محمد سعيد السعدي
يتم الترويج في عدد من المحافل السياسية وفي وسائل الاعلام لطرح تبسيطي للمشاريع المجتمعية والبرامج السياسية لاصطناع تقاطب يبدو أنه مدعوم من أطراف عديدة داخل الدولة وخارجها. ويتم اختزال هذا التقاطب في الصراع بين “قطب حداثي” في مواجهة “قطب محافظ” حسب أنصار “القطب” الأول، بينما يروج له مساندو “القطب” الثاني على أنه صراع بين أنصار “الانتقال الديموقراطي ومواصلة الإصلاح” في مواجهة “قوى التحكم”. والواقع أنه إذا وضعنا جانبا الاختلاف حول الحريات الفردية مقابل الدفاع عن “الخصوصية الثقافية” وسمو القيم المحلية لاعتبارات “دينية”، نجد أن ما يسمى بالقطبين يتقاسمان نفس الطروحات الأساسية: فهم يؤيدون الملكية التنفيذية رغم أنها تتعارض مع مبادئ الديمقراطية الحقة باعتبارها ممارسة الشعب للسيادة والحكم عبر ممثليه وممثلاته في المؤسسات المنتخبة وربط المسؤولية بالمحاسبة. كما أنهما من أشد المدافعين على اقتصاد السوق الحرة واعتبار القطاع الخاص ركيزة التنمية ومحركها الأساس. والحال أن هذه الاختيارات والتوجهات هي التي دفعت بمئات الالاف من الشباب والمواطنين من مختلف الشرائح الاجتماعية، خاصة الطبقات الشعبية والفئات المتوسطة، للخروج إلى الشارع للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ولإسقاط الاستبداد وزواج السلطة بالمال.
إن أهم ما يميز الخيار الثالث كما يجسده البرنامج الانتخابي لفيدرالية اليسار الديموقراطي هو وفاؤه لشعارات ومطالب حركة 20 فبراير باعتبارها التعبير الساطع والحي لطموحات الشعب المغربي في الانعتاق والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهذا ما يرفع منسوب مصداقية الخيار الثالث باعتباره يضع قيم اليسار من عدالة اجتماعية وديمقراطية عميقة وحرية في صلب معركة التغيير الديمقراطي والصراع الاجتماعي. وهذه المقاربة المتفردة للإشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها بلادنا تعيد الاعتبار للصراع السياسي بين اليمين واليسار كمحدد أساسي للفرز السياسي والتمييز بين المشاريع المجتمعية وتجعل التقاطب ينبني على أسس موضوعية تعبر عن مصالح طبقية واختيارات واضحة ومتباينة حد التناقض. لهذا ينبغي على كل مواطن(ة) غيور(ة) الالتفاف حول هذا المشروع المجتمعي الطموح واحتضانه والدعوة الى مساندته والدفاع المستميت عنه.
وما يحسب كذلك للخيار الثالث هو أنه أعاد الاعتبار للايديولوجيا باعتبارها منظومة متكاملة من التصورات والمثل العليا لكيفية تنظيم المجتمع وتدبير العيش المشترك بين البشر وتوزيع الخيرات بين المواطنين وتلبية حاجياتهم المادية والمعنوية، ذلك أن ارتفاع أسهم هذا الخيار في الآونة الاخيرة جعل الأمين العام للحزب الحاكم يقر في إحدى خرجاته بأن فيدرالية اليسار الديموقراطي خصمه الأيديولوجي مع الاعتراف بإخلاص وجدية مناضليه ومناضلاته. علما بأن هذا الاعتراف قد يحرج حلفاءه “التقدميين” الذين يعتبرون بأن المرحلة السياسية الراهنة تستدعي ترك الخلافات الأيديولوجية جانبا خدمة “للمصالح العليا للوطن”.
إن اهم ما أثارني في الخيار الثالث هو تركيزه على مناهضة ما أسميه ثلاثية “الاستبداد/الاستحواذ/ الثقافوية الدينية (أستعير هذا التعبير من المفكر اللبناني فواز طرابلسي) وصياغة برنامجه لتجاوزها. من هنا أهمية التأكيد على ضرورة القيام بإصلاح عميق وجذري للنظام السياسي باعتماد دستور ديموقراطي يؤسس لملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم وتكون فيها السيادة للشعب. إن هذا الإصلاح يعد ركيزة أساسية لمعالجة الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية البنيوية التي نواجهها والتي تشترط وجود حكومة قوية وكاملة الصلاحيات لتنفيذ برنامجها الذي تتعاقد على أساسه مع الشعب.
أما الإضافة النوعية الأخرى، فتكمن في إحداث قطيعة مع اقتصاد السوق الحرة والليبرالية الجديدة من خلال التأكيد على الدور التنموي المركزي للدولة من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ذلك أن تجارب الدول التي نجحت في الخروج من دائرة التخلف في آسيا وأمريكا اللاتينية تبين بوضوح كيف أن الدولة تدخلت في الاقتصاد من خلال الاستثمار المباشر والمنتج والتعبئة القوية للفائض الاقتصادي والتخطيط الارادي والانفتاح الاستراتيجي على الاقتصاد العالمي والتعاقد مع القطاع الخاص للمساهمة في النهوض بالقطاعات المنتجة، وعلى رأسها التصنيع. ونريد في هذا الصدد التأكيد على أهمية الاعتماد على الذات أولا لتمويل المخطط التنموي من خلال التعبئة القصوى للموارد الداخلية، وهذا يمر بالضرورة عبر التقليص المنهجي للاستهلاك الكمالي والترفي من خلال تضريب هذا النوع من السلع والخدمات، خاصة وأن جزءً كبيرا منها يتم استيراده من الخارج. كما أن تمويل العملية التنموية يقتضي إحداث بنك وطني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تكون نواته الأولى مكونة من صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ومؤسسات عمومية أخرى مع إعطاء أهمية خاصة لتمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة.
من جهة أخرى، نقترح أن يتم تعزيز المقترحات الخاصة بالنهوض بالتشغيل بالتركيز على فتح أوراش كبرى شعبية وكثيفة العمالة لفك العزلة عن العالم القروي والاعتناء بالفلاحة والبيئة ومحو الامية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى تجربة الهند التي تمكنت من توفير الشغل لـ20-25 مليون أسرة سنويا من خلال برنامج “ماهتما غاندي” الوطني للتشغيل بالعالم القروي والذي يضمن 100 يوم من العمل المؤدى عنه لكل أسرة.
على مستوى آخر، ينبغي التنصيص على إصلاح مدونة الأسرة بمنع تعدد الزوجات وتجريم تزويج القاصرات مع فتح نقاش وطني حول المساواة في الإرث انطلاقا من توصيات المجلس الوطني لحقوق الانسان الأخيرة.
وحيث أن المجال لا يسمح بالتوسع في هذه القضايا الهامة، بقي لنا أن نثير الاهتمام إلى بعض الإشكاليات التنظيمية التي على مناضلي ومناضلات فيدرالية اليسار الديموقراطي التركيز عليها قصد كسب مزيد من المصداقية والثقة الشعبية. وأولها ضرورة التواجد اليومي في الميدان والعمل مع المواطنين والمواطنات لتأطيرهم ورفع مستوى وعيهم والمساعدة على حل مشاكلهم والابتعاد عن الحلقية والإفراط في التنظير على حساب مواجهة الخصوم الايديولوجيون وأصحاب المصالح. كما ينبغي فتح الباب على مصراعيه للجيل الجديد من الشباب المناضل الذي خرج الى الشارع في 20 فبراير واعتماد أساليب تنظيمية جديدة لتشجيع المبادرات الخلاقة وتفادي مساوئ التنظيمي الهرمي التقليدي. كما ينبغي تشجيع النقاش الداخلي الحر والسماح لمختلف الحساسيات بالتعبير عن آرائها من خلال تفعيل آليات الديمقراطية الداخلية.
أخيرا وليس آخرا، ينبغي الإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة مع قوى اليسار الأخرى على أساس النقد والنقد الذاتي خاصة من طرف من أساؤوا التقدير أو انساقوا وراء تحالفات “ضد الطبيعة” مقابل امتيازات مادية زائلة.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…