عبد الله الجباري
منذ حوالي ثلاثين سنة، والقطاع الخاص في مجالي التعليم والصحة يعرف نموا واطرادا في المجتمع، وتعرف أرقام معاملات المجالين نسبة لا يستهان بها في مجال الاستثمار، إلا أن لهما خصوصية يتفردان بها، بخلاف الاستثمارات في المجالات الأخرى، لأن المجالين يقدمان خدمات أساسية واجتماعية لا يمكن أن تخضع لمنطق الاحتكار أو الابتزاز أو المنع أو غيرها، تفاديا للوقوع في مأزق “تبضيع وتسليع” التعليم والصحة.
وبالنسبة للقطاع الخاص في التعليم، ارتقت به وثيقة “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” إلى درجة “الشريك والطرف الرئيس إلى جانب الدولة في النهوض بنظام التربية والتكوين”، وفي المقابل، فرضت عليه الوثيقة السابقة ضرورة “التزامه باعتبار التربية والتكوين مرفقا عموميا”. فهل كان هذا القطاع شريكا للدولة في تدبير أزمة جائحة كورونا؟ وهل التزم “باعتبار التربية والتكوين مرفقا عموميا”؟
كشفت لنا جائحة كورونا عن أزمة متعددة الجوانب في المجتمع، وطفت على السطح إشكالات متنوعة، عجزت كثير من القطاعات عن حلها، مما ترتبت عنه بعض الاحتجاجات التي خرجت إلى الشارع العام رغم حالة الطوارئ الصحية، وإجراءات الحجر الصحي.
ومن ذلك، احتجاجات آباء وأولياء التلاميذ التي عرفتها ساحات مواقع التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي، وعرفتها بعد ذلك واجهات مجموعة من المؤسسات التعليمية الخصوصية في الواقع الحي، وقد غطتها إعلاميا وسائل إعلام محلية ووطنية ودولية، فما هي أسباب هذا التشنج بين الفرقاء؟
قبل البدء، لا بد أن أشير إلى تفادي التعميم في هذه النازلة، لأن مجموعة من مدارس القطاع الخاص لم تعرف إشكالات تذكر، كما يجب التنويه بالجهود الجبارة التي قام بها أساتذة وأستاذات القطاع، رغم قلة الإمكانات، وضعف التكوين في “التعليم عن بعد”.
يرجع المأزق الحاصل بين أولياء التلاميذ و”مقاولي التعليم” إلى وجوب أداء [الأب/الزبون] للمستحقات الشهرية التي يؤديها مقابل [التربية والتكوين/السلعة] التي يتلقاها [التلميذ/المستهلك].
هذا الإشكال، يجعلنا أمام تعدد الزوايا، منها: الزاوية التربوية البيداغوجية، والزاوية التجارية المقاولاتية.
حين ننظر في الزاوية التربوية البيداغوجية، يجمع كل خبراء المجال التربوي أن التعليم عن بعد هو أقل بكثير من التعليم الحضوري، إنْ على المستوى التفاعلي، أو على مستوي بناء شخصية التلميذ، أو على مستوى التلقي العلمي، أو على مستوى ما يسمى التعليم بالنظير، وأجرأة فعل المنافسة التربوية على الواقع الصفي، أو على مستوى تحقيق اندماج التلميذ في المحيط.
والخلاصة التي تُبنى على ما أجمع عليه خبراء التربية، هي أن المؤسسات التعليمية الخاصة وإن قدّمت مجهودا على تفاوت بين آحادها، إلا أنها لم ترْقَ إلى تقديم الخدمة الاعتيادية التي وقع الالتزام عليها ابتداءً بينها وبين ولي أمر التلميذ.
يضاف إلى ذلك، أن المدرسة الخصوصية تخلت كُلّا أو جزءا عن كثير من مهامها، مثل احتضان التلميذ في فضائها، ومراقبته والعناية به، وانتقل عبء ذلك إلى الآباء أنفسهم، حيث سهروا بنسبة لا يستهان بها على شرح الدروس لأبنائهم، ورعايتهم واحتضانهم أثناء وجودهم في “المدرسة المنزلية”، أما الآباء الذين عجزوا عن القيام بهذا الدور التكميلي، لأميتهم أو قلة حيلتهم في المجال التربوي، أو لضعف ذات اليد، حيث لم يستطيعوا شراء الأدوات اللوجستيكية لتحقيق التمدرس المنزلي، فإن أبناءهم عانوا حرمانا مضاعفا.
هذه الزاوية التربوية تنقلنا مباشرة إلى الزاوية المقاولاتية التجارية لتلازمهما، حيث طالب أولياء الأمور باعتبارهم زبناء، المدارسَ الخاصة باعتبارها مقاولات، أن تخفض من تلك الواجبات نظير تخفيض مستوى الخدمة. وهذا مطلب منطقي، خصوصا أنه مؤطَّر بنص القانون، حيث نص الفصل 338 من الباب الثاني من قانون الالتزامات والعقود على ما يأتي: “إذا كان عدم تنفيذ الالتزام راجعا إلى سبب خارج عن إرادة المتعاقدين، وبدون أن يكون المدين في حالة مَطل، برئت ذمة هذا الأخير، ولكن لا يكون له الحق في أن يطالب أداء ما كان مستحقا على الطرف الآخر.
فإذا كان الطرف الآخرقد أدى فعلا التزامه، كان له الحق في استرداد ما أداه، كلاّ أو جزءا بحسب الأحوال، باعتبار أنه غير مستحق”.
والنص صريح في نازلتنا، حيث أن المؤسسة الخصوصية في الشهور الثلاثة من الجائحة:
** لم تنفذ الالتزام جزءا لا كُلّا.
** عدم التنفيذ الكلي خارج عن إرادتها.
** لم تكن في حالة مطل.
بناء على هذه الثلاثية المنصوص عليها، فإنه لا يحق للمدرسة بناء على هذا الفصل من القانون أن تطالب بأداء [كل] المستحقات الواجبة على الطرف الآخر.
هذا النص القانوني كان كفيلا بحل المشكل من بدايته، لكن بعض مقاولات القطاع لم تلتفت إليه، وتمسكت بضرورة استخلاص المستحقات كاملة، وبعد ضغط وإلحاح، تنازلت مجموعة من المقاولات، وقررت إلغاء واجبات النقل، ويكتبون هذا “الحل” في بلاغاتهم، وكأنهم قدموا تنازلا مهما إلى الآباء. مع العلم أنه من باب السماء فوقنا.
ومما يسجل في هذه النازلة، أن مجموعة من المؤسسات الخصوصية رفضت الحوار مطلقا مع أولياء الأمور، وبعضها حضر للحوار مع التمسك الأرثودوكسي بمطلبه دون أن يتنازل ولو بنسبة واحد بالمائة. وهذا التعنت مستغرب جدا، لأن الدولة بكل ما لها من قوة وهالة، نجدها تتحاور مع الفرقاء، وتخضع لهم، وتقدم لهم تنازلات، وهذا ما لم يصدر عن كثير من مؤسسات القطاع الخاص، وكأنهم أقوى من الدولة.
ومما زاد الطين بلة، ما التزمت به مجموعة من مؤسسات القطاع الخاص بمدينة القنيطرة، وأسموه ميثاق [شرف]، وقد نص هذا الميثاق على بنود، من أخطرها:
** عدم تسليم أية وثيقة للتلاميذ الذين لم تُسوّ وضعيتهم المالية مع المؤسسة.
** عدم قبول أي تلميذ انتقل من مؤسسة إلى أخرى، دون الإدلاء بإبراء ذمته المسلَّم له من مؤسسته الأصلية.
هذان البندان يعكسان التطور النوعي الذي وقع في سلوك بعض المؤسسات الخصوصية، حيث انتقلوا من مؤسسات [تربوية] إلى [لوبي] مقاولاتي، يمارس الضغط في زمنٍ نحن في حاجة إلى تفادي أساليب اللوبيات فيه، إضافة إلى أن البندين المذكورين قد يرتقيان إلى درجة المخالفة الجُرمية، لأن العلاقة التجارية المؤطرةللتمدرس في القطاع، تكون منحصرة بين المؤسسة وولي أمر التلميذ، وأيّ خلاف بين الطرفين يجب ألا يؤثر على التلميذ، وألا يُستعمل هذا الأخير وسيلة لابتزاز الولي أو إخضاعه، وأي مشكل بين المقاول والزبون يُحل حبيا بين طرفي النزاع أوقضائيا.
أما استعمال التلميذ وسيلةً للضغط، فهو جريمة يعاقب عليها كل من تورط في توقيع ميثاق [الشرف] المذكور، وكأنهم لم يقرأوا القسم الخاص بالمبادئ الأساسية من الميثاق الوطني، وقد نصّ باللفظ الصريح على: “جعْل مصلحة المتعلمين فوق كل اعتبار”، وهم الآن يرمون بمصلحة التلميذ في أتون صراعات تجارية.
وإذا أصرّ الولي على تنقيل التلميذ إلى مؤسسة أخرى، فإن الأخيرةَ ملزمةٌ باستقباله قانونا، بشرط توفره على الوثائق المنصوص عليها في الأطر المرجعية الرسمية، وأيّ رفض لاستقبال التلميذ دون مسوغ معقول، فإنه يجعل المقاولة المدرسية واقعةً تحت طائلة العقاب قانوناً، لأن الوزارة الوصية منحت رخصة للمؤسسة لتقدم خدمةَ “التربية والتكوين” لجميع التلاميذ، دون الأخذ بعين الاعتبار طبيعةَ المنازعات القانونية بين ولي التلميذ وغيره من المقاولين، ومن مارس هذه البلطجة المنصوص عليها في ميثاق [الشرف]، فإنه يعرض مؤسسته للإغلاق، بناء على أنه لم يلتزم “باعتبار التربية والتكوين مرفقا عموميا” كما هو منصوص عليه في المادة 163 من الميثاق.
أما دفوعات المؤسسات الخصوصية، خصوصا المتعنتة منها، فإنها تتمسك بضرورة أداء المستحقات الماديةلأطرها التربوية والإدارية، وهذا حق أريد به باطل. لأن كثيرا من المقاولات الصغيرة، حاولت الوصول إلى حل مع الزبناء بصيغ متعددة، ولم نجد لها مشاكل في الشارع العام، بخلاف المقاولات المتوسطة أو الكبرى، التي تمسكت بأداء الواجبات الشهرية دون أدنى تخفيض.
ومن نماذج ذلك، أننا نجد مدرسة خاصة، تحتضن أكثر من 150 تلميذا في الأولي، وأكثر من 540 تلميذا في الابتدائي، وأكثر من 270 تلميذا في الإعدادي، بمعدل 30 تلميذا في الحجرة الدراسية كحد أدنى.
وإذا عرفنا أن واجبات التسجيل الأولى في بداية السنة، لا تقل عن 1000 درهم في السلكين الأولين، و1300 درهم في السلك الإعدادي، فإن المؤسسة تحصّل أكثر من 100 مليون سنتيم في بداية التسجيل، مع العلم أن مصاريف التأمين لا تتجاوز 7 ملايين.
وإذا أضفنا إلى هذا المبلغ المحصّل قبل الشروع في الموسم الدراسي، مجموعَ الواجبات الشهرية، فإننا سنطلع على أرقام خيالية، ونعرف آنئذ قيمة التعليم الخصوصي عند بعض المقاولين باعتباره الدجاجة التي تبيض ذهبا؛
وإذا عرفنا أن مؤسسات متعددة في المدن الكبرى تستخلص واجبات التمدرس والواجبات الشهرية بمبالغ أكثر مما ذُكر أضعافا مضاعفة؛
فسيتبين لنا أن الدفع بدعوى ضرورة استخلاص الواجبات الشهرية دون أدنى تخفيض مجرد دفع بالصدر، ومجرد تمويه على الآباء.
أما إذا انتقلنا إلى الحس الوطني لدى هذه المقاولات، فإننا نسجل أن أغلب المؤسسات المتعنتة لم تستحضر البعد الوطني في الجائحة، ولم نر لها أي إسهام في صندوق التضامن الخاص بالجائحة، ولو أدوا جزءا من أرباحهم إلى الصندوق، لذكروه في مرافعاتهم أمام الآباء، كما ذكروا شراءهم لمسطحة كذا، ولتطبيق كذا. وهي مصاريف كان بإمكانهم الاستعاضة عنها بغيرها مما هو أجدى منها.
وختاما، أسجل أن أغلب المتعنتين يغيب عندهم الحس التجاري بالمرة، ولنا أن نسجل الآتي:
بائع الخضر في السوق، يحفز الزبون على شراء السلعة، ويقدم له عرضا مغريا، فيخفض له الثمن إن اشترى منه ثلاثة كيلو أو اثنين، بخلاف لو اشترى كيلو واحد. أما المقاولات الكبرى التي تقدم موادا استهلاكية، فإنها كثيرا ما تقدم عروضا لزبنائها.
هذا “العقل التجاري التحفيزي” منعدم عند أغلب مقاولات التعليم الخاص، فلو قدموا عرضا تجاريا، كمن دفع الأقساط الشهرية دفعة واحدة يُخفّض له بنسبة 10٪ مثلا، يعني إلغاء واجبات شهر واحد، أو يعفى من واجبات التسجيل. هذا العرض قد يفيد مجموعة من المقاولات في تحقيق سيولة معينة لأداء مجموعة من الالتزامات.
الآن، ومع الجائحة، لو استحضروا العقل التجاري أولا، ولو استحضروا الإكراهات الخاصة التي تعرفها الإدارة الترابية وذلك بتفادي إثقال كاهلها باحتجاجات في الشارع العام هي في غنى عنها ثانيا، لقدّموا عروضا متعددة للآباء، منها إلغاء واجبات شهر واحد على الأقل، ولاعتبروا ذلك عرضا تحفيزيا عرضوه عليهم في بداية السنة في الظروف العادية. ولكن التصلب في الرأي، والشره في الربح، يحُولان دون الوصول إلى حلول توافقية، ويعمقان الأزمة في المجتمع.
معهد “بروميثيوس” يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها
دعا معهد بروميثيوس للديمقراطية وحقوق الإنسان المندوبية السامية للتخطيط إلى تحديث البيانات …