هادي معزوز
يتحدث الصوفي الشهير ابن الفارض في أكثر من معرض، عن تلك العلاقة العجيبة بين القرب والبعد، فيخلص مثلما خلص الكثير بعده من قبيل الفيلسوف الألماني هايدغر، أن في الاقتراب ابتعاد وفي الابتعاد دُنُوٌّ، كما في النسيان تذكر، وفي التذكر نسيان للنسيان، ومنه سنعمل في هذا المقام على قلب تلك العلاقة المنطقية التي تميز بين الاقتراب والابتعاد، حيث الأول أي الاقتراب مسافة جد مختصرة بين شيئين على الأقل أو ما يزيد، بينما الابتعاد بَوْنٌ شاسع، وحدود ممتدة بامتداد البصر بين الأشياء والأشخاص على حد سواء، وعليه أدعوكم لتأمل خريطة العالم، خاصة تلك المنطقة التي اعتبرت دوما وستبقى لا محالة بؤرة لكل الصراعات الدينية والعرقية والسياسية… وهنا إشارة ضمنية لحوض البحر الأبيض المتوسط حيث الحضارة تقف جنب التخلف، والفقر المدقع يكاد يربط علاقة صداقة حميمة والغنى الفاحش، والتاريخ لا يكاد يفترق مع الكذب والتضليل.
لكن فلندقق الأمر أكثر، ولنركز زاوية نظرنا نحو مضيق جبل طارق حيث حافة الانتقال من إفريقيا إلى أوربا أو العكس، عندما نقرأ الخريطة طوبوغرافيا قد لا نعثر عن أي شيء مثير، كما ليس ننال أية ملاحظة جديدة، عندها نعيد الخريطة إلى موضعها ثم ننصرف لقضاء شيء ما، بيد أنه إذا طلب منا إعادة قراءة تلك الخريطة ليس جغرافيا وإنما على الأصعدة السياسية والحقوقية والفكرية، حينها سنؤجل كل شيء، عائدين إلى أوهام شعراء الأندلس لحظة سقوط غرناطة، باكين عن تاريخ لا نصدق منه إلا ما أعطونا إياه.
أما إذا أردنا أن نسمي الأسماء بمسمياتها فإننا سنعقد مقاربة ومقارنة أكثر دقة بين المغرب وأوربا، أي بين منطقتين قريبتين جغرافيا بعيدتين قيميا وعمليا، وهو ما سيبين بالملموس أن ما قاله ابن الفارض ذات يوم حول البعد والقرب إنما تصح معالمه في هاته المقارنة، فيستحيل البعيد قريبا والقريب بعيدا، لكن ما القريب هنا وما البعيد؟ الحقيقة أننا كنا دوما حالة خاصة على جميع الأصعدة وهاهي خصوصيتنا تظهر اليوم مثلما كانت عليه من قبل بلباسها الكوميدي، ومنه فعلينا ألا ننسى أننا البلد الوحيد الذي استعمر من طرف دولتين، مثلما نحن البلد الوحيد الذي لازالت مستعمرة ثغوره وفي نفس الوقت تراه يخرج بالآلاف نصرة لاحتلال الشعوب، دون أن يخرج بالمئات إعلانا منه على وضع حد لجزرنا وثغورنا المحتلة… في مقابل ذلك قد لا يسعنا إلا التذكير بازدواجية خطابنا وممارساتنا، مما جعلنا شعبا مُنفصمة شخصيته متشردم وعيه الجمعي، فأين يكمن السبب في ذلك؟
القريب تعاملنا معه دوما كبعيد جدا، حيث لم ندرس علومهم، ولم نعتبر بسياستهم، ولم نأخذ عنهم خاصية الإمكان فيهم، والبعيد جدا أخذنا منه كل شيء بما فيه صراعاتهم ونزواتهم واستبدادهم ونفاقهم وغشهم… متجاوزين خصوصيات التاريخ والثقافة والجغرافيا، مؤكدين سرياليتنا الغريبة جدا، إذ ما الذي كنا نقوم به زمن القرنين الخامس والسادس عشر، حيث كنا قريبين من كوبرنيك وغاليلي وكبلر ودانتي وديكارت ونيوتن وسيرفانتيس… على أننا ذهبنا عند البعيد عاثرين فيه على ضالتنا من قبيل أحمد بن حنبل والغزالي وابن تيمية… حيث التكفير ولا شيء غير التكفير، وتشجيع الانغلاق وإنماء التطرف فينا، على العموم، اليوم نحصد ثمن قربنا البعيد عنهم، وثمن بعدنا منهم.
والحال أن سخرية التاريخ فينا تكاد تضحكنا بكثير من الغصة وعدم الانشراح المعنوي، ففي الوقت الذي جاء فيه ابن تومرت مدعيا أنه يكلم الموتى حيث صدقه الجميع وذلك بحيلة ابتدعها، وفي الوقت الذي كان فيه الملك إسماعيل زمن بداية الدولة العلوية، مهووسا بقتل كل من أوحت له نفسه بذلك، مفتخرا بالسجون التي يشيد، والجدران التي تختلط فيها مواد البناء بجثث الأشخاص، وفي الوقت الذي أكد الملك سليمان أن القاطرة التي رآها بإنجلترا يجرها شيطان مارد، وفي الوقت الذي صدق فيه الناس أنهم رأوا محمد الخامس في القمر… كانت أوربا القريبة منا ببضعة كيلومترات تعيد ترتيب الكون بمركزية الشمس، وتعيد ترتيب الإنسان بمركزية ذاته، وتعيد قراءة المسيحية باسم الإصلاح الديني، وتعيد قراءة النص القانوني باسم حقوق الإنسان، وتعيد النبش في الحكم باسم فصل السلط، وتعيد قراءة مسلماتنا باسم قانون الجاذبية، وتعيد ترتيب العالم باسم الحملات الإمبريالية… حينها كنا ننهل من البعيد تخلفه، ناسين أن القريب يغلي غليانا جعله بعدئذ سيد العالم وسلطان الأقوام.
اليوم لازلنا نعيش على نفس الإيقاع، في عالم أصبح القوي فيه غير تابع، والضعيف منه يتمايل بين هذا وذاك، حيث لا طاعة لمن لا رأي له، كما قال عمر بن الخطاب ذات يوم، وهو ما يبدو جليا وواضحا لدرجة الإصابة بالعمى، انتقل من أوربا إلى المغرب عبر المضيق كي ترى الفرق الكبير، وانتقل أيضا من هناك إلى هنا كي تتأمل عبث العالم، وانتقل مرة ثالثة بجوارحك ووجدانك وعقلك، حينها سترى أن الفساد وغياب الفساد جيران بينهما مسافة ثلاثة كيلومتر ونصف، ومنه فقد نجحت فرضية ابن الفارض ليس صوفيا وحسب، وإنما سياسيا ووجوديا كذلك.
على صعيد أخير، فلنعلم أن الاستقلالية لن تنطلق سوى بالثقافة، حيث تحول القريب منا والبعيد عنا، ثقافيا وفلسفيا وفنيا، قبل أن يتحول سياسيا واقتصاديا وعلميا، لكن عن أي تحول نتحدث اليوم، ونحن لا زلنا لم نعثر بعد عن ثقافتنا التي عمرنا بها في تلك الأزمنة البعيدة، لا يجب أن ننسى أن لنا مدنا تضرب جذورها في عمق التاريخ من قبيل وليلي وآنفا وليكسوس وطنجيس وأصيلا… ومنه أين ضيعنا تلك الثقافة العظيمة؟ معوضين إياها اليوم، بثقافة البرقع، والتشادور، والنقاب، والجهاد، ووهم الخلافة… وختاما لا يجب أن ننسى ذلك، مثلما لا يجب ألا ننسى أن ابن رشد دعا إلى إعادة قراءة وضعية المرأة، مثلما دعا إلى ضرورة إعادة قراءة الدين بناءً على العقل وليس النقل الساذج… ومنه فلنكتفي بفكرة ابن الفارض بين القرب والبعد على المستوى الصوفي فقط، ولنعمل على تطبيق نقيضها في باقي المجالات الأخرى.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…