المصطفى المعتصم
بالرغم من كل المجهودات المعتبرة التي بذلت وتبذل منذ الاستقلال لمواجهة آفة الفقر، المهددة لأمن المجتمع واستقراره، من خلال برامج تنموية عبر مهندسيها دوما عن طموحات كبيرة في أفق التغلب على هذه الآفة الاجتماعية وفي مقدمتها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي يقودها العاهل المغربي محمد السادس منذ أزيد من عشر سنوات، مازالت التقارير المتحدثة عن الفقر والهشاشة في المغرب تأتي محملة بالأرقام الصادمة وما زال المغرب يحتل الرتب المتأخرة في التصنيف العالمي للتنمية البشرية.
إخفاق أو لنقل تعثر المغرب في الحد من آفة الفقر يطرح على كل الفاعلين الأساسيين بقوة سؤال نجاعة النموذج التنموي أو النماذج التنموية التي تبناها المغرب منذ الاستقلال أو تلك التي يتبناها اليوم حيث لم يعد مقبولا أن نستمر في طريق مسدود لا أفق له. تجربة ستين سنة من الاستقلال، عشنا فيها الكثير من الإخفاقات والقليل من النجاحات في مجال مكافحة الفقر والهشاشة، كافية وكفيلة بأن تجعلنا نتوقف قليلا لمساءلة مسارات كانت ميزتها الأساسية الاتقاطية/ التجريبية والخضوع لأهواء ووصفات البنك الدولي المسمومة والتماهي مع اقتصاديات الفقاعاتéconomie de bulles التي لا تتضخم إلا لتنفجر في وجوهنا.
الاتقاطية/ التجريبية باستدعاء تجارب عاشتها دول وأمم أخرى في سياقات غير السياقات التي نعيش فيها ومحاولة تبيئتها والخضوع لتوجيهات البنك الدولي التي ثبت بالملموس أنها لا تساعد على الخروج من مأزق إلا لترمي بمن ينفذها في مآزق أخرى أكثر تعقيدا.
سؤال التنمية/ النموذج التنموي، سؤال حيوي ومركزي والجواب عليه ليس بديهيا أو سهلا كما يتخيل البعض. ولو أن المتفق عليه عند تعريف التنمية هي أنها تعني التطورات الإيجابية في التغيرات البنيوية لمنطقة جغرافية أو لبلد: الديمغرافية، التربوية/ التعليمية، التكنولوجية، الصناعية، الصحية، الثقافية، الاجتماعية……، هذه التغيرات تؤدي إلى اغتناء المواطنين وتحسين ظروف عيشهم.
لكن عند تنزيل هذا المفهوم للتنمية على الواقع العالمي نجد أن هذه التغيرات البنيوية في دول الشمال (الغرب) لم تعطِ نفس النتائج بالنسبة لدول الجنوب:
-في دول الشمال حيث حاكت البرامج التنموية إلى حد ما الطريقة الفوردية التي تعتمد النمو الاقتصادي croissance économique القائم على تشجيع الإنتاج وتراكم الراساميل والمنافسة الشرسة ستحقق نجاحات مهمة لظروف تاريخية: ما بعد أزمة 1929 ولظروف ما بعد الحربين العالميتين. هناك في دول الشمال ركزت مخططات التنمية على تشجيع الاختراع عبر البحث العلمي والاستثمار في التربية والتكوين…
-في بلاد الجنوب التي خرجت للتو من حروب تحرير وورثت الكثير من المخلفات السلبية للاستعمار كان هناك التركيز على استغلال الطبيعة بنهبها وتبدير مواردها عشوائيا لتدوير الآلة الصناعية الغربية وكان هناك استغلال لشعوب هذه البلاد التي ستزداد معاناتها مع التخلف وخسارة الثقافة الأصيلة لفائدة ثقافة المستعمر sous développement et la déculturation وستعاني من الاستغلال البشع لمواردها الطبيعية ومن بعد ذلك من الاستغلال المخزي لطاقاتها البشرية باعتبار الكلفة الرخيصة لليد العاملة لديها وتعاني اليوم من استنزاف عقول أبنائها. وقد رافق هذا طبعا فساد حكام جل هذه البلاد واستبدادهم السياسي ومشاركة الأوليغارشيات المحلية الغرب في نهب واحتكار الموارد الطبيعية مما أدى إلى نمو الفوارق الاجتماعية من دون حدود، وظهور عِلّات وآفات اجتماعية في مقدمتها الفقر والهشاشة.
في يوم ما قال هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، كلمة غاية في الوضوح في ما يخص مسارات التنمية في العالم بشكل عام والجنوب بشكل خاص، قال: “التنمية ليست سوى الاسم الجديد لسياسة الهيمنة الأمريكية”. وهذا ما جعل serge latouch أستاذ الاقتصاد في جامعة باريس السادسة يقول: “إن التنمية في العالم المتخلف لم تكن سوى استمرار للاستعمار بطرق أخرى والعولمة ليست سوى استمرار للتنمية بوسائل أخرى حيث الدول تنمحي أمام السوق والدولة/ الأمة التي كانت ضعيفة عند المرور من الاستعمار إلى التنمية ستختفي من المسرح لصالح ديكتاتورية السوق التي أقروها بواسطة أداتهم التدبيرية FMI التي ستفرض برنامج التقويم الهيكلي وعلى كل حال إذا كانت الأشكال تتبدل بشكل كبير- وليست الأشكال وحدها ما يتبدل- فإننا نبقى دائما أمام شعارات وإيديولوجيات تسعى لشرعنة هيمنة وسيطرة المؤسسات الغربية خصوصا الأمريكية اليوم”.
كنا في المغرب سنة 1956 أي عند نيل الاستقلال، بلدا توفر له زراعته التقليدية ليس فقط الاكتفاء الذاتي من الحبوب بل يصدر جزءا منها نحو الخارج واليوم وبعد تطوير زراعتنا وعصرنتها لا يحقق المغرب الاكتفاء الذاتي من هذه المواد الضرورية لعيش المواطنين المغاربة بالرغم من أن بلادنا اليوم تعتبر من أكبر مصدري المنتوجات الفلاحية من خضر وفواكه نحو العالم عامة وأوروبا خاصة. ننجز زراعات تتطلب الكثير من الماء في زمن التحولات المناخية باتجاه القحالة، كل هذا إرضاءً لتوجيهات تشجع أو تفرض علينا انتاج زراعات تسويقية لا يستفيد منها السكان شيئا. وما يقال عن المغرب يقال عن دول إفريقية أخرى فقبل السبعينات من القرن الماضي كان الأفارقة فقراء بالمعيار الأوروبي لأنهم لم يكونوا يتوفرون على الكثير من المواد المصنعة ولا ينتجون الكثير من الكهرباء ومشروبات الكوكاكولا.. لكن، لا أحد في هذه البلدان الإفريقية- عدا أوقات الكوارث الطبيعية- كان يموت جوعا. لكن بعد خمسين عاما من التنمية على الطريقة التي فرضها الاستعمار الجديد هناك اليوم من يموت جوعا في إفريقيا. وهذه إثيوبيا التي بها عدد كبير من الجوعى تعتبر ثاني مصدر للورود بعد كينيا! . وصدقت الهندية فاندانا شيڤا vandana shiva حين قالت: “تحت قناع التنمية، تختفي في الواقع، خلق الخصاص”.
وما يقال عن الفلاحة يقال عن الصناعة حيث تم تدمير الأنوية الصناعية الوطنية والتضييق عليها بمنافسة غير شريفة من طرف الشركات العابرة للقارات، إذ تم إنفاق الملايير من الدولارات لتهيئة مناطق أوفشورينغ يستوطنها مستثمرون يبحثون عن الربح من دون ضرائب ويد عاملة رخيصة تقبل العمل في شروط لا تقبل بها الطبقة العاملة في دول هؤلاء الرأسماليين. وطبعا عندما يرحل مستثمري الأوفشورينغ لسبب أو لآخر يتركون وراءهم مآسي اجتماعية واقتصادية ليس المجال هنا لتفصيلها.
اليوم نحن في حاجة إلى تحديد جديد لما نريده من التنمية بعيدا عن تلك اللغة الممقوتة التي تكرر على مسامعنا ليل نهار مصطلحات من قبيل: متطلبات السوق والمنتوج وخلق فرص الشغل والمناطق الأوفشورينغ…
نحن اليوم في حاجة إلى إعادة تقييم نهجنا التنموي ليصبح قائما على الإنسان المتعلم وعلى العلم العالِم savoir savant والخبرة في استعمال هذه العلوم savoir faire، علم مرتكز على البحث العلمي الحقيقي المحدد الأهداف وليس البريكولاج.. ويتطلب منا أيضا بالضرورة إعادة الاعتبار إلى المدرسة والجامعة العمومية ويتطلب منا إعادة النظر في أولوياتنا في المجالات الحيوية أو على الأقل إعادة ترتيبها بما يفيد المصلحة العليا للوطن وليس بما يخدم المصالح الضيقة لأفراد أو أوليغارشيات ويخدم اقتصادات الفقاعات.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…