جمال الموحدي*
ارتبطت الأحجية أو اللغز ( puzzle) تاريخيا بالرغبة في فك خيوط مسألة تتسم بتعقيد معيّن لأنها تنبني على سلسلة من الحسابات المنطقية والخطوات المضبوطة للوصول للإجابة عليها، عبر تشكيل مجسم معين أو اكتمال صورة محددة.
وبالنظر لما تتسم به الساحة الدولية من ديناميات متسارعة ومصالح متداخلة وقضايا معقدة وتحالفات متغيرة، أصبح المتتبع معها وكأنه أمام أحجية، لكنها ليست بلعبة، بل بواقع دولي يرهن مصير الدول والبشرية جمعاء، يحاول بما يتمتع به من ملكات إيجاد تفسيرات مقنعة لها.
والدبلوماسية المغربية في خضم هذا الواقع ترسخت في ذهن العديد من المتتبعين تصورات وأحكام وصورقد لا تخرج في وسط هذه التجاذبات المعولمة عن هذا المسار. لكن ذلك لا يمنع من الإقرار بأن هذه الأخيرة استطاعت أن تبني لنفسها تدريجيا شخصيتها الخاصة الموسومة بعدد من الخصائص والسمات، ويصبح لها كيانها المتفرد المبني على توجهات واستراتيجيات موجهة لعملها تبلورت في عدد من المواقف والقضايا.
ويمكن تلمس ذلك والاستدلال عليه، كتمرين فكري، بالاقتصار فقط على مجريات الأحداث خلال السنة التي ودعناها وكيفية تعاطي الدبلوماسية المغربية معها، وترسيخ طريقة تعاطيها مع أبعادها.
أولا: مفاتيح لفهم أوضح للدبلوماسية المغربية
يستند عمل الدبلوماسية المغربية، كما هو معلوم على توجيهات وتعليمات الملك، أي رئيس الدولة. فتلك التعليمات هي التي تؤطر توجهاتها وتحرك نشاطها بهدف ترقية أدائها، وهي قوة الدفع الأساسية التي تستلهم منها مبادئها، والتي يمكن إجمالها في مبدأين: هما الوضوح والطموح.الوضوح، ويعني التشخيص الدقيق والعملي للواقع من أجل تصريف المبادرات والمواقف، وترسيخ الأسس التي تبنى عليها مع اختيار المناسب، والطموح الدائم لتحقيق الأهداف المبتغاة والرغبة المستمرة للانتصاب كفاعل مؤثر ويحظى بالمصداقية لا محيد عنه في عدد من القضايا الإقليمية والدولية.
ولذلك، يمكن القول بأن الدبلوماسية المغربية اصطبغت بعدد من السمات الأساسية التي أضحت جزء من كيانها، منها الالتزام والمسؤولية، المرونة في التعاطي مع محيطها مع الإصرار على الاستقلالية في اتخاذ قراراتها وعدم التخلي عن مبادئها ومصالحها،ثم القدرة على التكيف مع الصعاب من خلال نهج ديبلوماسية استباقية وفاعلة ومتضامنة، تبادر وتتفاعل بإيجابية وحزم مع الأحداث.
ويمكن العمل على إسقاط مفاتيح الفهم تلك لتلمس معالم الفعل الدبلوماسي المغربي، عبر عدد من الأحداث والملفات المعطيات بمثابة مؤشراتمسائلة مدىكثافة الفعل الدبلوماسي المغربي وإيجابيته سنة 2018.
والبداية بقضية الصحراء التي تأتي على رأس أولويات هذه الدبلوماسية.
ثانيا: تحول مفصلي في مسار قضية الصحراء
رغم المخاض العسير الذي عرفه الملف وما ارتبط به من مناوشات على طول المناطق العازلة،إلا أن الدبلوماسية المغربية استطاعت للإنصاف، أن تحقق اختراقا تاريخيا في مسار قضية الصحراء، من خلال: تجاوب مجلس المن الدولي مع رؤية المغرب للنزاع وتحصينه للمكتسبات التي راكمها سلفا.
في هذا الإطار، جاءت العناصر التي تضمنها قرار مجلس الأمن رقم 2440، متناغما مع رؤية المغرب من حيث:
1- على المستوى السياسي: اعتبار الجزائر طرفاأساسيا في النزاع بنفس الصفة والدرجة كما هو الأمر بالنسبة للمغرب؛
2- الوضع القانوني والتاريخي للمنطقة الواقعة شرق وجنوب منظومة الدفاع المغربية، حيث دحض القرار أسطورة “الأراضي المحررة” التي طالما تغنت بها البوليساريو؛
3- أما ما يتعلق بالحفاظ على المكتسبات التي حققها المغرب منذ سنة2007فتتمثل في تأكيد القرار على المحددات الأساسية للمسلسل السياسي، وأولوية المبادرة المغربية للحكم الذاتي، والرعاية الحصرية للأمم المتحدة، في التوصل إلى حل سياسي واقعي، قابل للتحقيق ومستدام للنزاع، واستبعاد المخططات المتجاوزة.
ولذلك جاءت المشاركة المغربية في المائدة المستديرة بجنيف يومي 5 و6 دجنبر 2018، واضحة وحازمة. واضحة من جهة مشاركة منتخبين عن الأقاليم الجنوبية ( أي أن المغرب دحض أسطورة البوليساريو كونه الممثل الوحيد ” للشعب الصحراوي “)، وحازما من خلال وضع المحددات الأساسية التي ستجري فيها المائدة المستديرة والمستمدة من خطاب الذكرى 43 للمسيرة الخضراء، حيث جاء فيه أن المغرب “يبقى […] مقتنعا بضرورة أن تستفيد الجهود الحثيثة للأمم المتحدة، في إطار الدينامية الجديدة، من دروس وتجارب الماضي، وأن تتفادى المعيقات والنواقص التي شابت مسار مانهاست”. ويتجسد ذلك في:
• إشراك الجزائر باعتبارها طرفا وفاعلا رئيسيا في الخلاف الإقليمي؛
• التجاوب البناء مع إرادة السيد الأمين العام للأمم المتحدة؛
• إبقاءالمسارالسياسيتحتالرعايةالحصريةللأممالمتحدة؛
• التشديد على ضرورة إحصاء ساكنة المخيمات بتندوف؛
• توسيعدوائرالدعمالدوليلمبادرةالحكمالذاتيفيالأقاليمالجنوبية؛
• تواصل مسلسل سحب الاعترافات بالكيان الوهمي، إذ في المجموع لا تزال هناك 32 دولة فقط هي التي تعترف بالكيان الوهمي، ومعظمها يقع في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وكان ختام المائدة المستديرة بأن عقد الجانب المغربي ندوة صحفية تم تسليط الضوء فيها على مجريات المفاوضات ونتائجها، وعرفت تدخل منتخبين من الأقاليم الجنوبية للمغرب، بينما اقتصر عبد القادر مساهل، وزير الخارجية الجزائري، على الإدلاء بتصريح جد مقتضب لإحدى وسائل الإعلام ” جئنا وضحكنا شيئا ما ” ؟؟!!
ثالثا: انتخاب المغرب في مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الافريقي
جاءت عودة المغرب للاتحاد الافريقي بعد الاقتناع بأن سياسة الكرسي الفارغ لا تجدي نفعا، وفي نفس الوقت هي نتاج لسنوات من الجهود على المستوى الثنائي،وللدور الإيجابيللمملكة في إفريقيا، حيث عملت على تسخير هذه العودة لتقوية الوحدة الإفريقية والإسهام في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للقارة، وجعل المواطن الإفريقي محور التطور المنشود من خلال وضع إمكاناتها وتجربتها رهن إشارة باقي الدول الافريقية.
كماجاء الانتخاب في مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الافريقي في فترة قياسية بعد هذه العودة ليجسد إحدى السمات المومأ إليها أعلاه بنهج دبلوماسية استباقية، واضحة في أهدافها، دقيقة في توقيتها، وثمرة في نتائجها. وقد مكن هذا الانتخاب من:
• تنظيم بالرباط لندوة حول تطوير آليات عمل لجنة السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي خلال شهر ماي 2018. والتوقيع على اتفاق إقامة منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية؛
• تكريس الدور الريادي للمغرب داخل الاتحاد الإفريقي للدفاع عن الموقف الشرعي للمغرب بشأن النزاع الإقليمي حول الصحراء والحفاظ على مكاسب القرارين 653 و693 للاتحاد بشأن قضية الصحراء؛
• تعزيز التعاون والتنسيق مع المفوضية الإفريقية، وتأمين المشاركة الفعالة والمسؤولة للمغرب في جميع فعاليات واجتماعات الاتحاد الإفريقي؛
• متابعة عملية إصلاح الاتحاد بالنظر لانعكاساتها على عمله في المستقبل.
ومع ذلك، يبقى من السابق لأوانه معرفة السلوك الذي سينهجه المغرب داخل أروقة الاتحاد الافريقي، وكيفية مقاربته للعديد من المواضيع خاصة في ظل المناوشات والتقاطبات الموجودة، والتي يمكنه التعامل بإيجابية واحترافية لتجاوزها.
رابعا: تنويع وتعزيز الشراكة الإستراتيجية مع الدول الوازنة
سعى المغرب إلى تحسين تموقعه وتقوية العلاقة مع مجموعة من الدول الوازنة على مستوى تدبير القضايا والأزمات الدولية، إما بحكم عضويتها في مجلس الأمن الدولي، أو درجة تأثيرها الجيوسياسي في محيطها الإقليمي، أو على مستوى وزنها الاقتصادي والمالي من خلال إبرام شراكات استراتيجية أو حوار استراتيجي، وإعطاء مضمون واقعي ومتعدد الأبعاد معها. (الولايات المتحدة الأمريكية روسيا الاتحادية الصين الهند والمملكة المتحدة).
ويكمن الهدف من ذلك في توسيع هامش المناورة والحركة أمام المملكة وتوفير الأرضية الملائمة لاستقلالية قرارها. ولذلك سعت إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع كندا، وتكريس سياسة الانفتاح والتقارب مع دول أمريكا اللاتينية، ثم عملتعلى ضمان تموقع متميز بمنطقة آسيا والأوقيانوس من خلال توطيد العلاقات مع كل من اليابان والصين والهند، والاستفادة من القروض وتبادل الخبراء، فضلا عن الحضور الفعال للمغرب في المنتديات الأسيوية، في إطار التعاون جنوب-جنوب. وهو الطموح الذي يبدو أن صانع القرار عازم على المضي فيه قدما لما له من فوائد.
خامسا: تدعيم الشراكة الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي
على الرغم من حكم محكمة العدل الأوروبية، واللغط الكبير الذي صاحبه، والمحاولات الحثيثة لتوظيفه سياسيا، إلا أن العلاقات بين المغرب والمؤسسات الأوروبية، تميزت باستمرار عملية تكييف الاتفاق الزراعي والمفاوضات الخاصة باتفاقية الصيد البحري الجديدة وبروتوكول التطبيق الملحق بها.
في هذا السياق، أسفرت الاجتماعات والمفاوضات بين الجانبين على النتائج التالية:
توقيع اتفاقية الصيد البحري في صيغتها الجديدة وبروتوكولها التنفيذي الجديد وتبادل الرسائل المرافقة لهما في 24 يوليوز 2018. وستسمح هذه الأدوات القانونية الجديدة للطرفين بتوطيد تعاونهما في هذا القطاع، وتنفيذ اتفاقية جديدة ومستدامة ومتوازنة، تأخذ في الحسبان بوضوح المتطلبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وتهم كافة المياه المجاورة للتراب الوطني بما في ذلك الصحراء المغربية؛
توقيع اتفاق في 25 أكتوبر2018، في شكل تبادل للرسائل لتعديل البروتوكولين رقم 1 و4 لتكييف الاتفاقية الزراعية التي تنص على استمرار استفادة المنتجات التي تصدر من الصحراء المغربية من الأفضليات التجارية التي تتيحها اتفاقية الشراكة.
سادسا:استكمال العقد الثلاثي للريادة حول الإشكاليات الكبرى متعددة الأطراف سنة2018
تصدرت قضايا حقوق الانسان، والهجرة، ومكافحة الإرهاب والتطرف، والتغيرات المناخية الأجندة الدولية خلال سنة 2018.
وفي ظل التجاذبات الدولية كان المغرب حاضرا من خلال الاستراتيجية القائمة على العقد الثلاثي للريادة حول الإشكاليات الكبرى متعددة الأطراف، وتنصب على ثلاث إشكاليات عابرة للقاراتوالدعوة إلى تدبيرها تدبيرا إنسانيا وعقلانياوالساهمة في خلق توافق دولي حولها.
1- الهجرة: عهد الاتحاد الإفريقي لملك المغرب بمسؤولية الريادة حول هذا الموضوع، نتج عنها انبثاق رؤية إفريقية موحدة حول الهجرة. كما عهدت الأمم المتحدة للمغرب بشرف تنظيم المؤتمر الدولي الذي تم خلاله اعتماد الميثاق العالمي للهجرة الامنة والمنظمة والمنتظمة والذي التأم بمراكش في 10 و11 دجنبر 2018؛
2- مكافحة الإرهاب والتطرف ونزع السلاح وعدم انتشاره:تمكنت المملكة المغربية خلال سنة 2018 منتقوية ريادتها في المحافل والمنظمات الدولية المعنية بهذه القضايا، وذلك عبر رئاسة المغرب مع هولاندا لفترة ثانية للمنتدىالعالمي لمكافحة الإرهاب(GCTF)،ورئاسته للدورة 22 لمؤتمر الدول الأطراف للاتفاقية الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية، ورئاسته أيضا للجنة الأمم المتحدة للوقاية من الجريمة والعدالة الجنائية. بالإضافة إلى المبادرة التعاونية مع الولايات المتحدة الأمريكية حول مكافحة الإرهاب المحلي، والتي أدت إلى تطوير واعتماد وثيقة الرباط –واشنطن للممارسات الجيدة بشأن المنع والكشف والتدخل والاستجابة للإرهاب المحلي؛
3- المناخ:ووفق التزامات المغرب بوضع الانشغالات الأفريقية في صدارة أولوياته، واصل المساهمة في تفعيل اللجان المعنية بالمناخ المنبثقة عن قمة العمل الأفريقية المنظمة على هامش الدورة 22 لمؤتمر الأمم المتحدة للتغيرات المناخية بمراكش في نونبر 2016, ومن خلال المساهمة في تفعيل لجنة المناخ لحوض الكونغو وكذا أجرأة الصندوق الأزرق لحوض الكونغو والنهوض به. وعلى نفس المنوال ساهم المغرب في تفعيل لجنة المناخ لمنطقة الساحل في أفق القمة المزمع عقدها بالنيجر.
بمعنى أننا أمام وضوح للرؤية وتراكم للجهود، إلى جانب دول أخرى لمحاولة محاصرة والسيطرة على هذه الظواهر العالمية التي تستوجب إجابات جماعية من خلال التعريف بها في المحافل والمنتديات الدولية، وأخذها بعين الاعتبار والتقدير من قبل الآليات الأممية والمنبثقة عن الاتفاقيات التي التزم المغرب بتنفيذها، وإقرار آليات عملية لمجابهتها.
خلاصة:
تتوخى هذه الورقة من خلال المعطيات المومأ إليها أعلاه المساهمة، ولو بجزء يسير في فك خيوط دبلوماسية المغرب سنة 2018، وأن تكون ساعدت في إجلاء صورتها بشكل واضح.
وهذا الإجلاء يدفع إلى الثقة في أن سنة 2019 ستكون سنة مواصلة الوفاء بالمسؤوليات واستشراف مواقع الريادة حول المواضيع المستقبلية الكبرى. وفي نفس الوقت،الدعوة إلى التفكير في وضع استراتيجيات بعيدة المدى لها، وفق سيناريوهات مختلفة، وهو الورش الذي يتطلب انخراط الجميع بنفس يطبعه التجرد، ووضع مصالح العليا للبلاد فوق كل اعتبار.
*مهتم بالشأن الدبلوماسي المغربي
بنعلي.. الوزارة ستواصل خلال سنة 2025 العمل على تسريع وتطوير مشاريع الطاقات المتجددة
أكدت وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة ليلي بنعلي، اليوم الثلاثاء بمجلس النواب، أن …