بالحديث عن تطوان حتى قبل أن يراها وتطلع إليها كمدينة تحتضن سحر الشرق وينسج هذا الأخير حوارا مع شخصيات منها لا تقول إلا ما تتطلع إليه مخيلة الكاتب، كأنه لا يمكن لمحلي من كسطييخوس أو تطوان أن يتكلم كلاما متناسقا إلا بمسوغ إسباني، فلولا سرديته المصوغة بتمعن لما كان ثمة تاريخ يستحق الإخبار عنه، وهذا بيدرو دي ألاركون يشبه تطوان “كمدينة من العاج” مستعملا توصيفا يتماشى وتصور إفريقيا التي يقتحمها الجيش الاسباني وتصور عن ساكنتها السود كما ورد بكتاب “رياح الشمال” ويراها كذلك مدينة “ذات مظهر شديد الإغراء” فتحضر تطوان بالصورة التي تبلورها هذه الكتابات منشبكة غامضة متعالقة من هذا التزاحم القائم دائما على أبواب المخيلة الامتلاكية التحكمية كأقرب نقطة يمكن بلوغها تملكيا لتطوان، والتشبث بها والتفكير فيها وهو دخول عالي التخصص إلى أماكن جغرافية ستبقى دائما حلبة للصراع، وهو استحضار وجر قسري للعالم غير الغربي إلى التمثيلات من أجل التمكن من رؤيته ومعرفته معرفة متقنة وفوق كل شيء من أجل القبض عليه والاحتفاظ به. كما تبدو طنجة من خلال جريدة الصباح مكانا مستباحا مكانا للتطاحن السياسي والدبلوماسي والعسكري الدولي حيث تحضر القوة في أعلى صورها ممتلكة القدرة والطاقة على تقديم فرجة مثيرة بل مفرطة في ذهاب الأساطيل الحربية ومجيئها في استعراض باذخ للقوة، إنه تاريخ الأخر على أرض الغير.
ونجد في نفس الوقت وبعد نصف قرن ونيف من الاستقلال تصدر وفي سنة 2009 بالضبط كما هو مثبوت في كتاب “رياح الشمال”، تصدر لكاتبة إسبانية إسمها مارية ضوينياس رواية ترجم عنوانها السيد المساري ب” الزمن بين غرزة وأخرى” جرت أحداثها بين 1936 و1939 بين طنجة وتطوان، لم تذكر صاحبتها فيها ولو شخصية مغربية واحدة ما عدا الشغالة، تبدو الحبكة الروائية كما بسطها السيد العربي المساري جميلة وفي مستوى عال ولكن إذا قمنا بفتح هذا النص على ما اندرج فيه وعلى ما أقصته مؤلفته أيضا على اعتبار أن الرواية شكل ثقافي موسوعي فإننا نلاحظ أن الحضور الاسباني بتطوان يصبح هو التاريخ الحقيقي الوحيد الجدير بأن يسرد ويصبح هذا الحضور يصاغ كسردية خارجية، بل يصبح جوهرا لا يخضع للزمن أو التأويل، فرواية “الزمن بين غرزة وأخرى” حين تلغي الأصلاني المحلي التطواني، فإنها تغطي بشكل أنيق مصادرة إسبانيا للمجال التطواني حيث تتخذ القوة الشكل الإنشائي المتمثل في إعادة تشكيل أو إعادة ترتيب المادة المعلوماتية، وهي ليست ملزمة بإرضاء أو إقناع الجمهور المحلي الأصلاني هذا، بل لقد بنت رؤيتها الفنية والسردية على صمت الأصلاني وغيابه. إن ما بدا أنه مؤكد بالنسبة لهذا العمل الإبداعي هو رؤيا للحظة تاريخية محددة كان لزاما على الكاتبة أن تقحم رؤيتها تجاوريا مع الرؤى التنقيحية المتنوعة التي استثارتها فيما بعد كتابات أخرى من نفس النوع تلك التي أبدعها جون أوستن و كونراد وفلوبير ونرفال والتي أخذت حصتها من النقد الطاعن في شرعية تملك الفضاء والبشر المغاير المختلف.
ماذا تغير بين 2009زمن نشر الرواية و1860 في النظرة والرؤية سؤال ؟..
تبدو كتابات محمد العربي المساري قوية بسبب التذكير بإشكالات نعتقد جميعا أنها محسومة، أو موضوعة على جدول التاريخ، أو بديهية بسبب المعايشة، لذا كلف الكاتب نفسه تذكيرنا دائما وفي كل كتاباته بأن الاطمئنان إلى البداهات غبن للتفكير.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…