د. هشام مدعشا*

أقر الاتحاد البرلماني الدولي في العديد من قراراته بالدور الأساسي للبرلمانات الوطنية في مجال العدالة الاجتماعية()، والتي تؤكد كلها على أن للبرلمانات الوطنية دورا أساسيا في تدعيم مختلف الجهود الوطنية والدولية في مجالات “القضاء على الفقر وتعزيز العمالة الكاملة والعمل اللائق والمساواة بين الجنسين وتحقيق الرفاه الاجتماعي والعدالة الاجتماعية للجميع”، وهي المجالات التي وردت كأولويات في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 26 نونبر 2007()، الذي أقر إعلان الاحتفال سنويا بيوم 20 فبراير بوصفه اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، اعتبارا من الدورة الثالثة والستون للجمعية العامة.7A7C71C0-2D94-435A-BD14-E274EB2616A7-3366-000004AA6A272F0E
1- الإطار المرجعي للعدالة الاجتماعية:
هناك العديد من المجالات والأولويات والأهداف التي تشكل عناصر للتعريفات الإجرائية المختلفة التي أنتجتها منظومة الأمم المتحدة ومختلف المنظمات الإقليمية الأخرى لمفهوم العدالة الاجتماعية، ذلك أن الأمم المتحدة قد وضعت في تقريرها المعنون “العدالة الاجتماعية في عالم مفتوح : دور الأمم المتحدة”)(، تعريفا للعدالة الاجتماعية مفاده أن تحقيق هذا المبدأ يكمن في توزيع ثمار النمو الاقتصادي بعدل وإنصاف، ويتضح من هذا التعريف الإجرائي، تقاطع مفهومي النمو الشامل والتنمية المستدامة مع مفهوم العدالة الاجتماعية. ولا يسمح المجال هنا للتفصيل في مختلف العناصر المرجعية الأممية ذات الصلة بهذا الموضوع لتنوعها وتعددها وغناها()، لذلك سنحيل هنا فقط على ما هو موجود في منظومتنا المعيارية الوطنية، وفي مقدمتها الدستور الذي يتضمن مبادئ والتزامات إيجابية، وكذا أهداف ذات قيمة دستورية تندرج جميعها في غاية تحقيق العدالة الاجتماعية.
وتبعا لذلك، فقد كرس اختيار المملكة الذي لا رجعة فيه في “إرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم في نطاق التلازم بين الحقوق والواجبات”، كما يحظر كافة أشكال التمييز. كما نص الفصل 6 الذي ينص على الالتزام الإيجابي للسلطات العمومية ب” توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين والمساواة بينهم ومشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية”، فيما يحدد الفصل 31 نطاق ومجال الالتزامات الإيجابية للدولة والمؤسسات العمومية والجماعات في تعبئة الوسائل الضرورية لضمان التمتع الفعلي للمواطنات والمواطنين على قدم المساواة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية.
وضمن نفس المنطق، نص الدستور على التزامات إيجابية تتعلق بحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لفئات عمرية ومجتمعية، تحقيقا للطابع الإدماجي للعدالة الاجتماعية. ويمكن التذكير في هذا الصدد، بمقتضيات الفصل 3 فيما يتعلق بالأطفال، والفصل 33 فيما يتعلق بالشباب، والفصل 34 بخصوص الالتزام الإيجابي للسلطات العمومية بمعالجة الأوضاع الهشة لفئات من النساء والأمهات والأطفال والأشخاص المسنين وضمان المشاركة الفعالة للأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع. نفس المنطق الموجه إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، يشكل إطار قراءة للتكريس الدستوري لحق الملكية وأهداف إمكانية الحد من نطاقها و ممارستها بموجب القانون.
كما نص دستور 2011، من جهة أخرى، على عدد من القواعد الأفقية الضامنة للعدالة الاجتماعية، كما هو الشأن بالنسبة لمقتضيات الفصل 36 وضمانات مكافحة الفساد التي ينص عليها، والفصل 39 الذي يلزم الجميع بأن يتحمل التكاليف العمومية، كل على قدر استطاعته، و الفصل 40 الذي يلزم الجميع بأن يتحمل بصفة تضامنية، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد.
ويتضمن دستور 2011 أيضا، آليات ذات طبيعة معيارية تساعد على برمجة وإعداد السياسات العمومية الموجهة لتحقيق العدالة الاجتماعية، خاصة في مقتضيات الفصل 71 من الدستور، وفي البند الأول من الفصل 77، الذي ينص على المسؤولية المشتركة للبرلمان والحكومة في الحفاظ على توازن مالية الدولة.
كما تجدر الإشارة أيضا، إلى الأهمية الفائقة لمبادئ التنظيم الجهوي والترابي في تحقيق العدالة الاجتماعية، خاصة مبدأي التعاون والتضامن المنصوص عليهما في الفصل 136 من الدستور().
وهكذا، يمكن أن نلاحظ أن الإطار الدستوري الوطني يتلاءم مع التزامات المغرب الاتفاقية ومتطلباتها المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، لاسيما تلك الناتجة عن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية حماية حقوق العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. وهنا ينبغي التذكير بكون هذه الخلاصة تجد مستندها في تأكيد الخطاب الملكي ل 17 يونيو 2011 حول مشروع الدستور، على ” دسترة كافة حقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها عالميا، بكل آليات حمايتها وضمان ممارستها”.
كما تشكل التعليقات العامة لهيئات المعاهدات المذكورة، والملاحظات الختامية وتوصيات أصحاب الولايات برسم المساطر الخاصة، والتوصيات الموجهة إلى بلادنا في إطار الاستعراض الدوري الشامل، وكذا أولويات العدالة الاجتماعية الواردة في الرسائل السنوية التي يوجهها الأمين العام للأمم المتحدة منذ سنة 2009، في 20 فبراير من كل سنة بمناسبة اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، موجهات للسياسات العمومية الوطنية الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وهذه الموجهات، يمكن استثمارها لوضع سياسات هادفة لتعزيز التماسك الاجتماعي والتضامن، ولوضع آليات قانونية وسياسات واجتماعية منصفة ومدمجة، ترتكز على تأمين الولوج للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية (خاصة التعليم والصحة والتشغيل والسكن اللائق)، وتهدف إلى تحقيق الدمج الاجتماعي، وتعميم الحماية الاجتماعية (خاصة بالنسبة للفئات والأفراد الأكثر احتياجا)، والعدالة التوزيعية والضريبية المنصفة (خاصة على مستوى إصلاح هيكل الأجور والدخول وتقوية شفافية النظام الضريبي فيما يخص إعادة توزيع الدخول وطريقة توزيع الأعباء الضريبية)، بالإضافة إلى تأمين الخدمات الاجتماعية اللازمة للعيش بكرامة وتوليد فرص العمل اللائق والعمالة الكاملة والمنتجة().
2- البرلمان المغربي وموضوع العدالة الاجتماعية، تجربة مجلس المستشارين:
تتمثل أهم التحديات التي من المفروض على البرلمان المساهمة في تقديم عناصر حل بشأن العدالة الاجتماعية، كمفهوم مهيكل للسياسات العمومية، في كيفية ضمان التقائية هذه الأخيرة بشكل يجعلها موجهة لتحقيق العدالة الاجتماعية، ليس على المستوى القطاعي فقط، وإنما على المستوى الترابي أيضا. كما تتمثل إحدى التحديات الهامة في تحقيق استهداف أنجع لسياسات العدالة الاجتماعية للفئات الهشة وكيفية إدماجها. وهي كلها تحديات يمثل إعمال الالتزامات الدستورية الإيجابية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية كما تم التطرق إلى بعضها مدخلا أساسيا لرفعها.
وتعتبر تجربة مجلس المستشارين، بمعية شركائه الوطنيين والدوليين، تجربة تستحق الانتباه لكونها تحاول المساهمة في مناقشة هذه التحديات وتقديم عناصر إجابات لرفعها، في إطار أجرأة الهدف الثالث من استراتيجية عمل المجلس المتمثل في جعله فضاء للحوار العمومي والنقاش المجتمعي التعددي، لا سيما بخصوص الموضوعات الرئيسية لإعمال الدستور وتحقيق الطابع الفعلي للتمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية(). وفي هذا السياق تعمل هذه المؤسسة الدستورية على تنظيم المنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية كل يوم 20 فبراير من كل سنة في إطار إحياء اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، والذي يصادف ذكرى “حركة 20 فبراير” وما تحمله من دلالات وعبر في السياق السياسي الوطني الراهن على اعتبار أن من مطالب هذه الحركة الأساسية تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية. ويهدف هذا المنتدى من خلال أدبياته ووثائقه، الذي تشارك فيه مجموعة من الهيئات الدولية والإقليمية والوطنية والمؤسسات البرلمانية والحكومية وغير الحكومية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنقابية والمدنية والأكاديمية والإعلامية، إلى تحقيق أربع أهداف أساسية:
أولا، استكشاف سبل تحديد تشاركي لمعالم نموذج مغربي للعدالة الاجتماعية بالارتكاز على الفرص الدستورية الجديدة، وعلى مكتسبات المبادرات الوطنية الرائدة في هذا المجال، وكذا التزاماتنا الاتفاقية، وذلك في تكامل تام مع أجندات التنمية المستدامة والتنمية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية على المستوى الأممي.
ثانيا، تحديد أدق لدور البرلمان في بناء النموذج المغربي للعدالة الاجتماعية، انطلاقا من أدواره الدستورية في مجال التشريع والمراقبة وتقييم السياسات العمومية والدبلوماسية البرلمانية.
ثالثا، استكشاف سبل الترافع، بمعية شركاء وأصدقاء بلادنا، من أجل إغناء المنظومة الأممية للعدالة الاجتماعية، بمساهمة وطنية يتوقع إنتاجها من خلال المنتدى المزمع عقده.
رابعا، إرساء آلية مستدامة لحوار عمومي تشاركي وتعددي مع الفاعلين المدنيين والاقتصاديين والاجتماعيين والجماعات الترابية حول العدالة الاجتماعية.
ويمكن أن نذكر هنا بالدوارات السابقة وما تمخض عنها، حيث تم تنظيم المنتدى البرلماني الدولي الأول للعدالة الاجتماعية تحت شعار “تنمية الكرامة الإنسانية لتمكين العيش المشترك” يومي 19 و20 فبراير 2016، فيما نظمت النسخة الثانية للمنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية تحت شعار “مأسسة الحوار الاجتماعي: مدخل أساسي للتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية” يوم 20 فبراير 2017.
وقد أفضت النسخة الأولى من هذا المنتدى إلى وثيقتين غاية في الأهمية، يتعلق الأمر بكل من “الوثيقة المرجعية بشأن معالم النموذج المغربي للعدالة الاجتماعية”، و”إعلان الرباط للعدالة الاجتماعية”، الذي أدرجه الاتحاد البرلماني الدولي ضمن الوثائق المرجعية، برسم الفترة الممتدة من سنة 2017 إلى منتهى سنة 2021.
حيث اهتمت الوثيقة المرجعية بشأن معالم النموذج المغربي للعدالة الاجتماعية بتحديد المرجعيات الأساسية للنموذج المغربي للعدالة الاجتماعية (المبادئ ذات القيمة الدستورية، الآليات ذات الطبيعة المعيارية المساعدة على برمجة وإعداد السياسات العمومية الموجهة لتحقيق العدالة الاجتماعية، الاتفاقيات والإعلانات الدولية ذات الصلة، الخطب والرسائل الملكية)، وعملت على ترصيد التجارب الوطنية والسياسات العمومية الموجهة لتحقيق العدالة الاجتماعية، كما وضعت توجهات ومعالم الإجابة عن مجموعة من التحديات الأساسية.
فيما دعا “إعلان الرباط للعدالة الاجتماعية” إلى التصدي للتحديات ذات الأولوية والمتعلقة بتعزيز أسس التضامن الاجتماعي الفئوي والمجالي، والجيلي، واستكمال تحديد المعالم الكبرى لنموذج وطني لتوزيع ثمار النمو الاقتصادي، وضمان الشروط المنهجية والمؤسساتية الضرورية لضمان التقائية السياسات العمومية القطاعية والترابية الموجهة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، وكذا السياسات المندمجة الموجهة نحو فئات خاصة كالأطفال والشباب والمسنين والأشخاص في وضعية إعاقة ، وتقوية وتوسيع الولوج إلى العرض الوطني المتعلق بالحماية الاجتماعية، وتصحيح نقط ضعف المنظومة الوطنية للعمل اللائق وتوفير فرص ولوج الشباب والنساء إلى سوق الشغل إلى جانب تقوية المكتسبات الوطنية في مجال الحوار الاجتماعي عبر مأسسة وإدماج البعد الترابي، وبعد المقاولة وحقوق الإنسان فيه وتجديد أجندته وموضوعاته الرئيسية، والحماية من الآثار الاجتماعية للتقلبات المناخية في إطار متطلبات التنمية المستدامة وذلك عبر آليات دعم عمومي ملائم.
ومن أهم وثائق الدورة الثانية لهذا المنتدى ، وثيقة مبادئ توجيهية من أجل إعادة بناء المنظومة الوطنية للحوار الاجتماعي، التي تعد مساهمة من هذه المؤسسة، في تعميق وتوسيع النقاش المجتمعي التعددي، بشأن إعادة بناء المنظومة الوطنية للحوار الاجتماعي ومأسسته في أفق مواجهة العديد من التحديات ذات الأولوية ومنها: دراسة مختلف السيناريوهات الممكنة والملائمة لمأسسة الحوار الاجتماعي، وإحداث مؤسسة وطنية قائمة الذات تعنى بتأطيره وتنظيمه، وإعادة تحديد صلاحيات ومجالات عمل مختلف المكونات المؤسساتية للمنظومة الوطنية للحوار الاجتماعي، ضمن منطق تكامل الأدوار بين هذه المكونات، وإدراج موضوعات جديدة على طاولات الحوار الاجتماعي من قبيل، المساواة بين الجنسين، ومكافحة التمييز في سياق العمل، والقضاء التام على تشغيل الأطفال، وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في مجال العمل، وتأهيل القطاع غير المهيكل وحقوق العمال المهاجرين، والقضايا البيئية المتعلقة بأعمال المقاول…()
ويستعد المجلس، في إطار التكليف الملكي السامي لهذه المؤسسة بمتابعة مسار البناء التشاركي للنموذج المغربي للعدالة الاجتماعية، وفي إطار تفعيل التوصية الصادرة عن الدورة التأسيسية للمنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية بتاريخ 20 فبراير 2016، الداعية إلى تنظيم المنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية على نحو دوري ومنتظم، إلى تنظيم خلال يومي 19 و 20 فبراير الجاري 2018 الدورة الثالثة من هذا المنتدى والتي ستخصص لموضوع: “رهانات العدالة الاجتماعية والمجالية ومقومات النموذج التنموي الجديد”، ويبدو أن الهدف من تنظيم هذه الدورة هو تعزيز دينامية التفكير الجماعي في مقومات ومرتكزات النموذج التنموي لمغرب الغد، تفاعلا مع الدعوة الملكية الموجهة “للحكومة والبرلمان ومختلف المؤسسات والهيئات المعنية ، كل في مجال اختصاصه لإعادة النظر في نموذجنا التنموي لمواكبة التطورات التي تعرفها البلاد”، في “أفق بلورة رؤية مندمجة لهذا النموذج، كفيلة بإعطائه نفسا جديدا، وتجاوز العراقيل التي تعيق تطوره، ومعالجة نقط الضعف والاختلالات، التي أبانت عنها التجربة”، كما جاء في خطاب جلالته خلال افتتاح السنة التشريعية الجارية.

* أستاذ باحث في علم السياسة والقانون.
4

التعليقات على البرلمان والعدالة الاجتماعية.. تجربة مجلس المستشارين مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

أخنوش من كوب 29 : “المغرب تحت قيادة الملك يضطلع منذ سنوات بدور أساسي في الانتقال الطاقي”