قالت الحكومة في خطتها للتقليص من حوادث السير للعشرية المقبلة 2016 – 2025 إنها تنوي تخفيض عدد القتلى على الطرقات خلال 5 سنوات المقبلة إلى 2800 في عام 2020 أي بنسبة 25 في المائة، وخلال 10 سنوات إلى 1900 في عام 2025 أي بنسبة 50 في المائة.
ويواجه هذا الطموح طموح أكبر عبر عنه الباحث في نُظم الإعلام والتواصل محمد سالم الشرقاوي في كتابه الجديد “في سوسيولوجيا التواصل”، الذي اشتغل فيه على ظاهرة حوادث السير كعينة للبحث، أنه يتصور أن نحقق شعار”مدن بلا حوادث” إذا توفرت الإرادات في إطار منظومة الجهوية الموسعة. على أن يتم اختيار جهة من الجهات تطبق فيها المنظومة المندمجة للسلامة الطرقية بشكل صارم ومكثف، قبل نقل التجربة إلى الجهات الأخرى. وقد كان لنا معه هذا الحوار من أجل إطلاع القراء على وصفته العلمية للحدّ من تزايد حوادث السير على الطرقات المغربية.
– لماذا الاهتمام بموضوع حوادث السير؟
* نحتاج في كل وقت إلى بلورة خطط تواصلية للتحسيس بمخاطر معينة تستهدف المجتمعات والأفراد، وذلك بتعبئة القدرات المحلية للجهات الرسمية والمجتمع المدني لتعزيز أمن المواطنين واستقرارهم المادي والنفسي وتحسين مؤشرات الأمن الاجتماعي والاقتصادي والصحي وتكريس الحقوق والواجبات في إطار المنظومة الاجتماعية الواحدة.
ومن الظواهر المقلقة في المغرب، التي تحتاج إلى وقفة حازمة للفهم والتقويم، ظاهرة حوادث السير، “التي شكلت عينة للبحث في أطروحتي: “منهاج التفاصُل في سوسيولوجيا التواصُل” التي طرحتها في النسخة الأخيرة للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالتزامن مع اليوم الوطني للسلامة الطرقية، الذي يصادف 18 فبراير من كل عام، وناقشت فيها أثر الحملات التواصلية في الحد من الظواهر الاجتماعية انطلاقا من منهجية بحثية تستند إلى نظريات سوسيولوجيا التواصل”.
– مالذي أثارك بالضبط في ظاهرة حوادث السير لكي تقرر وضعها تحت مشرط “التفكيك” العلمي؟
* تعلمون أنه ما أن يستبشر المغاربة بتراجع معدلات ضحايا حوادث الطرقات في السنوات الأخيرة، مع حيوية الحملات التواصلية ونشاط اللجنة الوطني للوقاية من حوادث السير، حتى تعود المنحنيات إلى الارتفاع مجددا، لتسجل أرقاما مهولة، مما يضع الجميع أمام مسؤولية إعادة النظر في السياسات المتبعة، للحد من آثار هذا النزيف على المجتمع، وعلى نسيجه الاقتصادي والاجتماعي.
و أمام الدعوات الأخيرة بإحداث “رجّة” تعيد قراءة جدوى السياسات الموجهة لاحتواء الظاهرة والحد من انعكاساتها السلبية على المجتمع، تأتي أهمية تقويم أداء حملات التوعية والتوجيه والتحسيس بمخاطر الطريق، ضمن ما يتعين تخصيصه من جهود واعتمادات لتجويد البنيات الأساسية والتجهيزات الطرقية، إذا لم نكن سنجد أنفسنا مرة أخرى إزاء “معمعة” تتقاطع فيها الإرادات، وتعزُّ فيها الطموحات بسبب قلة الإمكانيات، وتؤثر فيها التراكمات الاجتماعية والثقافية والمعرفية.
وحيث أنه سيكون بوسعنا، تقنيا، حساب أعداد حوادث السير وانعكاساتها السلبية على معدلات “المراضة”، والأمن الصحي والتوازن الاجتماعي والبيئي، علاوة على ما يخسره الناتج الداخلي الخام للبلاد من نقاط ترهن مستوى تنميتها، فإننا بالمقابل لا نستطيع تقدير حجم الفواجع، وتمثُّلِ ما تتركه الحوادث من آثار نفسية واجتماعية يصعب تجاوزها بسهولة.
– كيف ترى السبيل إلى تجاوز هذه “الحرب الأهلية” التي نعيشها على الطرقات؟
* أمام الوضعية المعقدة لهذه الظاهرة الخطيرة نحتاج إلى قرارات شجاعة تُجسد بعمق الإرادة الحقيقية المُعبر عنها، على أعلى مستوى، للحد من هذا النزيف اليومي، والضرب بيد من حديد على المخالفين والمقصرين، مهما كانت مستويات مسؤوليتهم في ارتكاب الحوادث.
وفي هذا الإطار، لا حاجة إلى التأكيد على أهمية الترسانة القانونية المعتمدة في بلادنا لتنظيم قطاع التجهيز والنقل وتنظيم السير على الطرقات، بعد اعتماد مدونة السير الجديدة، بقدر ما يتعين العمل على مقاربة سلوكات الأفراد وفهم الدوافع والخلفيات النفسية والاجتماعية التي تتمخض عنها تصرفاتهم، سواء منهم أولئك الذين يُنتجون الأفكار ويضعون السياسات، أو أولئك الذي يُستهدفون بالبرامج الموجهة لتحسين السلامة الطرقية.
لذلك فإن تحسين مؤشرات السلامة الطرقية، لا يستقيم فقط مع الاجتهاد في تكريس المنحى التنازلي للحوادث وتراجع مستوى الخسائر المادية والبشرية في السنوات الأخيرة بل يتعين معه إقرار توجه حقيقي لتطوير ما أسميه بـ “محددات السلامة الطرقية” وفق المعايير المتعارف عليها دوليا، بما في ذلك حالة الطرق والتجهيزات والصيانة والتشوير، فضلا عن منظومة تعليم السياقة ومراقبة المركبات إلى جانب مخططات التكوين والتواصل وبرامج التربية على السلامة الطرقية.
– لمن تحمّل المسؤولية الكبيرة في ازدياد نسبة حوادث السير؟
* في ضوء نتائج الدراسات، التي جعلت العامل البشري يتصدر الأسباب الرئيسية المؤدية إلى وقوع الحوادث على الطرقات ركز عملنا على الإنسان/الفرد، الذي يتولى السياقة، ويتحكم في المركبة ويتجول في الطرقات، راجلا أو راكبا، من خلال جعله في صلب الدراسة المعمقة التي تعالج سلوكياته العاطفية والنفسية والاجتماعية، داخل التركيبة المجتمعية، ومقاربة تأثيرات المحيط عليه، مما قد يقود إلى فهم انعكاسات هذه السلوكات، وشرح مبرراتها، واقتراح الحلول والمبادرات التي تساعد على تقويمها وتصحيحها.
ذلك أنه إذا اتفقنا، سلفا، على مركزية العامل البشري في التسبب في حوادث السير، فإن تقويمنا للحملات التواصلية للجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير، ضمن مقاربة في سوسيولوجيا التواصل، سيرتكز أساسا على الإجابة عن سؤال مركب هو: من السائق (؟)، الذي يتولى السياقة (؟) وفي أي سياق (؟)
وستقودنا الإجابة عن هذا السؤال إلى الإحاطة بالإشكالية، التي ستساعدنا على تحديد “الكفايات الخاصة بالشخص المؤهل لتولي السياقة”، ومنه إلى مقاربة دور الأشخاص الآخرين، بدءا من أصحاب رسالة التواصل، مرورا بالمتدخلين في عملية الوقاية من الحوادث، وصولا إلى الفئات المستهدفة.
ومن ذلك سيكون علينا أن نقدم تفسيرنا لمعنى “السياقة”، ومقاربتنا للعوامل المتحكمة في هذه العملية وآليات التوجيه والإرشاد، وتحديد الجهات المتدخلة فيها، قبل مباشرة دراسة شخصية “السائق”، وطبيعة عملية “السياقة” ومساراتها، لنصل، في الأخير، إلى اقتراح ما يتعين القيام به من إجراءات، في إطار ما ترسخ من قناعات لدى الكثيرين من أنه “بتغيير عقلية الإنسان، سيكون بمقدورنا تغيير العالم”.
وفي هذا الإطار، اعتمدت دراستنا على ثلاثة أضلاع، تشكل أركان ما نسميه «المثلث السيني»، وتتحدد في: السائق، والسياقة، والسياق (س3) التي نجعلها قطب الرحى في تقويمنا للعمليات التحسيسية والتواصلية التي يتم القيام بها للحد من الحوادث، وتقدير مركز «المثلث السيني» داخل هذه العملية.
– ما هي الخلاصات التي توصلت إليها من خلال بحثك؟
* في حقيقة الأمر أيا كانت الخطط التواصلية، ومداها الزمني، فإن تحيينها وتطويرها وتجويدها بكيفية دورية مدروسة، لا يقل أهمية عن القيمة التي يمنحها أصحابها للأهداف التي تُريد تحقيقها سواء على المدى المتوسط أو البعيد. هذا أولا.
أما ثانيا فإن تركيز البحث على أضلاع “مثلثنا السيني”، ساعدنا على توجيه الاهتمام لشخصية “السائق” بالاعتماد على منهجية التحليل النفسي والاجتماعي، وما يتيحه علم نفس من إمكانيات لقياس أبعاد “الشخصية”، التي تتولى فعل “السياقة”، ومن ثمة اقتراح الكفايات اللازم توفرها في السائق النموذجي، وكذا ما يتعين القيام به لاعتماد هذه الكفايات في اختبار الحصول على رخصة السياقة، كمدخل لاحتواء الأخطاء الناجمة عن العنصر البشري، والمسببة لحوادث السير.
أما ثالثا فإنه يهمنا أن تركز الحملات التواصلية على هذا العنصر وإبراز مكانته في منظومة الحماية، التي تتوخى السلطات العمومية، من خلال اللجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير، ترسيخها، ضمن المجهود الوطني المندمج، لنصل إلى تحقيق شعار “مدن بلا حوادث”، الذي انفرد عملنا باقتراح صيغ لطرحه ضمن الإستراتيجية التواصلية النموذجية.