في ما يلي العرض الكامل لرئيس الحكومة سعد الدين العثماني خلال الجلسة المشتركة لمجلسي البرلمان التي انعقدت اليوم الاثنين، حول موضوع: “تطورات تدبير الحجر الصحي ما بعد 20 ماي”.
“بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السيد رئيس مجلس النواب المحترم،
السيد رئيس مجلس المستشارين المحترم،
السيدات والسادة الوزراء المحترمين،
السيدات والسادة النواب والمستشارين المحترمين،
يطيب لي في البداية أن أعبر لكم عن سعادتي بلقائي بكم في هذا الاجتماع المشترك للبرلمان، الذي ينعقد في إطار الفصل 68 من الدستور، لتقديم بيانات تتعلق ب“تطورات تدبير الحجر الصحي ما بعد 20 ماي”. وهو اللقاء الذي يأتي ونحن نعيش النفحات المباركة للعشر الأواخر من شهر رمضان الفضيل، نسأل الله عز وجل أن يجعلها أيام خير وبركات للجميع، وأن يرفع عنا هذا الوباء ويحفظ بلادنا من كل سوء.
ولا يسعني إلا أن أشكر تجاوب مجلسيكم الموقرين لعقد هذا الاجتماع المشترك، الذي يشكل فرصة أخرى للتواصل مع المؤسسة التشريعية الموقرة، ومن خلالها مع الرأي العام الوطني بخصوص هذه القضية ذات الطابع الوطني والهام، ومناسبة لتمتين وتقوية الإجماع الوطني لكافة القوى الحية للأمة في مواجهة هذه الجائحة، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله.
وقد حرصت شخصيا على تفعيل هذه الآلية الدستورية لتقديم بيانات أمام البرلمان بغرفتيه، وهذا يدل على مسألتين أساسيتين، تتجلى الأولى في الأهمية البالغة لموضوع هذه الجلسة بالنسبة للوطن ولانتظارات المواطنات والمواطنين، فيما تتجلى الثانية في الاحترام والتقدير الذي نكنه للمؤسسة التشريعية الموقرة.
وسيكون هذا اللقاء محطة للإعلان عن رؤية الحكومة بخصوص تدبير الحجر الصحي ما بعد 20 ماي، وهي خلاصة عمل جماعي للحكومة بكل قطاعاتها، انطلق منذ بضعة أسابيع، ويساهم فيه السيدات والسادة الوزراء، ومسؤولو وأطر القطاعات الحكومية، الذين أتوجه إليهم جميعا بالشكر والتنويه.
توطئة
في البداية لا بد أن نجدد اعتزازنا بما حققته بلادنا، تحت القيادة المتبصرة لجلالة الملك حفظه الله، وتوجيهاته الحكيمة، وكذا بفضل التلاحم القوي للمواطنات والمواطنين، من نتائج مهمة في مواجهة جائحة كورونا، على العديد من الأصعدة. وقد تميزت قيادة جلالة الملك حفظه الله بمبادرات وقرارات شجاعة تجعل صحة المواطن وسلامة الوطن في الأولوية، بمنهجية استباقية واستشرافية.
وقد مكنت الإجراءات الاحترازية والاستباقية التي اتخذتها بلادنا منذ الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية، بما فيها تدابير الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، من تجنب الأسوأ، واحتواء الوباء، والحدّ من انتشاره، وما زالت بلادنا في المرحلة الثانية من الوباء، في الوقت الذي وصلت فيه دول أخرى المرحلة الثالثة من انتشاره، كما أن نسبة الفتك ونسبة التعافي عرفا بحمد الله تطورا إيجابيا ملموسا، وهو ما يجدد فينا الأمل بأن بلادنا ستنتصر في معركتها ضد هذا الوباء وتداعياته السلبية.
ولا يسعني إلا أن أوجه التحية مجددا لكافة المهنيين في جميع القطاعات والتخصصات، اعتبارا للمجهودات الكبيرة التي يبذلونها، كل في مجاله وفي إطار مسؤولياته، لا سيما أولئك الذين يوجدون في الصفوف الأمامية للمواجهة.
كما أوجه تحية تقدير وتنويه لمهنيي الصحة ولكل مكونات القوات المسلحة الملكية والدرك الملكي والقوات المساعدة والأمن الوطني والوقاية المدنية والإدارة الترابية، على تجندهم الدائم، تحت القيادة السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، للدفاع عن حوزة الوطن وصيانة أمنه واستقراره.
وينبغي التنويه بالمواطنات والمواطنين الذين أبانوا عن معدنهم الأصيل في التضامن والتعاون والنبوغ، وكذا عن مستوى عال من الوعي والانخراط والصبر، إزاء هذه المحنة وتداعياتها. وإذا كان دور المواطنين أساسيا في إنجاح المرحلة السابقة، فإن دورهم في المرحلة المقبلة سيكون حاسما، فلمصلحة المواطنين نعمل، وبدعمهم ننجح.
لقد بذلنا جميعا، دولة ومجتمعا، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك حفظه الله ونصره، مجهودات جبارة في المرحلتين الأولى والثانية من الحجر الصحي، غير أنه لا زلنا مطالبين ببذل المزيد من الجهود في مواجهة الوباء، ونحتاج للنفس الطويل في معركة مع عدو لم تستطع الإنسانية بعد الإحاطة بشكل دقيق بخصائصه وكيفيات تطوره وانتشاره والتعافي منه.
كما أود التأكيد على أن الحكومة تتعامل مع الوضع الاستثنائي الناجم عن جائحة كورونا، ومنذ البداية، عبر مقاربة شمولية والتقائية، بعيدا عن منطق التدبير القطاعي، إذ أن الإجراءات التي تم اتخاذها تكون موضوع قرارات حكومية، تأخذ بعين الاعتبار آثار أي إجراء على المستويات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، وهي نفس المقاربة التي ستؤطر عمل الحكومة للفترة المقبلة.
وقد اعتمدت بلادنا مقاربة تروم التعبئة وتوحيد الصف الوطني والانخراط الجماعي في مواجهة هذه الجائحة، بتظافر جهود المتدخلين، وتكامل أدوار المؤسسات.
تذكير ببعض التدابير المتخذة في المرحلة السابقة
قبل عرض نماذج من أهم الإجراءات والتدابير المتخذة، اسمحوا لي أن أقدم لكم منهجية تدبير الأزمة خلال هذه الفترة الاستثنائية.
-
منهجية تدبير الأزمة
لقد تابعت الحكومة الوضع الوبائي عبر العالم، وكانت مستعدة لكل الاحتمالات ومعبأة، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، لاتخاذ كل ما يلزم من قرارات وإجراءات للتصدي لوباء كورونا المستجد، وذلك منذ بدء انتشاره في العالم.
وشكلت التوجيهات السامية لجلالة الملك، منطلقا للسياسة الحكومية في تعاطيها مع الأزمة خلال كافة أطوارها، ومحفزا للحرص على التكامل والتنسيق مع مختلف المتدخلين، واتخاذ تدابير وقرارات جريئة، تجسدت في دعم المتضررين من هذه الجائحة، سواء تعلق الأمر بالأجراء، أو العاملين في القطاع غير المهيكل، أو أصحاب المهن والحرف الحرة، أو المقاولات، خصوصا منها الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة.
وقد اشتغلت بلادنا منذ بداية هذه الأزمة وفق منهجية مضبوطة، ومتعددة الأبعاد، تقوم على ثلاث ركائز أساسية، ويتعلق الأمر بنظام الحكامة، والاستباقية، والتواصل بشفافية.
-
نظام الحكامة
كما سبق لي أن ذكرت ذلك، فقد اشتغلت الحكومة وفق نظام متكامل للحكامة، حيث أنه إلى جانب مجلس الحكومة، الذي خصص أكبر جزء في أعماله ولقاءاته خلال هذه الفترة لمواجهة هذا الوباء وتداعياته، فقد تم تشكيل هيئات ولجن متخصصة تتولى بدورها تتبع جوانب مختلفة من هذه الجائحة وتداعياتها، نذكر منها:
- لجنة قيادة تتبع الوضعية الوبائية المكونة على الخصوص من وزارتي الصحة والداخلية إلى جانب الدرك الملكي ومصالح الطب العسكري والوقاية المدنية؛
- اللجنة العلمية والتقنية الوطنية لدى وزارة الصحة المكلفة بتتبع الجوانب الطبية والعلمية المتعلقة بهذا الوباء وتوفير السند الطبي والعلمي المتخصص لقرارات الحكومة، ومواكبة التطورات المتسارعة التي تعرفها الحالة الوبائية؛
- لجنة اليقظة الاقتصادية، التي تضم عددا من القطاعات الحكومية، إلى جانب الفاعلين الاقتصاديين وممثلي القطاع البنكي والمالي، والتي تكلفت بدراسة تداعيات الجائحة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، واقتراح حلول بشأنها.
-
الاستباقية
لقد كان للتدبير الجيد لزمن الأزمة الأثر الإيجابي في التحكم في الحالة الوبائية، حيث سارعت بلادنا لاتخاذ عدد من الإجراءات الاستباقية والاحترازية، مكنت من عدم تجاوز المرحلة الثانية في إطار المخطط الوطني لمكافحة الوباء، الذي اعتُمد منذ البداية انسجاما مع توصيات منظمة الصحة العالمية، إذ لم تعرف بلادنا انتشارا واسعا للوباء أو غير متحكم فيه كما وقع في بعض الدول الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التدبير الناجع للزمن، والمقاربة الاستباقية، مكنا بلادنا من تدبير جيد لقدرات منظومتنا الصحية على عدة مستويات.
-
التواصل ونهج خيار الشفافية
لقد التزمت الحكومة نهج الشفافية والصراحة تجاه المواطنات والمواطنين بخصوص تطور الحالة الوبائية ببلادنا، وكذا بشأن تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، مستحضرة في ذلك مسؤوليتها تجاه المواطنين، والتوجيهات الملكية السامية بهذا الخصوص، وكذا التزامات بلادنا ومصداقيتها وإشعاعها على المستوى الدولي.
وتحرص الحكومة على التواصل المستمر حول الوضعية الوطنية من خلال بلاغات صحفية منتظمة، وحوارات عبر مختلف وسائل الإعلام. كما تم إحداث بوابات رسمية لتميكن المواطنين من تتبع الحالة الوبائية والإجراءات المتخذة، مع تنظيم إحاطة إعلامية يومية حول الوضعية الوبائية لفائدة الصحافيين والإعلام الوطني.
وقد انطلقت عملية التواصل هاته، منذ أكثر من شهرين ونصف، قبل الإعلان عن أول إصابة ببلادنا، ولا زالت مستمرة حتى اليوم من خلال جلستنا هاته.
-
التدابير المتخذة لمواجهة التداعيات السلبية
لقد عملت الحكومة على تنفيذ عدد من التدابير والإجراءات، تعد بالمئات، إما لمواكبة فرض الحجر الصحي، أو للتخفيف من آثاره الاجتماعية وتداعياته الاقتصادية، تمثلت، على الخصوص، في الرفع من قدرات المنظومة الصحية، وتوفير مواد التطهير والتعقيم والكمامات وبعض المستلزمات الطبية، وضمان تموين الأسواق بالحاجيات الأساسية لعيش المواطنين، واستمرارية العملية التعليمية عن بعد، واستدامة خدمات المرافق العمومية الأساسية، ودعم الأجراء الذين توقفوا مؤقتا عن العمل بسبب الجائحة، وضمان حد أدنى للدخل لفائدة الأسر العاملة في القطاع غير المهيكل التي تضررت بفعل تباطؤ النشاط الاقتصادي، والاهتمام بوضعية الفئات الهشة، فضلا عن دعم ومواكبة المقاولات التي توجد في وضعية صعبة بفعل تداعيات الجائحة.
وإذ تعتزم الحكومة مواصلة هذه المجهودات لتخفيف وطأة الأزمة وتداعياتها على المواطنين والاقتصاد الوطني على حد سواء، فإنها تتطلع بأمل وتفاؤل إلى إعادة تحريك عجلة الاقتصاد باعتباره المدخل الأساس لإنتاج الثروة وإحداث فرص الشغل والأنشطة المدرة للدخل.
وبالموازاة مع ذلك، فإن الحكومة تؤكد على أهمية الإسراع بتنزيل الورش المتعلق بتطوير آليات الدعم الاجتماعي وترشيده وتحسين حكامته، من خلال اعتماد مشروع القانون رقم 72.18 يتعلق بمنظومة استهداف المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي بإحداث السجل الاجتماعي الموحد والوكالة الوطنية للسجلات، والذي سبق إحالته على مؤسستكم التشريعية الموقرة.
أولا-تدبير الحجر الصحي بعد 20 مايو 2020
قبل الحديث عن تدبير الحجر الصحي بعد 20 مايو، اسمحوا لي أن أُذكر بأن الحالة الوبائية ببلادنا إلى حدود صباح يومه الإثنين 18 مايو 2020 على الساعة العاشرة صباحا تشير إلى تسجيل 6930 إصابة مؤكدة، واستبعاد 87665 حالة بعدما بينت التحاليل المخبرية خلوها من الفيروس، في حين بلغ العدد الإجمالي للوفيات 192. وبهذه المناسبة نجدد الترحم عليهم ونسأل الله لذويهم الصبر والسلوان، فيما تماثل للشفاء 3732 من المصابين، وهو ما نحمد الله تعالى عليه، كما نسأل الله الشفاء العاجل لباقي المصابين. وتجدر الإشارة إلى أن عدد الحالات الحرجة بلغت مؤخرا حوالي 50 حالة، 19 حالة منها فقط تحت التنفس الاصطناعي.
من الطبيعي أن يتساءل المواطنات والمواطنون، مع اقتراب نهاية المرحلة الثانية من الحجر الصحي بتاريخ 20 مايو، وعن الكيفية التي سنتعامل بها مع المرحلة الجديدة؟
لقد أكدت في مناسبة سابقة أن عملية الخروج من الحجر الصحي أصعب من الدخول فيه، لما فيها من تعقيدات واعتبارات متداخلة؛ صحية وطبية، واقتصادية واجتماعية، ومجتمعية (نفسية وسلوكية)، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار عددا من المعايير.
-
مكتسبات الحجر الصحي
قبل الإجابة على سؤال “كيف سنتعامل مع المرحلة المقبلة؟”، اسمحوا لي أن أُذكر بأن تدبير المرحلة السابقة وما واكبه من إجراءات وقرارات، مكنتنا بحمد الله وفضله، وتعاون جميع المؤسسات والهيئات المعنية، والتفاعل الإيجابي للمغاربة معها، من تحقيق مكاسب كبيرة، صحيا واقتصاديا واجتماعيا ومجتمعيا وإداريا، نذكر منها:
- التحكم في وتيرة انتشار الوباء، وتفادي الانتقال إلى المرحلة الثالثة؛
- الحيلولة دون استنزاف القدرات الاستشفائية ببلادنا؛
- تقوية المنظومة الصحية الوطنية، وتمكينها من رفع كفاءتها، ومن توسيع قدرتها الاستيعابية من حيث عدد الأسرة الخاصة بالحالات الحرجة، وتوفير آليات طبية جديدة؛
- تفعيل وتقوية منظومة الرصد الوبائي؛
- تحقيق الاكتفاء الذاتي من الكمامات ومواد التعقيم والمواد المطهرة؛
- تصنيع بعض المستلزمات الطبية محليا بواسطة طاقات وقدرات وابتكارات مغربية خالصة؛
- تقوية روح التضامن والتلاحم بين المواطنات والمواطنين، بما مكن من تعبئة موارد مقدرة للصندوق الخاص بتدبير آثار جائحة كورونا، الذي أحدث بتعليمات سامية لجلالة الملك حفظه الله.
هذه المكاسب والإنجازات، وغيرها كثير، لم تتحقق بدون عناء ومشقة وتضحيات من الجميع، وتؤكد صوابية التدابير الاحترازية والاستباقية التي اتخذتها بلادنا، وفي مقدمتها الحجر الصحي.
الآن، وبعد مرحلتين من الحجر الصحي، ندخل امتحانا جماعيا جديدا، يتعلق بكيفية تدبير المرحلة المقبلة، في ظل معادلة صعبة، تقتضي التوفيق بين ضرورة مواصلة التصدي لانتشار الفيروس لتفادي أي انتكاسة محتملة -لا قدر الله- من شأنها أن تهدم ما بنيناه وحققناه من نتائج إيجابية، وبين ضرورة الحد من الانعكاسات السلبية والخسائر في المجالين الاجتماعي والاقتصادي، المترتبة عن تداعيات هذه الجائحة.
-
إكراهات الحجر الصحي
في مقابل هذه المكتسبات، فإننا واعون بأن للحجر الصحي تداعيات سلبية ومتعددة، تطال عددا من مناحي الحياة؛ الاقتصادية، والمالية، والاجتماعية، والصحية، والنفسية. والحكومة كانت ولا تزال تدرك جيدا هذه الانعكاسات، وعملت، وستعمل جاهدة على الحد منها والتخفيف من حدتها ومن آثارها السلبية، من خلال تدابير وإجراءات تتعلق بحياة المواطن والمقاولة.
كما أننا على علم بأن تنزيل بعض هذه التدابير والإجراءات، الموجهة أساسا إلى الفئات الهشة والأشخاص والمقاولات الأكثر تضررا، يصطدم أحيانا بسوء فهم، أو بتعثر عند التطبيق، ولذلك تنصت الحكومة للشكايات والملاحظات التي تتوصل بها، وتعالجها بالعناية المطلوبة.
وإذا كان الحجر الصحي قد ساهم بشكل كبير في التحكم النسبي في الوضعية الوبائية، وفي تحقيق المكاسب التي أشرت إليها سابقا، فإن تداعياته الاقتصادية والاجتماعية لها كلفة مرتفعة، كما أن طول مدة الحجر الصحي يتسبب في آثار نفسية ومجتمعية، وفي تداعيات صحية سلبية.
وبناء على ما سبق، فإن تدبير المرحلة المقبلة يعد تحديا حقيقيا، يتطلب منا جميعا بذل المزيد من الجهود والابتكار، وبتعبئة لا تقل عن تلك التي واكبت الحجر الصحي في مرحلتيه الأولى والثانية. وإن القرارات التي نحن مقبلون عليها، تستوجب منا تحمل المسؤولية، والشجاعة، لتفادي المخاطر المحتملة.
-
المؤشرات الوبائية الحالية
تشير تقارير وزارة الصحة والخبراء إلى المحددات المرتبطة بالحالة الوبائية كالتالي:
- معدل التكاثر (Rt) يجب أن يكون أقل من 1 وطنيا، مع استقراره في هذا المستوى لمدة أسبوعين، وللحصول على هامش أمان يستحسن أن تكون هذه النسبة أقل من 0,7. حاليا يبلغ هذا المعدل حوالي 0.9 وطنيا، في حين كان في بداية الحجر الصحي يتجاوز 2.5؛
- نسبة الفتك أقل من 3%، وتبلغ حاليا حوالي 2.8% وطنيا، في حين كانت في بداية الحجر الصحي تتجاوز 7%؛
- نسبة الحالات الخطرة والحرجة لا تتجاوز 10%، وتبلغ حاليا 1% وطنيا، في حين كانت في بداية الحجر الصحي تتجاوز 15%؛
- نسبة استغلال وحدات الإنعاش لا تتجاوز 30%، وتبلغ حاليا حوالي 4% وطنيا.
وتبرز المؤشرات المتعلقة بالمعايير سالفة الذكر، أنه في الوقت الذي حققنا تحسنا في عدد منها، فإن المؤشر المتعلق بمعدل التكاثر ما زال لم يستجب بعد للمعيار المحدد بخصوصه.
كما أن القرار المتعلق بتدبير الحجر الصحي، يجب أن لا يربك وضعية المنظومة الصحية، أو يؤدي إلى انهيار -لا قدر الله- الطاقة الاستيعابية للمستشفيات للتكفل بالمرضى وعلاجهم، أو على إجراء الاختبارات، أو المراقبة الفعالة لجميع الحالات المؤكدة ومخالطيهم.
لقد مكنت هذه الإجراءات الاحترازية من تقليص سرعة انتشار الفيروس ب 80 بالمئة، مما كان حاجزا أمام توسع الإصابة في المجتمع وجنب بلدنا بالتالي الانتقال إلى المرحلة الثالثة للعدوى.
وحسب تقديرات الخبراء، فإن الإجراءات التي اتخذتها بلادنا قد تكون جنبتنا:
- ما بين 300 ألف و 500 ألف إصابة جديدة؛
- ما بين 4650 و 7750 من الإصابات التي تستلزم العناية المركزة؛
ما بين 9000 و 15 ألف وفاة.
إن تجنب هذه الخسائر البشرية شيء لا يقدر بثمن، فهي تمثل حوالي 0600 إصابة و200 وفاة يوميا. وفداحة هذه الخسارة لا يحس بها بالشكل الكامل، إلا الذين فقدوا أحبابهم وذويهم.
لكن المقلق أيضا هو كثرة بروز بؤر صناعية أو تجارية أو عائلية أو غيرها. فقد سجل منذ بداية الوباء ببلادنا 467 بؤرة في عشر جهات، أحصي بها أكثر من 3800 إصابة، أي حوالي 56 % من مجموع الإصابات المسجلة. نصف هذه الإصابات في بؤر عائلية، إما في أفراح أو جنائز، وخمسها تقريبا (20,7 %) في بؤر صناعية. ولا تزال هناك إلى اليوم 29 بؤرة لم تتجاوز بعد مدة المراقبة. وقد سجلت أمس فقط بمدينة الدار البيضاء لوحدها 99 حالة في ثلاث بؤر.
مما يعني جدية الموقف وصعوبته، وخصوصا مع اقتراب العيد، وهو ما يحمل لا قدر الله مخاطر بروز بؤر عائلية بالنسبة للذين لم يلتزموا بالحجر الصحي وبالاحتياطات والإجراءات الوقائية.
-
الخلاصة
السيد رئيس مجلس النواب؛
السيد رئيس مجلس المستشارين؛
السيدات والسادة الوزراء،
السيدات والسادة النواب والمستشارين؛
إنني أشعر بما يشعر به المواطنات والمواطنون، وأشاطرهم قلقهم، وأتفهم انتظاراتهم، وأعلم أن الكثير منهم قد نال منهم التعب من جراء الحجر الصحي طيلة قرابة شهرين، خصوصا وأننا نعيش هذه الأيام والليالي المباركة وعلى مشارف عيد الفطر، الذي يكون عادة مناسبة للتزاور وصلة الرحم.
وفي نفس الوقت، فإن الوضعية الوبائية ببلادنا متحكم فيها ولكن غير مطمئنة بالكامل، من حيث معدل التكاثر واستمرار بروز بؤر وبائية عائلية وصناعية بين الفينة والأخرى في عدد من المناطق، وكذا تسجيل بعض أوجه التراخي، مع الأسف، في احترام مقتضيات الحجر الصحي، مما قد يتسبب في انتكاسة لا يمكن تحملها، كما لا نقبل أن نجازف بالمكتسبات التي راكمناها بتضحيات مقدرة من الجميع، طيلة المرحلة السابقة للحجر الصحي.
وبين الانتظارات سالفة الذكر، والإكراهات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، فإن الترجيح لا شك أنه صعب لكنه ضروري، وليس هنالك حل أمثل. وبما أن بلادنا اختارت منذ البداية إعطاء الأولوية لحفظ صحة المواطن، وجعلها فوق كل اعتبار، فقد تقرر تمديد حالة الطوارئ الصحية، وتمديد الحجر الصحي لمدة ثلاثة أسابيع، مع العلم أن الحكومة أعدت رؤية عامة لتدبير الحجر الصحي خلال المرحلة المقبلة، في أبعاده المركزية والقطاعية.
كما يجدر التنويه إلى أن الحكومة ستستمر خلال هذه الفترة في تقديم الدعم للأسر والمقاولات المتضررة من تداعيات الحجر الصحي وفق البرامج التي أقرتها الحكومة لمواجهة تداعيات هذه الجائحة.
ثانيا-رؤية الحكومة لتخفيف الحجر الصحي
لعل السؤال الذي يطرحه العديد من المواطنين هو: هل لدى الحكومة استراتيجية للتخفيف من الحجر الصحي، والجواب هو نعم، هناك استراتيجية واضحة، وفق مبادئ محددة، وشروط واضحة، وتدابير عامة وقطاعية مضبوطة.
إن الاستعدادات انطلقت، وبمجرد تحقق الشروط الوبائية واستكمال توفير الشروط اللوجيستية، سيمكن لبلادنا أن تبدأ في تنزيل إجراءات تخفيف الحجر الصحي. وهذا يحتاج إلى توضيح.
-
شروط التخفيف
يشير الخبراء إلى أن أي تخفيف للحجر الصحي يستلزم، إضافة إلى الشروط الوبائية، توفر شروط لوجيستية وتدبيرية، من أبرزها:
-
قدرة المنظومة الصحية
إن الانتقال إلى مرحلة تخفيف الحجر الصحي، يشترط توفر المنظومة الصحية ببلادنا على طاقة استيعابية مؤهلة، ليس فقط لاستقبال عدد الإصابات ىالفيروس التي تستقبلها في ظروف الحجر الصحي، بل يجب أن تتحمل طاقتها الاستيعابية ارتفاع حالات الإصابة المحتملة والناتجة عن إجراءات تخفيف الحجر الصحي، بالإضافة إلى الاستمرار في توفير العلاجات الضرورية للحالات المرضية الأخرى.
ولقد أظهرت المندوبية السامية للتخطيط في تقرير أخير لها، يتعلق بسيناريوهات رفع الحجر الصحي وانعكاساتها، بأن المنظومة الصحية الوطنية قد تكون عرضة للاستنزاف في بعض هذه السيناريوهات، ولا سيما في غياب الإجراءات الاحترازية والاحتياطات الضرورية.
-
القدرة على اختبار الأشخاص
يجب أن تتوفر بلادنا على القدرة على اختبار الذين يعانون من أعراض الكوفيد-19: يجب أن يكون اكتشاف الحالات الجديدة سريعا وتتبع مخالطيهم فعالا. ومن هنا كان الاهتمام كثيرا بتوسيع قدرة نظامنا الصحي على إجراء الاختبارات الخاصة ب كوفيد 19.
في بداية تدبير الوباء، كان عدد الاختبارات ببلادنا لا يتجاوز الألف يوميا، وبمركزين للاختبارات فقط، والآن انطلق إمداد مراكز المستشفيات الجامعية على مستوى التراب الوطني بالتجهيزات الضرورية لنصل إلى 13 مختبرا تابعا للصحة العمومية تستعمل تقنية PCR ، وقد قامت أول أمس بإجراء 6660 اختبارا.
وإذا أضفنا إليها ما تقوم به خمسة مختبرات في مستشفيات للقوات المسلحة الملكية وثلاثة مختبرات في مؤسسات شريكة أو خاصة، فإننا ننجز حاليا أزيد من 8000 اختبار يوميا. وسوف تفتح ثلاث مختبرات أخرى في الأسبوع المقبل في مدن الرشيدية والداخلة والناضور، إضافة إلى مختبر متنقل.
والعمل الآن على قدم وساق لنصل في القريب إلى عشرة آلاف اختبار يوميا، قبل أن نرفع هذا العدد بعد ذلك.
وهنا أريد أن أتوقف لأحذر من الأحكام التي تطلق أحيانا وهي غير مبنية على المعلومات الصحيحة، والتي تكون أساس التشويش ونشر الإشاعات والتشكيك في المؤسسات الصحية. نشر البعض منذ أسابيع تشكيكا في الفحوص المخبرية التي تقوم بها الجهات المختصة بسبب بروز نتائج إيجابية ثم سلبية لدى بعض المفحوصين. وسبب ذلك في الارتباك والذعر لدى عديد من المواطنين. وموطن الخلل هو أن الأمور المتخصصة لا يبينها إلا أصحابها، وإذا تقحمها من لا علم لهم بها كان لذلك تأثيرات سلبية واسعة المدى. ومن واجب وسائل الإعلام اللجوء إلى رأي المتخصصين وليس إلقاء الكلام على عواهنه. وعلى بعض المتخصصين أيضا أن يكونوا متواضعين لأن فوق كل ذي علم عليم. والإنسان اليوم يقف أمام ظاهرة يجهل عنها الكثير، وعلمه يتطور تدريجيا ويتعلم كل يوم الجديد من خصائص هذا الفيروس وطريقة إمراضه وطرق تشخيصه وعلاجه والوقاية منه.
-
القدرة على المراقبة الفعالة وتتبع جميع الحالات
إن التحكم في انتشار الوباء بعد تخفيف الحجر، يشترط القدرة على المراقبة الفعالة وتتبع جميع الحالات المؤكدة ومخالطيهم بطريقة ناجعة وسريعة.
ومن هنا عملت وزارة الصحة ووزارة الداخلية على تطوير تطبيق معلوماتي للإشعار وتتبع الحالات المحتملة التي تعرضت لفيروس كورونا الجديد يحمل اسم “وقايتنا”. ويأتي هذا التطبيق دعما لنظام تتبع المخالطين من قبل وزارة الصحة وللمساعدة بسرعة على تحديد هؤلاء المخالطين لأشخاص تأكدت إصابتهم ب “كوفيد-19” والتكفل بهم قبل ظهور الأعراض عليهم، وبالتالي تفادي المضاعفات والوفيات، وتفادي انتقال الفيروس وتفشيه في المجتمع.
وأشير هنا إلى أن هذا التطبيق مغربي محض، تم تطويره من طرف فريق مغربي وبمشاركة تطوعية لمجموعة من مقاولات وطنية ناشئة. كما أن معالجة المعطيات المضمنة بتطبيق “وقايتنا” تعتبر مطابقة لمقتضيات القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، وتم الترخيص لها من قبل اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي.
-
التوفر على مخزون كاف من المستلزمات الطبية
إن النجاح في مواجهة الارتفاع المحتمل لحالات الإصابة، والذي ينتظر أن يتسبب فيه تخفيف الحجر الصحي، يستلزم التوفر على مخزون كاف من المستلزمات الطبية ومعدات الحماية الشخصية، وخصوصا الكمامات والمطهرات.
وبفضل العمل الكبير الذي قامت به صناعتنا الوطنية، فإن توفير هذا المخزون الضروري سيكون بحول الله متيسرا لمنظومتنا الصحية.
-
مبادئ تخفيف الحجر الصحي
إن أي تخفيف للحجر الصحي يستلزم الارتكاز على المبادئ التالية:
- التدرج: من خلال اعتماد إجراءات تخفيف عبر مراحل، مصحوبة بتدابير مواكبة، حسب تطور الوضعية الوبائية؛
- البعد الترابي: فهناك تفاوت كبير في الوضعية الوبائية بين العمالات والأقاليم، وهو ما يجب أخذه بعين الاعتبار، مع الإشارة إلى الوضعية المقلقة وبائيا لأربع جهات بالخصوص هي: الدار البيضاء سطات ومراكش آسفي وفاس مكناس وطنجة تطوان الحسيمة؛
- المرونة وإمكانية المراجعة: يجب أن تخضع إجراءات أي تخفيف للحجر الصحي أو رفعه للمراقبة المستمرة، وعند بروز بؤر جديدة، أو ارتفاع في عدد الحالات، يمكن وقف تنفيذ بعضها على المستوى الترابي المعني أو البؤرة المعنية، تفاديا لتصاعد انتشار الفيروس والعودة إلى تدابير أكثر صرامة؛
- التمييز الإيجابي: عبر توفير حماية أكبر للفئات الهشة صحيا، من مثل كبار السن الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا وكذا الأشخاص المصابين بأمراض مصاحبة (أمراض القلب والأوعية الدموية، والسكري، والسرطان، ونقص المناعة، وما إلى ذلك)، حيث يتعرضون لخطر فردي كبير للغاية من الإصابة بأشكال حرجة مع ارتفاع خطر الوفاة. ولذلك سيُنصح لهؤلاء الأشخاص باحترام العزلة الطوعية أو الحد من تحركاتهم وتجنب الأماكن ذات الكثافة العالية.
-
تدابير عامة
من جهة أخرى، فإن مرحلة تخفيف الحجر الصحي، لا تعني التنصل من جميع الإجراءات الاحترازية، الشخصية والمهنية، بل سيتعين استصحاب عدد من التدابير ذات الطابع العام، من قبيل:
- الإبقاء على التدابير الوقائية، ولا سيما التباعد الاجتماعي، وإجراءات النظافة الشخصية، والتطهير المنتظم للأدوات والمساحات المستعملة بكثرة، والالتزام بارتداء الكمامات في الفضاء العام، وما إلى ذلك؛
- رهن ممارسة أو استئناف أي نشاط اقتصادي أو تجاري بالتقيد بإجراءات احترازية وصحية مضبوطة، تراعي خصوصية هذا النشاط. ويتولى كل قطاع حكومي إعداد دلائل توضح هذه الإجراءات بالنسبة للأنشطة التجارية والاقتصادية التي تدخل في اختصاصاته بتنسيق مع وزارة الصحة.
-
التدابير القطاعية لتدبير الحجر الصحي
موازاة مع التدابير العامة المذكورة أعلاه، عملت القطاعات الحكومية بطريقة استباقية على بلورة خطط وبرامج قطاعية، لتدبير الحجر الصحي في مراحله المقبلة، بما يقتضيه ذلك، من إجراءات احترازية ووقائية، لضمان سلامة المرتفقين والموظفين على حد سواء.
كما تروم هذه البرامج والتدابير القطاعية التخفيف من وطأة الأزمة الحالية، ودعم إعادة انطلاق الدورة الاقتصادية وتقوية الأنشطة التجارية والخدماتية، بطريقة تدريجية، مع إعادة ترتيب الأولويات القطاعية للفترة المقبلة.
وسيعمل كل قطاع حكومي في مجال اختصاصاته، ومن خلال التنسيق والتكامل مع القطاعات الأخرى المعنية، وبإشراك المهنيين والفاعلين المعنيين، على تنزيل هذه البرامج والمخططات والعمل على إنجاحها.
وتجدر الإشارة إلى أن السادة الوزراء ستكون لهم فرص، أمامكم، وأمام نساء ورجال الإعلام، وأمام الرأي العام، لتقديم تفاصيل هذه الخطط والبرامج.
ثالثا-أولوية إنعاش الاقتصاد الوطني في المرحلة المقبلة
-
مدخل
إن انشغال الحكومة بمواجهة الجائحة وتداعياتها الآنية، لا ينسينا التزاماتنا تجاه المواطنين، المضمنة في برنامجنا الحكومي، والذي لا زلنا نتابع تنفيذها وتفعيلها على أرض الواقع، ولقد انتهينا منذ بضعة أسابيع فقط من استكمال تقييم إنجاز التزاماتنا برسم السنة الثالثة من الولاية الحكومية الحالية.
غير أن هذه الجائحة وتداعياتها، وما واكبها من تحديات، وما أثارته من تساؤلات، وأفرزته من انتظارات، نتطلع معها جميعا إلى غد مشرق، ومغرب أفضل، مما يفرض علينا أخذ هذه التحولات بعين الاعتبار، وترتيب أولوياتنا بالتبع، مع وضوح في الرؤية، ونجاعة في الأداء.
موازاة مع الاستمرار في مواجهة الوباء وتداعياته، فإن هنالك أوراشا يتعين إطلاقها على وجه الاستعجال، من مثل إطلاق خطة لإنعاش الاقتصاد الوطني، لكي نعيد إطلاق عجلة الاقتصاد، ونوفر للمقاولات الوطنية مناخا ملائما لتنمية أنشطتها وإحداث فرص الشغل، كما يجب علينا استرجاع الدينامية التنموية التي انطلقت بداياتها خلال الأشهر الأخيرة من السنة الفارطة.
إضافة إلى هذا الورش المستعجل، فإنه ينبغي لبلادنا أن تستعد لعالم ما بعد الأزمة الصحية كوفيد-19، من خلال زيادة حجم الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية الواعدة، إذ يكاد يحصل إجماع بخصوص الأوراش والمجالات التي يجب أن نضاعف العناية بها في المستقبل، وأن نوليها العناية الكبرى ونمدها بالإمكانيات الضرورية، ويتعلق الأمر أساسا بقطاعات الصحة والتعليم والبحث العلمي والحماية الاجتماعية، بالإضافة إلى ورشين داعمين أساسيين، هما تسريع التحول الرقمي والحكامة الجيدة.
وأريد أن أؤكد أن التفكير في المستقبل لا يعني بالنسبة لنا التوقف وعدم الإبداع في ظل الأزمة. فوعيا بالظرفية التي نعيشها، أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي برنامجا لدعم البحث العلمي متعدد التخصصات في المجالات ذات الصلة بالجائحة خصص له غلاف مالي يبلغ عشرة ملايين درهم. وقد توصل المركز الوطني للبحث ب 400 مشروع بحثي، اختير منها 53 مشروعا تعالج جائحة كورونا من 6 جوانب هي: الطب وعلم الأوبئة والتكنولوجيا ( آليات الوقاية و التنفس)، والانعكاسات الاقتصادية، والانعكاسات الاجتماعية و النفسية، والجوانب السياسية والإدارة في حالة الطوارئ. ويغطي الحقل الطبي والعلمي والتكنولوجي 60 في المئة من تلك البحوث.
وسيتم البت في كيفية تمويل الباقي من 200 مشروع نالت الاستحسان في الانتقاء الأولي. كما سنعمل على التعجيل بإحداث وإرساء المجلس الوطني للبحث العلمي طبقا لأحكام القانون الإطار، وذلك لبلورة إستراتجية وطنية شاملة ومنسقة للبحث العلمي.
ومن تحديات المرحلة أيضا تحقيق تحول رقمي قوي على المستوى الوطني. إذ من شأن إنجاح هذا الورش، تيسير ودعم عدد من المجالات التي برزت الحاجة إليها خلال هذه الفترة الأخيرة، في التعليم والمحاكم والعمل عن بعد، وتنزيل سياسات الدعم، وتطوير آليات الرصد والتتبع…
ويقتضي التحول الرقمي في القطاع العام، الانتقال من الحكومة الإلكترونية، أو من رقمنة مسارات الأعمال وتقديم الخدمات على الورق، إلى إعادة هيكلة «مصممة رقميا» للخدمات والمسارات. كما يتطلب هذا التحول اعتماد مقاربة تتمحور حول المستعملين، تمكن المواطنين والمقاولات من التفاعل والتعاون مع القطاع العام لتحديد حاجاتهم الخاصة والاستجابة لها.
-
خطة إنعاش الاقتصاد الوطني
يصعب التكهن في هذه المرحلة بالتطورات المستقبلية لامتدادات الأزمة، في غياب رؤية واضحة للبعد الزمني الذي تستلزمه هذه الظرفية لكي تستعيد الاقتصاديات العالمية عافيتها، الشيء الذي يجعل من الصعب الجزم بشأن سيناريو ماكرو اقتصادي واضح حول التطورات المستقبلية للمؤشرات الرئيسية لاقتصادنا الوطني، الذي يبقى رهينا بتدبير رفع الحجر الصحي وسرعة استئناف القطاعات الاقتصادية لنشاطها والتي يمكن أن يتم وفق آفاق زمنية مختلفة.
وبالموازاة مع الإجراءات قصيرة المدى، وإدراكا منها بأهمية الإجراءات الاستباقية لما بعد الأزمة، تعمل الحكومة على وضع خطة طموحة لإنعاش الاقتصاد الوطني، سوف تشكل رافعة مهمة من أجل تسريع استئناف النشاط الاقتصادي الوطني وتعزيز قدرته على استشراف معالم ما بعد أزمة كورونا التي تلوح في الأفق.
ويتعين أن تكون المقاربة المعتمدة لبلورة هذه الخطة، شاملة ومتكاملة، ومعتمدة على آليات أفقية تراعي خصوصيات كل قطاع على حدة، وتأخذ بعين الاعتبار العوامل الخارجية، لا سيما المرتبطة بسلاسل القيمة العالمية، والعوامل الداخلية المرتبطة بالعرض والاستهلاك الوطنيين.
وسيكون من بين التحديات الرئيسية، في هذا الصدد، التفكير في الآليات التي سيتم تعبئتها لضمان توفير التمويلات اللازمة للمقاولات وخصوصا المقاولات الصغرى والمتوسطة من أجل استئناف أنشطتها.
كما يستوجب الأمر التفكير في كيفية استخدام الطلبيات العمومية كوسيلة لإنعاش الاقتصاد الوطني، وذلك من خلال مراجعة أساليبها وأولوياتها، من أجل دعم الإنتاج والاستهلاك المحليين.
مع التأكيد على ضرورة مضاعفة الجهود لحل بعض الإشكاليات الهيكلية التي أكدت الأزمة على أهمية واستعجالية معالجتها، كإشكاليات القطاع غير المهيكل والحماية الاجتماعية.
أما على المستوى الدولي، فسيتحتم على بلادنا أن تتكيف مع التشكيل الجديد لسلاسل القيمة العالمية، من خلال جذب استثمارات دولية، على نطاق واسع، والتي هي بصدد البحث عن مراكز إنتاج جديدة، بالقرب من الأسواق الأوروبية والإفريقية.
ونظرا للمتغيرات المرتبطة بالظرفية الاقتصادية الوطنية والدولية نتيجة أزمة كوفيد-19، ولتأثيرها على مختلف الفرضيات التي أطرت إعداد قانون المالية لسنة 2020، سنعد في الأيام المقبلة مشروع قانون مالية تعديلي، سيكون مرتكزا لتفعيل خطة إنعاش الاقتصاد الوطني.
ويستلزم قانون المالية التعديلي، وضوحا في الفرضيات التي سيبنى عليها عالميا ووطنيا، يأخذ بعين الاعتبار توقعات تراجع معدل النمو، إلى جانب آثار الجفاف، وانخفاض الإيرادات الضريبية… ومن المنتظر أن تحدد توجهاته العامة قصد عرضها على المجلس الوزاري، قبل أن يعرض المشروع على المجلس الحكومي، ثم يحال على البرلمان. كما ينتظر أن يكرس هذا المشروع أولويات من قبيل التعليم والبحث العلمي والصحة والتشغيل والحماية الاجتماعية، وأن يركز كذلك على التحول الرقمي بوصفه رافعة للتنمية.
-
آفاق مستقبلية
تجدر الإشارة هنا أن الحكومة عازمة على الاستثمار الجيد لعدد من التجارب والنجاحات التي تحققت خلال المرحلة الفارطة، من مثل دعم الصناعة الوطنية للاستجابة للاحتياجات الذاتية، وتجربة التعليم عن بعد، وتشجيع البحث العلمي وروح الإبتكار، وكذا الحيوية التي أبان عنا المجتمع المدني عامة، والشباب خاصة.
إن الأوراش التي تحدثت عنها خلال هذا العرض، من استراتيجية التخفيف من الحجر الصحي، وخطة إنعاش الاقتصاد الوطني، وإعداد مشروع قانون المالية التعديلي، كلها أوراش ذات أهمية كبرى في المرحلة المقبلة، لذلك أعلن عن مبادرة بدء سلسلة مشاورات مع القوى الوطنية من أحزاب سياسية ومركزيات نقابية وجمعيات مهنية وغيرها، ابتداء من الأسبوع المقبل، وذلك باعتبارها أوراشا وطنية تحتاج إلى انخراط جماعي، وتعبئة رأي الجميع، لإنجاح مواجهة معضلات جائحة كورونا وما بعدها.
خاتمة
ولن أسأم من التأكيد على الحاجة لاستمرار التضامن والتلاحم الوطني الذي ميزنا في هذه المراحل الأخيرة، كما أؤكد بأن هذه المعركة ضد الجائحة تتطلب النفس الطويل.
وللحفاظ على قوة التلاحم والتعاون، فإنه يتعين إسناد وحدة الصف وتقوية الثقة في المؤسسات، والترفع عن الحسابات الضيقة، وتفادي كل ما من شأنه أن يفت في عضد الوطن في هذه الظرفية الصعبة، إسناد وحدة الصف وتقوية الثقة أولا.
من جهة أخرى وبالنظر إلى طبيعة هذا الفيروس، الذي لم تصل بعد الإنسانية إلى كشف أغلب أسراره، مما يدعونا للتكيف مع هذا الوضع، مع إبقاء الترقب والحذر. مما يتعين معه الاستمرار في تطوير قدراتنا للتكيف مع الوضع والالتزام الصارم بقواعد النظافة والتباعد الاجتماعي وباقي الإجراءات الاحترازية الفردية والجماعية، التي تعتبر جدار الصد الأساسي للفيروس في غياب لقاح أو علاج له، ولو أدى ذلك إلى إدخال تغييرات في عدد من عاداتنا الاجتماعية.
صحيح أن للحجر الصحي تكلفة باهظة، ليس فقط على المستوى الاقتصادي ولكن أيضا النفسي والاجتماعي ونحن واعون بذلك، لذلك التزمنا ولا زلنا باتخاذ إجراءات لتخفيف التداعيات الاقتصادية والاجتماعية، لكن هذا لا يبرر حالة التراخي الملاحظ مؤخرا من لدن بعض المواطنين في الالتزام بقواعد الحجر الصحي، لأن أي تراخ من شأنه أن يفوت علينا مع الأسف فرصة الخروج من الحجر الصحي بشكل أسرع.
لئن كان من حقنا أن نفخر ببلادنا وملكنا وشعبنا، لأننا استطعنا خلال هذه الفترة الوجيزة منذ ظهور الوباء أن نطور الكثير من قدراتنا ونحقق عددا من المكاسب في المعركة ضد الوباء بفضل الله واعتمادنا على أنفسنا وعلى أطر مغربية خالصة، فإننا ما زلنا في حاجة لتطوير قدراتنا واستكمال بعض الشروط الضرورية للمراحل المقبلة، من مثل الكشف المبكر والاختبار الموسع، ونحن نعمل على ذلك بأقصى طاقتنا، وحققنا في ذلك تقدما معتبرا.
وهنا لا بد أن أكون واضحا وصريحا مع المواطنات والمواطنين، إن نجاحنا في الخروج من الحجر الصحي في مرحلة تالية بشكل آمن وبدون انتكاسة رهين بقدراتنا الفردية والجماعية على عدة مستويات.
الوباء ليس وراء ظهرنا، لكنه بحمد الله متحكم فيه، والحجر الصحي ليس هدفا في حد ذاته، ولا ندخر جهدا، بكل عزم وإرادة، للقيام بكل ما يلزم لتخفيف المعاناة في أقرب الآجال، وسننتصر إن شاء الله، لكن جميعا، بالمواطنات والمواطنين، ومعهم.
سنخرج من هذه الأزمة، ونتطلع أن يسفر ذلك عن مغرب أفضل، ينعم فيه كافة المواطنات والمواطنين بالأمن والكرامة، وبهذه المناسبة أتوجه بتنويه خاص إلى شابات وشباب المغرب، ففيكم الأمل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”
الهجرة غير الشرعية.. تفكيك 123 شبكة إجرامية خلال سنة 2024
تكللت جهود مصالح الأمن الوطني خلال سنة 2024 بتفكيك 123 شبكة إجرامية تنشط في تنظيم الهجرة غ…