يكتسي التقرير الأخير للبنك الدولي “مناصب شغل أم امتيازات، إطلاق العنان لإمكانيات التشغيل بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” الصادر في يونيو-حزيران 2014 أهمية بالغة على عدة مستويات. يسلط التقرير الضوء على دور “العامل السياسي” كمحدد رئيسي لتطور الاقتصادات العربية خلال العقود الأخيرة، واندلاع الثورات الشعبية التي هزت المنطقة. بالمقابل، ورغم محاولة محتشمة، ابتداء من التسعينيات، لمعالجة هذه الإشكالية من منظور”الحكامة الجيدة” التي تم تمريرها كوصفة علاجية للفساد والمحسوبية – فإن المؤسسة المالية الدولية قد اعتبرت لمدة طويلة أن المهام المنوطة بها تمنعها من التدخل في الشؤون السياسية التي تعتبر “حساسة”. غير أن هذا التقرير يبين بأن المؤسسة المذكورة تراجعت عن موقفها هذا.
وقد استغل البنك الدولي سقوط نظامي بن علي ومبارك، ليقوم ببحث مستفيض حول القطاع الخاص وتراكم الثروات، وكذلك حول المحسوبية التي يوظفها النظام وشركاؤه في عدة بلدان عربية (مصر، تونس، المغرب، الأردن، اليمن، سوريا). و بيّن كيف أن مجموعة صغيرة من رجال الأعمال والقياديين السياسيين تمكنت من السيطرة على الحقل الاقتصادي والاستحواذ على ريوع (جمع ريع) وامتيازات متعددة جراء قربها من السلطة السياسية أو تحكمهم فيها.
المغرب، حالة نموذجية
يوضح التقرير، في ما يخص المغرب، كيف أن “المقاولات الناشئة”(startups) والمقاولات الفتية التي لها قدرة كبيرة على خلق فرص الشغل، تتعرض للتمييز في علاقاتها مع الإدارة بشكل عام والإدارة الجبائية بشكل خاص والقضاء… وتعاني بشكل كبير من الفساد والكلفة المرتفعة للتمويلات الخارجية (أي التمويلات عبر البنوك والسوق المالية) مقارنة مع المقاولات الكبرى. ذلك أن ضعف المنافسة والحواجز المتعددة لمزاولة مختلف الأنشطة الصناعية المغربية كانت لها انعكاسات وخيمة على الاقتصاد المغربي في العشرية الأخيرة، حالت دون تحقيق نمو اقتصادي مقبول واستحداث فرص وافرة للشغل.
وإذا كانت أهمية التقرير تعكس واقع الحال، فإنه يبقى عرضة للنقد لأسباب متعددة. فالبنك الدولي نادرا ما يشير فيه لمفهوم “رأسمالية المحاسيب” أو “المحاباة” (crony capitalism) خوفا ربما من إزعاج الماسكين بزمام الأمور في الدول المعنية. والحال أن الأدبيات الاقتصادية حول مختلف أشكال التواطؤ بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية توفر ما يكفي من المراجع التي تتطرق لهذا النوع الخاص من الرأسمالية. وقد استعمل جوزيف ستيغليتز، الاقتصادي الأمريكي الشهير، من جهته كيف استغلت شركة Enron الطاقية هذه العلاقات الخاصة التي كانت تربطها بالإدارة الأمريكية من اجل الاغتناء، قبل إفلاسها المدوي سنة 2001. أما سمير أمين، المفكر الاجتماعي البارز والاقتصادي اللامع، فقد قام باختبار وجيه لهذا المفهوم في دراسة تطور الاقتصاد المصري خلال فترة مبارك.
رأسمالية المحاسيب تعمق الفوارق الطبقية
تتجلى محدودية تقرير البنك الدولي في تجاهله لتمركز المداخيل والثروات المتولد عن رأسمالية المحاسيب وكذلك الاستقطاب الاجتماعي وتباطؤ النمو الاقتصادي. معنى ذلك أن الفوارق في المداخيل والثروات تؤدي إلى نزاعات اجتماعية وتغذي اللاستقرار السياسي الذي ستكون له بدوره انعكاسات سلبية على مستوى الاستثمار في اقتصاد ما. كما أنها يمكن أن تدفع بالطبقات الاجتماعية الفقيرة إلى الاستدانة، مغذية بذلك النمو بطريقة مصطنعة ومحدثة فقاعات يؤثر انفجارها بقساوة على الاقتصاد، كما تبين ذلك أزمة الرهون العقارية (subprimes) لسنة 2007 بالولايات المتحدة. من جهة أخرى، يمكن أن يكون لهذه الفوارق أثر بليغ على نسبة الجريمة والذي ينعكس بدوره سلبا على النمو الاقتصادي.
إذا كان تشخيص الانعكاسات الاقتصادية السلبية للتداخل بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية و”أَسر الدولة” من طرف المصالح الخاصة صحيحا في المجمل، فإن الحل الذي يقترحه البنك الدولي لتجاوز رأسمالية المحاسيب لا يصمد أمام التحليل الرصين. فكل ما يقترحه هذا الأخير هو ضخ جرعة أكبر من “الحكامة الجيدة” في الاقتصاد حتى يتعافى من هذا المرض الطفولي، وذلك بإصلاح القضاء والإدارة وإحداث سلطة مستقلة للمنافسة، وإصلاح قانون الصفقات العمومية، فضلا عن تبني سياسة صناعية تشترط تحقيق إنجازات متميزة في مجالات كالاستثمار والتصدير والتكنولوجيا من طرف المقاولات للاستفادة من الحوافز التي تقدمها الدولة. وبصرف النظر عن التوصية الأخيرة في التقرير المذكور، فالباقي كله مبتذل ويترجم محدودية مقاربة “الحكامة الجيدة”. هذا يفسر بجلاء أن عقدين من وصفات من هذا القبيل، مدعمة بتمويلات لا يستهان بها، لم يكونا كافيين للقضاء على رأسمالية المحسوبية و”أسر الدولة” من طرف أقلية صغيرة. فقد تعين انتظار الربيع العربي للتخلص من أنظمة تسلطية كانت المؤسسات المالية الدولية تعطيها كأمثلة للتفوق الاقتصادي و”الحكامة الجيدة” (تونس على الخصوص).
“الحكامة الجيدة” تحث المجهر
إن الإشكال الرئيسي الذي يطرحه هذا النوع من الوصفات هو كونها تضرب في العمق مصالح أولئك الذين من المفروض أن يوكل إليهم تنفيذها، مما يدفع بهم إلى مقاومتها وإفشالها. من جهة أخرى، بيّنت عدة دراسات أن هناك علاقة ضعيفة بين “الحكامة الجيدة” و “النمو الاقتصادي”. فعلى سبيل المثال، وعكس بعض الأفكار الشائعة، فإن الشركات المتعددة الجنسيات لا تضع “الحكامة الجيدة” كشرط أساسي لاستثماراتها في دول الجنوب. أكثر من ذلك، فإن دولا كالصين وفيتنام، والتي يفترض أنها ضحية لـ”الحكامة السيئة”، استطاعت أن تسجل نسب نمو عالية وأن تجلب استثمارات أجنبية بمئات المليارات من الدولارات.
في الحقيقة، إن ما تفتقر له بلدان الجنوب، هو بناء هيئات مستقلة للحكامة والتنمية. وفي هذا الشأن، فإن نموذج بلدان آسيا الشرقية، حيث لعبت الدولة التنموية دورا حاسما في الميدان الاقتصادي ونجحت في فرض الانضباط على القطاع الخاص وتعبئته لخدمة تصور استراتيجي لمستقبل هذه البلدان، هو نموذج جدير بالتأمل. كما حققت فرنسا كذلك، إبان حقبة “الثلاثين المجيدة”، نسب نمو اقتصادي عالية بفضل الدور “التنموي” للدولة حيث عملت المندوبية العامة للتخطيط على أن ينخرط الرأسمال الكبير من تلقاء نفسه في تصور جماعي لتنمية هذا البلد. في نفس الوقت، حرصت هده الأخيرة على أن تحافظ على مصالح الطبقات الشعبية من خلال سياسة اجتماعية مبنية على إعادة توزيع قوي للمداخيل.
على أن هذا الدور الاستراتيجي للدولة التنموية يجب أن يكون مصحوبا بوضع ميكانيزمات ديمقراطية لمحاربة تضارب المصالح والاتجار بالنفوذ والرشوة التي تنخر جسم العديد من اقتصادات دول الجنوب. وهذا ينطبق بالخصوص على حالة المغرب حيث يتعين تفعيل مضمون الفصل 36 من الدستور الذي ينص على معاقبة مرتكبي المخالفات المتعلقة بحالات تنازع المصالح، واستغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه، وكل مخالفة ذات طابع مالي. وهذا يقتضي اعتماد قوانين تنظيمية وهيئات للوقاية والرقابة على غرار العديد من دول الشمال والجنوب. على سبيل المثال يجب وضع تصريح إجباري بالأصول التجارية والمالية والعقارية التي توجد بحوزة صناع القرار والتي من شأنها أن تتداخل مع المصلحة العامة (مهام اجتماعية، علاقات تجارية، مصالح مالية…)، كما يجب وضع قائمة بحالات تنازع المصالح، متعلقة بالشخصيات السامية للدولة والوزراء والبرلمانيين. بالموازاة مع ذلك، يشكل بناء سلطة مضادة مواطنة حاملة لمشروع ديمقراطي متجدد شرطا لا محيد عنه وضرورة ملحة، بعيدا عن الحسابات الضيقة لطبقة سياسية فاقدة لمصداقيتها بشكل كبير. أخيرا وليس آخرا، يعتبر الانتقال إلى ملكية برلمانية حقيقية، حيث تكون السلطة السياسية منفصلة عن السلطة الاقتصادية، المدخل الأساسي لتفكيك أسس رأسمالية المحاسيب التي لها قدرة كبيرة على المقاومة.