عزالدين خمريش*

khamrich
قبل توضيح الغاية التي نرجوها من كتابتنا لهذا المقال علينا التأكيد مع الفقيه في العلوم السياسية والإنسانية، ميشال مياي، بأنه “لتحليل خطاب معين والوصول إلى نتائج وخلاصات تتصف بالعلمية والموضوعية لابد من ربط هذا الخطاب في علاقته بالفعل والفاعل… باعتباره منهجا يهدف إلى الوصف الدقيق والمحايد لما يقال عن موضوع معين وفي فترة معينة”. وعليه فإن ما قيل حول الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش من تعليقات وتحاليل تكاد تصب كلها في خانة الإشادة والتنويه من حيث النبرة أو الطريقة أو حتى الأسلوب والمضامين، إذ توزعت الآراء بين من اعتبره ثورة وزلزالا مدويا انفجر في وجه الكائنات السياسية ومسؤولي الإدرات العمومية وبين من اعتبر المؤسسة الملكية بإقحامها لهذا النوع من الاستياء والغضب تكون قد انتصرت للشعب وقضاياه وأعلنت محاكمتها للحقل السياسي المغربي ولرموزه ولطريقة تدبير الشأن العمومي.

غير أن الكثير من المحللين والأكاديميين لم يلتقطوا الإشارات أو الأبعاد والخلفيات التي كانت وراء تحاشي الملك التطرق إلى قضية الوحدة الترابية للمملكة، فالملك في هذا الخطاب وإن كان قد أعلن عن المفهوم الجديد لربط المسؤولية بالمحاسبة وهو مفهوم ليس بسيطا أو مجرد كلام فاه به رئيس دولة في خطاب معين ولكنه نظرية في مجال الحكم قائمة الذات متكاملة الأركان انبثقت عن التجربة وبعد تشخيص دقيق للأوضاع من أجل تأهيل الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمغرب عبر سياسة جديدة تعتمد القرب والوضوح وتسمية الأشياء بسمياتها وإشراك المواطنين في التدبير، لكن يبقى التحليل العلمي الرصين وتفكيك حدود المعادلة السياسية لمضامين هذا الخطاب بمنهج علمي أكاديمي يؤثت لطبيعة المشهد السياسي المغربي المفعم بنظرية المؤامرة والتخوين والتهويل وخطورة الوقائع في جو مشحون بالفكر الاحتجاجي الملتهب في عدد من مناطق المملكة ، فإذا كنا لا نشك في القيمة السياسية للخطاب ومدى تأثيرها على الرأي العام بصرف النظر عن كونه خطابا سوف ينال أو لا ينال إعجاب البعض فإننا وبموضوعية مواطنة سنتفق مع من لا يتفق مع مقاربتنا الفكرية وسنطرح جدلا مفاده: لماذا تحاشى الملك في خطابه التطرق أو الحديث عن قضية الصحراء في ظل الجدل القائم بأروقة الأمم المتحدة حول تعيين المبعوث الشخصي الجديد للصحراء؟ وماهي الرسائل التي أرادت المؤسسة الملكية توجيهها في هذا الصدد لمن يهمهم الأمر في الداخل والخارج ؟ أليست قضايا الفساد السياسي والإداري والتنموي من بين القضايا الوطنية الكبرى الأولى بالاهتمام من قضية الصحراء ؟ ولماذا هذا القصد العمد مع سبق الإصرار عن عدم الخوض في قضية الوحدة الترابية للمملكة؟
يقول الملك: “ومن جهة أخرى عندما يقوم مسؤول بتوقيف أو تعطيل مشروع تنموي أو اجتماعي لحسابات سياسية أو شخصية فهذا ليس فقط إخلالا بالواجب وإنما هو خيانة لأنه يضر بمصالح المواطنين ويحرمهم من حقوقهم المشروعة” في علم التواصل السياسي تثير بعض المفردات شهية الباحث لتفكيك رموزها ومدلولاتها وإيحاءاتها من قبيل مصطلح “الخيانة” الذي ورد في الخطاب ليتم التساؤل من خان من؟ وماهي درجة الخيانة هل هي الخيانة العظمى للوطن أم خيانة للملكية أم خيانة للشعب؟ ومن هي الجهة التي قامت بهذا الفعل الجرمي المعاقب عليه دستوريا وقانونيا وعرفيا؟ أهي شخص ذاتي أم معنوي أم جماعة أم تنظيم سياسي؟ وهل الأركان المادية للجريمة متوفرة كما هو منصوص عليها في القانون الجنائي؟ أم تبقى مجرد استنتاجات تم التوصل إليها من خلال تحليل المعطيات والمعلومات المتوفرة ولا ترقى إلى مستوى الخطأ الجسيم دون نية إحداثه المترتب عنه ذلك الفعل الإجرامي؟
الملك منزه عن العبث ولا ينطق من فراغ فحينما ربط تغليب المصالح السياسية الضيقة بتعطيل المشاريع التنموية يكون قد أظفى على هذا السلوك صفة الفعل الجرمي الذي هو الخيانة خيانة المواطن في حقه في التنمية وخيانة الدولة والوطن في هدر الزمن التنموي وتضييع الفرص على الصالح العام الذي يتوق إلى الاستفادة من حقوقه المشروعة في التنمية وفي أقل فترة زمنية ممكنة لأن الانتظار يقتل العزائم ويحبط الهمم ومن هذا المنطلق يأتي اهتمام رئيس الدولة بقضية الخيانة في تدبير الشأن العام الوطني من أولى الأولويات إلى درجة الغوص في تشريح أبعادها ومنزلقاتها وتشخيص نتائجها وانعكاساتها مقابل التغاضي عن الخوض في قضية الوحدة الترابية التي تعرف مخاضا سياسيا ودبلوماسيا عسيرا داخل منظمة الاتحاد الإفريقي وهيئة الأمم المتحدة وكأنها (أي الخيانة) القضية الوطنية الأولى التي ينبغي أن تسمو فوق كل القضايا الأخرى في الوقت الراهن لأنها كادت أن تعصف بأمن واستقرار المملكة ولازالت شرارتها تحاصر المغرب من كل حدب وصوب حتى أضحى المواطن المغربي يعيش عزلة وغربة قاتلة داخل بلده لانسداد الأفق والوصول إلى مرحلة اليأس والإحباط التي تعد من أخطر المراحل لأنها تجعل من الإنسان قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة ليتم التساؤل عن المسؤول عن هذا الوضع الكارثي المزري الذي يعرفه المغرب في كل المجالات وعلى جميع الأصعدة؟
إن مسؤولية الأحزاب السياسية عامة وحزب العدالة والتنمية بشكل خاص قائمة في هذا السلوك الإجرامي خاصة في عهد ولاية بنكيران التي كانت كارثية بكل المقاييس وكانت السبب الرئيسي في تأجيج الاحتقان الاجتماعي بالحسيمة لتأخر المشاريع التنموية بها (مشروع منارة المتوسط) حيث أراد هذا الحزب أن يحل مشاكل المغاربة برفع أكف الضراعة إلى الباري عز وجل وبالفاتحة والوعظ والإرشاد وطقوس الولائم دون الأخذ بأسباب التوكل والتشمير على الساعد من خلال التنظير وإبداع الحلول وخلق الثروة وتحقيق التنمية الأمر الذي أدى إلى فقدان الثقة في الفاعل السياسي بالإضافة إلى أن النخب التي صنعها المخزن أصبحت فاقدة لبكارتها السياسية والأخلاقية وباتت معزولة وعاجزة عن مواجهة الجماهير الغاضبة وقياداتها مفتقدة للكاريزما الشخصية، وإذا ما تجرأت وأرادت النزول إلى الشارع سوف تتعرض لجميع أشكال وطقوس الرجم بالنعال والحجارة، لأنها في نظر الرأي العام شيطان رجيم وجبت محاربته، كما أن تنظيماتها السياسية أصبحت عبارة عن وجبة عشاء بائتة غير قابلة للتسخين فاقدة للشرعية والمصداقية فتدجين النخب وفبركتها سياسة مفلسة تقامر بمستقبل المغرب وبمساره الذي فتح بارقة أمل جديدة لعموم المغاربة بدستور جديد يضمن للكل صيانة الحقوق والكرامة الإنسانية واحترام الحريات والقضاء على الفساد والاستبداد حيث جاء بمجموعة من المستجدات الطموحة والجريئة تؤسس لمرحلة جديدة قوامها توزيع الثروة الوطنية بشكل عادل ومنصف مع ربط المسؤولية بالمحاسبة ، إن الخيانة التي تحدث عنها الملك وجعلها في صلب القضايا التي استأثرت باهتمام مضامينه تعد البعد الرئيسي في النأي عن الحديث في قضية الوحدة الترابية التي عرفت مجموعة من التطورات داخل الوحدات السياسية الفاعلة في مراكز القرار الدولي ونصب مجموعة من الفخاخ البنوية من طرف أعداء وخصوم الوحدة الترابية بالإضافة إلى التحديات التي تواجهها الدبلوماسية المغربية للتصدي لهذه المناورات والتي تحتاج إلى حكومة قوية بأحزاب مؤهلة وصنديدة وليس بأحزاب معطوبة ومتهالكة ولعل من أبرز تلك المناورات نورد مايلي:
1- الدعوة التي تقدمت بها البوليساريو للدانمارك وتم رفضها بإيقاف استيراد المنتجات من الصحراء حيث صرح وزير الشؤون الخارجية الدانماركي أندرس سامويلسين في البرلمان الأروبي أن استيراد المنتجات من الصحراء قانوني ولا يتعارض مع الشرعية الدولية لأن سكان الصحراء يستفيدون بشكل مباشر من الموارد في منطقتهم.
2- الطلب الذي تقدم به زعيم البوليساريو إبراهيم غالي إلى المفوضية الإفريقية بشأن محاكمة المتهمين في جرائم أكديم إزيك وطلبه بالتدخل العاجل للمفوضية للإفراج عنهم.
3- تصريح محمد خداد منسق البوليساريو مع المينورسو الذي كال فيه التهم إلى فرنسا ولموقفها الداعم للمغرب بشأن الحل السياسي المتفاوض عليه.
4- تقطير الشمع على المغرب ومهاجمته من قبل الجزائر بشأن قراره الجريء والشجاع برسم حدوده البحرية في سواحل الأقاليم الجنوبية.
5- حجز سفينة لنقل الفوسفاط المغربي بميناء “بورت إليزابيث” بجنوب إفريقيا بناء على أمر قضائي يجمع الكل على أنه يعد انتهاكا سافرا للأعراف والمواثيق الدولية والقانون الدولي
وختاما يمكن القول بأن الجالس على العرش أثار عدم الخوض في قضية الوحدة الترابية بالرغم من التحديات والتطورات التي تعرفها على الساحة الدولية وفضل التركيز على جريمة الخيانة لما تمثله من أهمية كبرى في المسار السياسي والتنموي الذي يسير فيه المغرب فهذه الجريمة ثابثة في حق الأحزاب السياسية عامة والحزب المتزعم للحكومة بصفة خاصة وبالتالي وجب تطبيق وتفعيل مقتضيات الوثيقة الدستورية التي تربط المسؤولية بالمحاسبة مع التطبيق الصارم للقانون الذي يجرم الخيانة ضد الوطن والشعب فهل سيدشن المغرب مرحلة جديدة في تاريخه الديمقراطي وبناء دولة القانون والمؤسسات ببدء محاكمة المسؤولين المتورطين بغض النظر عن مواقعهم وانتماءاتهم أم سيتم الاكتفاء بتقديم أكباش الفداء من بعض الموظفين المستضعفين لذر الرماد في العيون مصداقا لقول الشاعر طرفة بن العبد:
ستُبْدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً * ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تزوِّدِ
ويأتيكَ بالأنباءِ من لم تَبعْ له * بَتاتاً ولم تَضْربْ له وقتَ مَوْعدِ

* أستاذ القانون العام بجامعة الحسن الثاني الدار البيضاء

التعليقات على لهذه الأسباب لم يتطرق الملك إلى قضية الصحراء في خطاب العرش مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

أوجار: حكومة أخنوش تحلت بالشجاعة في الإبقاء على برامج الاستثمار رغم صعوبة الظرفية