محمد الطائع*
الكثير من التاريخ والقليل من الجغرافية، هو العنوان العريض لأزمة إسرائيل مع جيرانها ومحيطها. بعيدا عن الانطباعيات والترددات العاطفية، نحن أمام قضية جد معقدة، توارثتها الشعوب والدول والحكام والنخب مند وعد بلفور 1917. عقود من الحروب وأخرى من ” اللآحرب” حتى لا نقول السلم. التوتر دائم مند السنوات الأولى من القرن الماضي وقد نجد الجدور في الأزمنة الغابرة. ومع مرور الزمن والمحن وكل محاولات الالتفاف على هده الحقيقة التاريخية والجغرافية، تنتصب الحقيقة نفسها المرة تلو المرة، دائما أمام العالم والأجيال المتعاقبة. حقيقة الصراع في الشرق الأوسط الكبير، تاريخي بامتياز وبخلفية حضارية روحية/دينية وجيوسياسي بخلفية اقتصادية مادية خالصة، امبريالي في المنتهى.
التاريخ و التأريخ و الذاكرة : مجال حيوي للصراع الاستراتيجي
انتقل الصراع من مربعه الأول، الإسرائيلي العربي، حوالي نصف قرن، الى مربع المكون الفارسي الشيعي، أقل من نصف قرن. وبين الفترتين التاريخيتين، أختزل الصراع طويلا بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا غير. وبتغيير مسميات خصوم إسرائيل ومقاوماتها ومعارضي مشاريعها مع تبدل الأزمنة، يبقى كنه الصراع جاثما على صفحات التاريخ والذاكرة. هي نفس القضية وتلعب فصولها في نفس الرقعة الجغرافية. لا شك أن حدث 7 أكتوبر2024، الموسوم ب” طوفان الأقصى”، حدث تاريخي مفصلي في المنطقة ومستقبلها، حيث هاجمت حركة حماس الفلسطينية بدعم من محور إيران، العمق الإسرائيلي في عملية عسكرية نوعية وغير مسبوقة في المجال الحربي، حسب الخبراء العسكريين. هو حدث كبير وكبير للغاية في بعده الإقليمي والدولي. حدث تاريخي وقوس جديد لمرحلة جديدة. من أبرز نتائج “ضربة” 7 أكتوبر، تعطيل عجلات المسار الابراهيمي الدي طالما انتشت به إسرائيل باعتباره أفق وجودي حيوي لها. فبتذويب خطاطة أبراهام بكل أبعادها المختلفة و فرملة قطار التطبيع الدي كان قد انطلقت بسرعة قصوى، تكون حركة حماس والمقاومة الفلسطينية و اللبنانية ومن خلفها ايران، قد نسفت أو على الأقل نجحت في زعزعة الكبرياء و الدهاء الاستراتيجي لإسرائيل وحلفاءها، وفرملة المخطط، بكامل الدهشة من حجم طبيعة المبادرة والرد وعنصر المفاجأة في التوقيت.
ثانيا، تمكنت حركات المقاومة أو “محور الممانعة” بشكل عام، بعد عملية 7 اكتوبر من تهشيم صورة إسرائيل لدى الغالبية العظمى من الجمهور والمسؤولين، هدا ما تجمع عليه العديد من التقارير الدولية للمراكز البحثية المعتبرة. مما استتبعه كنتيجة، العودة القوية للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية إنسانية عادلة. لقد عادت الكوفية والاعلام الفلسطينية الى الاروقة والصالونات والفعاليات والشاشات، بعد سنوات من الضمور والكمون. لقد خلص جل الباحثين والمهتمين الى كون “ضربة” 7 أكتوبر، كانت قاصمة لإسرائيل وحلفاءها، عسكريا، استخباراتيا، سياسيا، اقتصاديا وديبلوماسيا وحتى إعلاميا. وعلى مر سنة كاملة لم تنجح إسرائيل في تحقيق نصر معتبر ومعترف به لصالحها على كافة الأصعدة. بالعكس من دلك تضررت صورة إسرائيل كثيرا، شعبيا ورسميا. فلم يسبق أن اهتزت الجامعات الغربية ، وخاصة الأمريكية ،المراقبة في جلها من طرف إسرائيل عبر المورد المالي، تضامنا مع فلسطين ، مثلما حدث هدا العام ، بل دهبت أصوات وتنظيمات طلابية في فرنسا الى اعلان الانتفاضة في شوارع باريس تضامنا مع غزة وفلسطين. وبقد التضامن الهائل مع فلسطين وسكان غزة ، خرجت مجموعة من الدول الغربية على حيادها ، وأصبحت تطارد كل متضامن أو حتى شارات ترمز الى فلسطين ، في جو ترهيبي غير مسبوق في الغرب ، ووتخاصة في المانيا، وفرنسا، بريطانيا و أمريكا طبعا ، بفعل الضغط و النفود الإسرائيلي .
ونظرا للتداعيات الخطيرة على إسرائيل وحلفاءها، خاصة أمريكا، بريطانيا، صممت إسرائيل أن يكون الرد ” ماحقا ساحقا” وعلى مرآى ومسمع الجميع. ففي سياق حربي تصعيدي، وفي إطار الجيل الجديد من الحروب، صممت إسرائيل أن تمنع “محور الممانعة “من الاحتفال والاحتفاء بتاريخ 7 أكتوبر وعدم ترسيمه وحفره في الوعي والوجدان كحدث تاريخي يؤسس عليه ويبنى عليه. حرب ذاكرة وحرب تاريخ لغرض التأريخ. رد إسرائيل قبيل ذكرى 7 أكتوبر، جاء واضحا وعاصفا وقاسيا. اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله يوم 27 شتنبر من السنة الجارية، وقبله زعيم حركة حماس إسماعيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية طهران، وهو ضيف عليها وفيها، بمعية العديد من أطر وكوادر حماس وحزب الله وقيادات إيرانية. هو إصرار إسرائيلي على كي وعي ووجدان محور الممانعة وكسر كل معنوياته وتدمير نفسي وتخريب للطاقات والطموحات. تريد إسرائيل باغتيال حسن نصر الله في هكذا توقيت، ان تختار لنفسها هي تاريخا للاحتفال والاحتفاء به. أ ن تكون هي صاحبة المبادرة والمظلومية. أن تقدم لنفسها وناسها نصرا تمحو به ما جرى في 7 أكتوبر وما لم تحقق على طول عام بعد 7 أكتوبر 2023. وهي بدلك تمنع عن خصمها وعن أعداءها تخصيب الذاكرة وإنعاش الدواكر، وتحرير المحبرة والصورة لتوثيق ما يجرى وجرى.. وفي نهاية المطاف فلكل تاريخه وتأريخه وداكرته.
بتاريخ 27 شتنبر تريد إسرائيل استبدال تاريخ 7 أكتوبر وفرضه بقوة النار والحديد. بين التاريخين، استراتيجيات متناحرة ومخططات جبارة. بين التاريخين ترتسم خصومات بين هويات وحضارات. الأيام وحدها هي الكفيلة ببسط تفاصيلها. والهدف الآخر لاغتيال حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، هو جر إيران لمستنقع استفزازي ينتهي بحرب مفتوحة والقضاء على كل محورها وادرعها وتفكيك بنيانه وعتاده وخزانه البشري. والهدف الاستراتيجي المركزي الإسرائيلي الغربي، السري والعلني والازلي، هو منع إيران من امتلاك القنبلة النووية والتخلص من نظام ولاية الفقيه وان اقتضى الأمر القيام بعميلة اغتيال المرشد الخامنئي. فبعد فشل كل المحاولات “الناعمة” وعلى مر عقود خلت، لم يبق أمام إسرائيل وامريكا سوى الحرب وبوجه مكشوف. اللعب أصبح مكشوفا اليوم. وهنا بالضبط نجح الفلسطينيون واللبنانيون والإيرانيون والمتعاطفون معهم والواقفون من خلف جدار كروسيا والصين، في كشف اللعبة وفضح أطرافها للعالم والعالمين. القضية قضية وجود والزمن ليس في صالح إسرائيل والغرب. انها نهاية حقبة ومرحلة.انها نهاية حقبة الدولار .
ادا كانت مخرجات ونتائج الحرب العالمية الأولى 1914/1918، قد نجحت في تحطيم الإمبراطورية الإسلامية السنية العثمانية التركية، وتوزيع تركتها على المكون العربي وغير. وادا كانت مخرجات ونتائج الحرب العالمية الثانية 1939 /1945 قد نجحت في تدمير الإمبراطورية الألمانية المسيحية، والتخلص من ” هتلر” وتوزيع ارث بأسمارك والنفود الجرماني، فان ذات المرجعية المتعالية بقيادة أمريكا وإسرائيل، دمرت مند ربع قرن الشرق الأوسط ومعه شمال افريقيا. اليوم يطرح السؤال جديا؟ ما الغد وما المصير والمستقبل؟ من سيكون كبش أو أكباش الحرب الكونية الثالثة.. إيران أو معها روسيا وربما مصر؟ قد يكون آخرون؟ هي مجرد أسئلة وفرضيات؟. الثابت والمحقق ان خرائط كثيرة ستذهب ادراج الرياح وحدود واسعة ستتغير. والتاريخ كفيل بتوثيق المحفوظ، لأن المؤرخ لا يسجل من الأحداث الا ما كان لها مغزى. التاريخ يفرز الخرافة من الحقيقة التاريخية والمعرفة العلمية. التاريخ بطبيعته كعلم انساني يشتغل على دهنية العموم، وكما يقال فان الوعي التاريخي لا يتحقق الا في أزمنة التقدم والرخاء.
اختارت إسرائيل التصعيد في الشرق الأوسط، وممارسة ” البلطجة الدولية” لأنها تعرف أن العالم على حافتي زلزال وبركان اقتصادي عنيف، وأن القيادة الامريكية تعيش مرحلة تخبط وتيه استراتيجي ” سلطة شبه بيضاء” بعد اقصاء الرئيس الأميركي جون بايدن وعدم الرهان عليه في السباق الرئاسي على بعد أيام قليلة من الانتخابات الرئاسية، التي تذهب كل التحليلات ان نتائج الانتخابات الامريكية المرتقبة في شهر نونبر المقبل ستزيد من تأزيم الوضع الداخلي الأمريكي مهما كان الفائز بها. فضلا عن وضع مالي في مختلف بورصات العالم يندر بالكارثة في كل دقيقة. أيضا، تعيش فرنسا وضع مأزوم اقتصاديا وسياسيا. حكومة عرجاء لا تحظى بسند شعبي وبرلمان ملغوم، رئيس دولة مطعون فيه خاصة بعد الولاية الثانية، شبه معزول، وشعب ونخب متدمرة من القيادة والمدبرون.
لبنان، ليس أحسن حالا، فتقريبا، تحولت الدولة اللبنانية الى ” دولة شبح” بلا رئيس وحكومة بلا صلاحيات حقيقة. دولة لبنان شبه مفلسة. أيضا لا يفصل إيران عن الإعلان رسميا على امتلاكها للقنبلة النووية سوى أسابيع قليلة حسب ما يقوله المختصون في المجال. في خضم هده الجزئيات الزمنية، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو علانية من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 27 شتنبر 2024، عن عالمين وخريطتين، وعلى ” العالمين من سكان كوكب الأرض” أن يختاروا، الى أي خريطة سينتمون كرها لا طوعا. سويعات بعد دلك، أعلنت إسرائيل عن استهداف لبنان واغتيال حسن نصر الله. سابقة تاريخية في العلاقات الدولية والعلوم السياسية والدبلوماسية. لقد قام نتانياهو بدهس ميثاق الأمم المتحدة بترهيب الأمين العام للأمم المتحدة ومعه عموم المؤسسات الدولية ضاربا بدلك كل الأعراف الديبلوماسية والمواثيق الدولية. ” بلطجة” تفضح للقاصي والداني، أن العالم اليوم في فوضى مطلقة والحبل على الجرار. وهدا الامر يطعن، لا محالة، في شرعية المؤسسات الدولية ومصداقية قراراتها ومسؤوليها. لا تتردد إسرائيل علنا في استعمال الترهيب والتحقير والابتزاز والاستفزاز في التعامل مع حلفاءها، وبالأحرى مخالفيها. لقد ادخل نتانياهو إسرائيل الى حقبة ومرحلة حرجة ومصيرية للغاية. ومع استمرار إسرائيل في سياسة الغطرسة والعدوان على الدول والشعوب والمؤسسات الدولية، يتسع نطاق عزل إسرائيل وتتعقد عمليات حشد التضامن الدولي واقناع المجتمع الدولي بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وكنتيجة منطقية، فإلى اليوم أن العديد من الدول والمؤسسات الدولية لم تدن هجوم إيران على إسرائيل وقصفها بعشرات الصواريخ.
الحرب في منطقة الشرق الأوسط، تدفع بها أمريكا واسرائيل الى جحيم عابر للقارات والدول، وإسرائيل تنفخ في الجمر صباح مساء، وترفض كل مقترحات ومخرجات التسوية السلمية لكل القضايا الإقليمية والدولية. فبعدما نجحت الصين بضربة ديبلوماسية معتبرة، يوم 21 يوليوز من السنة الجارية، في جمع الفصائل الفلسطينية في بيكين، 14 فصيلا، وتم الاتفاق على نبد التفرقة والعمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية شاملة، قامت إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية 10 أيام بعد دلك. وبعدما قبلت حركة حماس وحزب الله وعموم فصائل محور الممانعة، حسب التقارير الدولية الموثوقة، وقف إطلاق، أقدمت إسرائيل على اغتيال حسن نصر الله. نتانياهو لم يتردد في خطابه في الأمم المتحدة بالتهجم و ” تسفيه” رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس واهانته. سياسية تصعيد، تروم تأزيم الأوضاع واشعال المنطقة للتنفيس على الازمة الاقتصادية التي تخنق انفاس النظام العالمي، وسعر الدهب في السوق الدولية أكبر دليل، ومعها تطويق نفود وطموح الصين وروسيا، والتشويش الاستراتيجي على منافد التجارة الدولية والقضاء على حلفاء الصين وروسيا في المنطقة.
نهاية نظامي ما بعد 1945 و 2001
الخطير فيما تذهب اليه وتعنيه خرائط نتانياهو علنا، في الأمم المتحدة بمناسبة انعقاد الدورة 79 للجمعية العامة، هو أن الحرب قد تشتعل ستتجاوز نطاق غزة والضفة الغربية و جنوب لبنان، وقد تصل الى الأردن وصولا الى كل مجال شمال افريقيا، سياسيا وجغرافيا، مرورا بمصر وقبرص وامتداد البحر الأبيض المتوسط. فحسبه فان الوضعية الدولية والسياق الإقليمي، يحتم على الدول و الشعوب، اما ان تلتحق “بمحور الخير” الذي تقوده أمريكا وبريطانيا و إسرائيل و اما ان تجد نفسها محسوبة على “محور” الشر” الذي قد يكون هو الجهة المقابلة للمحور الغربي وبالتالي فهي عدو وستنال من العقاب ما نالته حماس و حزب الله وايران.. وغدا سيأتي الدور على الخامنئي وبشار الأسد وبعد غد بوتين ومن يدري الدور على من لاحقا؟ في ظل الفوضى الدولية التي أصبحت تنتشر كبقع الزيت، كل شيئا انتهى وكل شيىء أصبح ممكنا.
ما قام به نتانياهو في الأمم المتحدة يوم 27 شتنبر 2024، واظهاره لخرائط وتخييره للعالمين فوق كوكب الأرض بين الخير والشر والتهويل من النووي الايراني وبه، هو نفس ما قام به بالضبط جورج بوش الابن ووزير دفاعه “كولين باول” ومن منصة الأمم المتحدة في فبراير 2002. كلاهما أرهبوا العالم بالمشروع النووي العراقي وخطورة الطموحات التوسعية لصدام حسين الدي ” يمتلك أسلحة الدمار الشامل”، وجاء كولن باول بصورة ” هزلية” للنووي العراقي، وبعد تاريخ 11 شتنبر 2001 الدي فرضته اميركا على العالم، وأعلنت نفسها بموجب دلك زعيمة للنظام العالمي الجديد. هو نفسه النظام الذي خير فيه الرئيس الأمريكي بوش الابن” العالمين فوق كوكب الأرض” بين الاختيار والانتماء، إما “لمحور الشر” أو “محور الخير”. سنوات بعد دلك سيعتذر بوش وطوني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ومعه كولن بأول، أن صدام حسين، ليس فقط لا يملك قنبلة نووية أو له علاقة مع اسامة بلادن وتنظيم القاعدة، بل أن قتل واغتيال صدام وتخريب العراق، كان خطأ وكذب مع تقديم الاعتذار. هي القضية نفسها والمعضلة ذاتها والرقعة الجغرافية نفسها وذاتها. للعبرة والتاريخ. اتفق علماء التاريخ، أن المعرفة التاريخية لا تكون موضوعية الا بنبذ الذات. وهو الاتجاه الذي انتصر له عبد الله العروي الذي بدوره زكى وأثنى في استنتاجاته ما خلص اليه عبد الرحمان بن خلدون، عن معنى الدول والأمم والحضارات، المسار اللولبي لكل بداية ونهاية، إنها حتمية تاريخية . حيث الماضي التاريخي ذهني بالأساس. الماضي منساب في المستقبل لا أقل ولا أكثر وهو حقيقة أكثر من علمية. وليس لمعنى للحاضر سوى تجلي ذاكرة تقاوم النسيان منصهرة في المستقبل. ربط المفهوم بالفعل يدفع المقاربة لتصبح الذاكرة، فردية كانت ام جماعية، حصن معرفي بغايات وجودية، وليس فحسب فعل اوتوماتيكي لمقاومة النسيان. بين مفهومي، نيتشه و بول ريكور حول مفعول الذاكرة في كتابة التاريخ، نقول، اليوم تكتب صفحات جديدة للتاريخ الإنساني و للبشرية جمعاء. شخصيا، اذهب فأقول، انتهت كل مخلفات الحرب العالمية الثانية. وعالم الراهن اليوم في فوضى واسعة، عنوانه، قانون الغاب، كنس خرائط ودول وشعوب، وإعادة رسم مصالح أخرى بتسميات أخرى. عالم انتهى وهذا يقين. عالم قادم وهذا يقين. نحن نحيى زمنين وعالمين فيما تبقى من فناء الأول وبداية الثاني.
منطقة الشرق الأوسط الكبير متجهة الى سابق عهدها قبل سنة 1906، ومعها ربوع الإقليم. موجة ديمغرافية هائلة، النزوح عنوانها. تيار روحاني جارف يخترق الإحصاءات والأرقام والفضاء الرقمي. ومن تداعيات اغتيال حسن نصر الله والعدوان على لبنان ووحشية ما يقترف ضد المدنيين العزل في غزة، تسريع عملية التقارب السني الشيعي، وهدا تحول هائل وخيط استراتيجي يغزل به. عالم عاصف في الأفق. الديمغرافية في طريقها لهزم شكليات الديمقراطية العددية في الغرب. نحن على أعتاب عهد جديد لم تعد فيه أمريكا وفرنسا وبريطانيا واسرائيل، عنونا للقوة والحداثة والديمقراطية. هي ربما حرب عبر أقاليم تمتد لخمس سنوات متواصلة بتقطيع محكوم بأوكسجين البورصات العالمية حتى نهاية 2030.
انتصر رائدو مدرسة الحوليات، لوسيان فيفر ومارك بلوك، لفكرة كون علم التاريخ مفصول، عن جدلية مشاريع السلطة. حقا نحن هنا أمام ديناميات مجتمعية وفق جدلية جان جاك روسي ومحي الدين بن عربي وحتى التيار الوضعاني وخاصة الاتجاه الالماني، تتقاطع مع تجلي ذات المفهوم عند ابن رشد وفرناند بردويل. في هذا الإطار وجب القول ومن باب التذكير أن دور المؤرخ في علاقته مع الحدث والوثيقة هو السر في الحدث وتفسيره وتفكيك اسراره بالمعنى الدوركايمي؟ هذه مهمة الباحث في التاريخ في انسجاميته مع باقي العلوم المجاورة. ولأن الذي يجري أمامنا “ضخم حقا” وفي تفاصيله مشاهد “رعب منتظرة”، أختم بما خلص اليه فرنسوا دوس وجون لاكوتير وعمق فيه حسنين هيكل ولاحقا فتحي ليسير وعبد الهق العروي، كون الصحافي، هو مؤرخ اللحظة، يشتغل على نقل الطوارئ والاخبار النادرة. وأن مهمة المؤرخ ترتكز على الحدث الأكبر أهمية وفصحه وتتبعه خاصة الحدث الدي تتمخض عنه أحداث مفصلية وخطيرة. الحدث عند المؤرخ، لا يحمل صفة خاصة عليه. انه الحدث الكبير وكفى.
يبقى المهم والأهم، والشغل الشاغل هو، أي مؤسسات ونخبة ومستقبل لمغرب الغد، في ظل كل هذا الهيجان والفوضى والطوفان ” الأقسى ” في بعده العسكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي؟ ما مستقبل هدا البلد الأمين، مما يجري حولنا وسيجري لاحقا؟ بشاعات منتشرة في كل المجالات لا تبالي بما هو آت؟ هي صعبة أيام الغد لا شك. وقد تكون أشد شؤما لا قدر الله، خاصة على افراد جاليتنا بالمهجر، التي وجب التفكير من الآن وسريعا في تثبيت بنيات استقبالها والاعداد لدمجها في النسيج الوطني المحلي بكل اكراهاته واكراهاتهم؟ وجب الإسراع بتطهير المشهد العام بمختلف مستوياته من محتليه ومعتوهيه ومرتزقته ومنافقيه والمتغاضى عنهم. المستقبل عاصف، والوقت ضيق وضاغط.
مند قرون خلت، وليس اليوم فحسب، ظل وكان تاريخ المغرب وجغرافيته، دوما ملح الأمة داخليا. ومحط أطماع خارجية لأقوام وأجناس منها من انقرض ومنها لا زال يكابر، كلها، لم تنل من تاريخ المغرب و جغرافيتة شيئا.
من المفروض، والحالة هده، أن يكون مشروع قانون مالية 2025 وافتتاح السنة التشريعية الجديدة يوم الجمعة 11 أكتوبر الجاري، بداية لحقبة مغربية جديدة، تقطع مع ما سبق. الظرفية والمستقبل، تستوجبان، صرامة كبرى ويقظة أكبر وتعبئة وطنية شاملة.
*باحث في التاريخ الراهن والمعاصر ، إعلامي ومحلل سياسي.
تراجع معدل التصخم في المغرب إلى 0.7%
أفادت المندوبية السامية للتخطيط اليوم الجمعة، أن معدل التضخم السنوي في البلاد، الذي يقيس م…