خالد أوباعمر
في كل إدارة يوجد حرس قديم لا يبالي بالدستور ولا بالخطب الملكية ولا بالقوانين والتشريعات. حرس موجود لتطويع الإدارة والقانون والدستور بما يخدم مصالحه وتوجهاته واستراتيجيته. حرس مستعد لقتل الكفاءات وتصفية كل من يقترب من جحر فساده ولو بالصدفة.
هذا الحرس هو ما يطلق عليه البيروقرلطية الإدارية، له ضحايا كثر، ويستطيع مقاومة حتى الوزراء المعينين بموجب ظهائر ملكية، إذا تعارصت توجهاتهم وسياساتهم القطاعية، مع تصوراته ومشاريعه ومصالحه الضيقة، التي تتنافى مع المصلحة العامة.
هذا الحرس متمدد في الأزمنة والأمكنة، ويشكل شبكة مصالح اخطبوطية خطيرة، لا يحكمها أي وازع أخلاقي أو قانوني، ويحارب خصومه بوسائل قذرة، تتجاوز القانون وأحكام الدستور. حرس لا يؤمن بربط المسؤولية بالمحاسبة كمبدأ دستوري، ويقوم بتطويع المرافق العمومية وتسخيرها لتنزيل أجندته وخدمة أهدافه، من دون أي قيد قانوني أو أخلاقي.
حرس له شبكة من الخدم الأوفياء داخل كل إدارة، يقتاتون من اكرامياته التي يغدق عليهم بها بوسائل ريعية مختلفة. حرس بات يشكل تهديد حقيقي للاستقرار الوظيفي لجزء كبير من الموظفين، بما في ذلك، من لهم صفات تمثيلية إن شعر بأي تشويش أو خطر داهم على مصالحه المتضاربة والمتنوعة.
غريب أمر هذا الحرس، الذي كلما أعتقد المغاربة أن زمنه ولى داخل الادارة المغربية، كلما انبعث من رماده مثل طائر الفنيق. وكلما ووجه بالقانون والدستور، كلما طغى وتجبر وتمادى في جبروته وغيه.
من أين يستمد هذا الطاعون القاتل الذي ينخر جسم الادارة العليل قوته؟ من يحميه؟ ومن يشرعن تعسفاته؟ من يبيح له تجاوز الدستور والقانون والمؤسسات؟ ماذا تعني له الخطب الملكية التي طالما أشارت له وبوضوح في تشخيصها لواقع الإدارة المزري؟
مؤسف جدا ما يحدث في عدد من الإدارات التي أصبحت بفعل ممارسات الحرس القديم المسكون بالنزعة السلطوية، مجالا لممارسة كل انواع الطغيان، بأساليب عفى عنها الزمن، وتمس في العمق بالحقوق والحريات، وبمصداقية المرفق العمومي، وبتوجيهات ملك البلاد، الذي شخص في أكثر من خطاب اعطاب الإدارة وحث على التطبيق السليم للقانون فيها.
مؤسف أن نقرأ في الصحافة أن مؤسسة دستورية مثل مؤسسة الوسيط، التي ترفع تقاريرها إلى عاهل البلاد سنويا، تحث عدد من الإدارات على التطبيق السليم للقانون، أو على تنفيذ الأحكام القضائية التي حازت قوة الشيئ المقضي به، او إحترام تظلمات وشكاوى المواطنين، في الوقت الذي تصر فيه تلك الإدارات، على التعامل مع مطالب هذه المؤسسة التي لا يمكن نكران مجهوداتها، بمنطق كم من حاجة قضيناها بتركها.
من المخجل أيضا، أن تلجأ بعض الإدارات إلى تبخيس أسئلة الفرق البرلمانية، لا سيما، الكتابية منها في الوقت الذي يلزمها القانون بضرورة الرد داخل آجال قانونية لا تعيرها اي اهتمام، وكأن القوانين شرعت لكي تهمل وكأن البرلمان موجود لتأثيت المشهد المؤسساتي في البلاد!
مؤسف أن تصدر المحاكم الإدارية آلاف الأحكام القضائية لفائدة المتضررين من الإدارة دون أن ينفذ منها الجزء الأكبر، بذريعة أن السطر المالي المخصص لتنفيذ الأحكام القضائية في ميزانيتها القطاعية، لا يسمح لها بذلك، رغم ان تلك الأحكام تصدر باسم جلالة الملك!
مؤسف ان تدمن الادارات على تغييب القانون وتعطيله في قضايا عدة، وتكريس ممارسات غير قانونية، بمبرر ان العرف الجاري به العمل فيها يقتضي ذلك!
متى كان العرف يلغي القاعدة القانونية الآمرة التي لا يجوز الإتفاق على مخالفة أحكامها؟ أي فلسفة هذه التي تسمح بإدمان هذا النوع من الممارسات المرفوضة بحجة سلطان الإدارة ولو مس بسلطان الإرادة؟
مؤسف أكثر أن تستغل بعض الادارات سلطة التأديب التي يمنحها لها القانون لممارسة الشطط والتعسف في استعمال الحق دون إحترام الضمانات القانونية المخولة للموظفين، وهو الأمر الذي تقره أحكام القضاء الإداري، بعد أن يكون الموظف قد عانى من الظلم، ومؤسف جدا أن يحكم الإدارة ممارسات عدوانية غالبا ما يكون دافعها نفسي لمجرد تنبيهها إلى أخطائها في تنزيل القوانين، وكأن الموظفين قطيع!
الاعطاب كثيرة، والخروقات متعددة، ومظاهر التعسف لا حصر لها، ومع ذلك، لا جهة تستطيع وقف هذا النزيف، ولا حماية حقوق المرتفقين ولا تحصين الموظفين من العقلية السلطوية في الإدارة التي أدمنت على تطويع القوانين والمرافق العمومية، وتبخيس المؤسسات الدستورية في البلاد، ونهج سياسة الكيل بمكيالين، ومحاربة الكفاءات وصنع الدسائس لها.
عيب ان يستمر كل هذا العبث. عيب أن تستمر بعض الإدارات في عدوانها على الأشخاص والقوانين دون أن تستحضر خطب ملكية سامية قالت كل شيئ عن واقع إداري مرير.
عيب أن يصل الأمر في بعض الإدارات إلى حد تمرد موظفين ومسؤولين على توجيهات وتعليمات مسؤولين معينين بظهائر ملكية، وفي الاخير يؤدي الموظف والمرتفق ثمن ذلك، وعيب أن تستغل الإدارات سلطتها لخرق القانون، وتهديد من يرفض خرق مقتضياته بأساليب يندى لها الجبين !.