حمادي كيروم

إن ما يميز الدور التاسعة والستين لمهرجان “كان” هو عودة كبار المخرجين للمشاركة بأفلامهم في المسابقة الرسمية ، أمثال المخرج الاسباني بيدرو المودوفار بفيلمه العذب والتراجيدي Julieta، والمخرجة الفرنسية نيكول كارسيا بفيلمها الرومانسي Mal de Pierres، والمخرج الأمريكي سين بين بفيلمه عن الحب في زمن الحرب ، The last face . وبموازاة مع هؤلاء الكبار يعود من جديد جيل الشباب أمثال المخرج الإيراني أصغر فرهادي بفيلمه عن الحياة الزوجية واليومي “Le client ” ، والمخرج الروماني كريستون مونجي بفيلمه عن الضمير المهني والعلاقة مع الذاتي “Bacalaureat” .
ويأتي على رأس هذه القائمة المخرج الانكليزي كين لوش البالغ من العمر تسعة وسبعين سنة، وتعتبر هذه المشاركة هي الثالثة عشرة في مساره بمهرجان كان ، الذي توج فيه بالسعفة الذهبية سنة 2006 عن فيلمه ” Le vent se lève ” ، الذي يعالج فيه مشكلة الحرب الإرلندية. وبهذا يعتبر كين لوش من الوجوه المألوفة والضرورية لمهرجان كان، التي تحتفظ لهذه التظاهرة الدولية بطابعها الفني والابداعي الذي ينتصر لسينما المؤلف، أمثال وودي آلان والأخوين داردان .
يعود كين لوش هذه السنة بفيلم “Moi , Daniel Blake”، الذي يعرض قصة رجل ستيني يدعى دانيال بلاك، كان يشتغل في معمل للنجارة، فاضطر لمغادرة العمل طبقا لوصية الطبيب، بعدما أصابته نوبة قلبية. غير أنه وجد نفسه مضطرا للبحث عن عمل آخر للاحتفاظ بخدمات الضمان الاجتماعي، وفي تيهه داخل الشبكة الإدارية وتعقيداتها، سيلتقي أما عازبة شابة، رفقة طفليها بدون عمل وبدون ماوى، وبما أنه قد فقد زوجته قريبا، وجد في هذه العائلة، التي استضافها في بيته شبه عزاء يملا وحدته ويبرر بحثه عن العمل. غير أن أزمة عدم وجود الشغل ومتطلبات العيش اليومي سيجبر هذه آلام الشابة إلى اللجوء إلى التعاونيات الخيرية للبحث عن بعض المواد الغذائية، وستنتهي في الأخير بين يدي إحدى وسيطات العهارة، مما سيؤزم دانيال بلاك الذي حاول أن ينقدها من الغرق في الوقت الذي يعيش فيه هو نفسه، نفس المصير. غير أن كرامته وعزة نفسه لم تسمح له باللجوء إلى الجمعيات الخيرية. وأثناء استعداده لرفع دعوى ضد المصالح الإدارية التي قررت أن تحرمه من التعويضات الاجتماعية، أعد مرافعة يبين فيها أنه مواطن صالح قضى كل حياته يعمل ويدفع الضرائب، ويحترم كل قواعد اللعبة. غير أن فخ الشبكة الإدارية انقض عليه. لكنه رغم ذالك، لن يستسلم لأنه يطلب من الدولة أن تعامله كمواطن له كرامته لا أقل ولا أكثر . غير أن هذه الرسالة المرافعة ستصبح بيان إدانة و اتهام للنظام السياسي للدولة بشكل عام. لأن السيد دانيال بلاك سيسقط صريع أزمته القلبية قبل أن تنعقد الجلسة التي كان من المطلوب منها أن تنصفه. وستقوم صديقته الأم العازبة بقراءة هذه الرسالة نيابة عنه.
يظل كين لوش بهذا الفيلم وفيا لخطه الفني ولرؤيته للعالم ولحسه السياسي والاجتماعي. وقد استطاع أن يقدم فيلمه بفنية عالية تعتمد العرض الصوري والمشهدي البعيد عن الباثولوجيا والخطاب البُرهاني المباشر. إنه يدافع عن طبقة مهددة بالسقوط في الهاوية، طبقة متروكة لنفسها، بعد أن تخلت عنها الدولة والحكومة والنقابات، ولم يبق أمامها إلا الذات والآخر. إن فيلم المواطن بلاك هو فيلم عن الكرامة الإنسانية، وعن الفئة الهشة فينا، لذا فهو فيلم جارح يصيبك ببرودة مؤلمة تجتاح عمودك الفقري.
بعد نهاية الفيلم لم يصفق الناس كعادتهم مع الأفلام الرائعة، بشكل تلقائي وسريع. بل تطلب ذالك لحظة من الصمت مريبة، لكي يعيد الناس إحساسهم بأعضائهم ، بعد نفض الشلل الذي تسرب للأعضاء وللنفوس، بسبب ما ينتظر الإنسان في الحياة المعاصرة الخاضعة لما يسمى بالسيستيم.

التعليقات على من قلب كان.. كين لوش أو السينما التي تعيد للمواطن كرامته مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

لقجع وبوريطة يؤكدان “التزام” وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية

أبرز ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي و المغاربة المقيمين في الخارج، وف…