أجرى الحوار: سليمان الريسوني- عبد الإله المنصوري- عبد الإله المويسي- عبد اللطيف فنيد
– ما هي، في نظرك، أهم الأسباب التي أدت إلى توقيع معاهدة الحماية في مارس 1912؟
– كان حكام تلك المرحلة، سواء عبد العزيز أو عبد الحفيظ، أضف إليهم كتلة القيادات المخزنية التي سادت المغرب حينها، كلهم من طينة واحدة، عاجزين ويركضون وراء مصالحهم الشخصية.
ومثلما انساق عبد العزيز وراء من جعلوا منه سلطانا وهو طفل لم يتجاوز بعدُ ال14 من عمره، مفضلا وإياهم النزوات والمصالح على عزة البلاد واستقرارها . كذلك انساق عبد الحفيظ ضاربا عرض الحائط التزاماته تجاه البيعة المشروطة التي قيّده بها العلماء، ليختار بدلها الانحياز إلى طغمة فاسدة، وينفذ في الأخير بجلده وثروته، دون أن يعبأ لمصير العباد والبلاد.. عملت نفس تلك الكتلة الفاسدة، كذلك، على تكرار الشيء نفسه مع مجيء بن يوسف، حيث جعلته في بداية توليه العرش مهيأ لكي يماشي الحماية إلى درجة أنهم يوم أرادوا أن يظهروه في القمر “أظهروه لنا” (يضحك) وقبلناه.. وأصبح خائنا من يرفض مثل تلك الرواية.. لقد كانت مهزلة تاريخية.
– كنت قريبا من عبد الكريم الخطابي.. كيف كان ينظر هو إلى الظروف التي هيأت لاحتلال المغرب؟
– كان الأمير الخطابي رافضا لكل التبريرات التي أعطيت للقول إن الظروف كانت أكبر من الحكام وهي التي لعبت أدوارا في تسهيل مأمورية المحتلين.. من أراد أن يعرف ذلك فليرجع إلى جريدة “تلغراف”، التي كانت تصدر من مليلية، والتي كان الأمير يكتب فيها آراءه ومواقفه. لقد كان الأمير معجبا بالدولة العثمانية، كما نوّه بتجربة كمال أتاتورك التحررية وأشاد بمحاربة تركيا لإيطاليا سنة 1912 وغزْوَها ليبيا.
أحك لنا كيف كان الخطابي ينظر، من منفاه في مصر، إلى مجريات الأحداث في المغرب؟
ما أزال أتذكر أنه يوم اختطاف بن يوسف (محمد الخامس) كنت رفقة مجموعة من الضباط، على موعد مع الأمير، في بيت أخيه في حي الدقي في القاهرة، وكان من عادته الاستماع إلى إذاعة الشرق الأوسط في لندن، فاستمع إلى الخبر في حدود ال12 زوالا، وعندما أراد الدخول علينا في مكتب أخيه، ضرب الباب برجله وبعصاه بعنف، وقال لنا: “ما عْندكومْ خْبار”!؟ وأضاف: “لقد نفت فرنسا بن يوسف”، فأجابه زميلنا الضابط الجزائري محمد إبراهيم القاضي، بالفرنسية: “وماذا بعد؟”.. فقال له الأمير: “لو لم يكن في رجلي كسر، لما توانيت في الرجوع إلى المغرب لردع فرنسا“.. انظر إلى الشهامة، مع التأكيد أن الأمير الخطابي لم يكن من الأدعياء الذين يقولون ما لا يفعلون، بل كان رجلا صادقا.
– لماذا كان وجودكم رفقة عبد الكريم الخطابي في مصر يزعج إسبانيا؟
نعم، لقد كان تحلقنا حول الأمير عبد الكريم محط انزعاج وقلق الإسبان، وتخطر ببالي واقعة تظهر ذلك، ففي 1948، وقعت مظاهرة في تطوان، اعتقل إثرها أشخاص من حزب الإصلاح الوطني، وقد بعث الخليفة مولاي الحسن بن المهدي إلى المقيم العام مبعوثا يلتمس منه إطلاق سراح المعتقلين، وكان مبعوث الخليفة إلى المقيم العام مستشارُه السكوري، فلما دخل هذا الأخير على المقيم العام الإسباني،وجده مطأطأ الرأس، غارقا في التفكير، وبعدما أبلغه ملتمس الخليفة، أجاب المقيم العام، وبعقلية جنرال إسباني: “نحن لا نخفي امتعاضنا من هؤلاء الوطنيين، غير أنهم لا يزعجوننا كثيرا. نحن نخشى من ذلك الذي نزل بالقاهرة“.. وكان يقصد الأمير عبد الكريم. ما استنتجته أنا من هذه الواقعة هو أن الحركة الحزبية أو ما سمي الحركة الوطنية كانت صفرا، صفرا، صفرا..
– في مرحلة الاستعمار الإسباني لشمال المغرب كانت لك علاقة متميزة مع دول المشرق، حتى إنك ذهبت من المغرب إلى مصر مشيا على الأقدام.. ما سر هذه العلاقة؟
كان شمال المغرب دائما مركزا للثقافة، فدور اللغة العربية كان مهما جدا، إذ لم تكن الفرنسية هي الغالبة، بل اللغة الأم هي التي كانت تسود، كما كان التوجه العلمي مرتبطا، أيما ارتباط، بالمشرق. أذكر أنه في سنة 1937، وأنا طفل صغير، ذهبت في رحلة مدرسية إلى إسبانيا، وقد صادف ذلك بداية الحرب الأهلية الإسبانية. لمّا عدنا، بعد ثلاثة أشهر، إلى تطوان، وكنا في أواخر شهر غشت، صادفنا بعثة حسنية في طريقها إلى الشرق بتوجيه من الشيخ المكي الناصري، وقد كان ضمن هذه البعثة شخص جزائري هو أبو مدين الشافعي، الذي سيصبح صاحب أول كرسي في علم النفس في القاهرة، والذي سيصير صديقا لي في ما بعد، ومن مدينتي، القصر الكبير، كان ضمن هذه البعثة من الطلبة خالي عبد السلام الطود (المختطف الشهير) ولما ذهبوا إلى مصر ركبني طموح لا حد له لأن أفعل مثلهم، وقد عزمت منذ تلك اللحظة على الذهاب إلى الشرق وبقيت ألح على الأستاذ الغالي الطود، زوج خالتي، إلى أن جاءت سنة 1945 وذهبت إلى مصر مشيا على الأقدام.
– كنت تقود مجموعة من المقاومين الشباب في شمال المغرب لمحاربة فرنسا.. كيف عنّت لكم فكرة قطع الحدود لمحاربة فرنسا بدل اسبانيا ؟
لقد كنا مجموعة من الشباب من كل أنحاء المغرب العربي.. حينما ألقى الفرنسيون القبض على رفيقي المجاهد حمادي العزيز، تفاجأوا بأن يكون هناك ضابط من الشمال يقاوم وجود فرنسا بدل إسبانيا، في هذه اللحظة، تعرّفوا علي أنا أيضا، وقد كانو يلقبونني ب”فارْ البراجْ” لأنني كنت صغيرا ونحيلا وأنفلت من قبضتهم دائما وأعبُر المنطقة الحدودية “باراج عرباوة”، متسللا إلى المناطق التي تقع تحت السيطرة الفرنسية.. وكانت فرنسا تطلق على مجموعتنا لقب “أشبال أسد الريف”، نسبة إلى الأمير عبد الكريم الخطابي. وقد كان الفرنسيون يحاولون معرفة الكثير عن تحركاتنا، عن طريق مخبريهم وسفاراتهم.
– كان البعد المغاربي حاضرا بقوة في مشروعك التحرري لمقاومة الاستعمار. كيف كان ذلك؟
عندما نزل الأمير عبد الكريم الخطابي في القاهرة، أراد أن يحييّ فكرته وأن يصلح ما أفسده التاريخ وأن يتدارك الأخطاء التي وقعت في الثورة والاستفادة من دروس العمل الجهادي ضد فرنسا وإسبانيا، كما كان يأخذ بعين الاعتبار ما استجدّ مع ظهور الحركة الوطنية في الثلاثينيات، لأنه في الوقت التي قامت ثورة الريف، بقيادة الأمير، لم يكن هناك أي وجود للحركة الوطنية، لكن الأمير أخد على نفسه أيضا أن يحترم البلد الذي يستضيفه وألا يتسبب لمصر في مشاكل مع فرنسا وإسبانيا.
– يعني أن الخطابي التزم الصمت عندما كان في مصر؟
لا. في يوم 29 نونبر 1947، ذكرى يوم تقسيم فلسطين، امتلأ بيت الأمير في القاهرة بقيادات حركة التحرر العربي، من أمثال الشيخ أمين الحسيني من فلسطين، وصلاح حرب والدكتور السعداني من ليبيا، ورياض الصلح من لبنان، وعبد الرحمان عزام، الذي سيصبح رئيسا للجامعة العربية، وغيرهم ممن وفدوا على الأمير اعتبارا لرمزيته ولوزنه الكبير وطلبوا منه إعلان الجهاد في فلسطين، مؤكدين له أن الملك فاروق لا يمانع في ذلك، وهكذا أصدر الأمير عبد الكريم بيانا يدعو فيه إلى الجهاد في فلسطين، وهي الدعوة التي لاقت صدى كبيرا في مطلق العالم العربي والإسلامي، فاستجاب الناس من تونس وليبيا بغزارة، ومن المغرب، جاء حوالي عشرة أفراد، نظرا إلى بعد المسافة، وكان مجموع من قدِموا من شمال إفريقيا حوالي 1000، ومن هنا انطلق الأمير، فكانت هذه الانطلاقة أول صفحة في إعادة بناء التنظيم، تلاها تأسيس مكتب المغرب العربي.. لهذه العملية (تأسيس مكتب المغرب العربي) ارتباط آخر مع شمال المغرب، فقد ذهب وفد خليفي (من المنطقة الشمالية) يترأسه الأستاذ امحمد بنعبود، بصفته مندوبا للجنة الثقافية للجامعة العربية، إذ لم يكن ميثاق الجامعة العربية يقبل عضوية الدول الخاضعة للاستعمار، باستثناء شمال المغرب، الذي كان مسموحا له بتمثيل المغرب في الجامعة، لذلك جاء الأستاذ بنعبود من تطوان لتنظيم الصلات الثقافية بين المغرب الشمالي ومصر والشرق العربي عموما، فلما وصل إلى القاهرة، وجد مجموعة من الشباب، فكان أن تأسس مكتب المغرب العربي قبل لجنة تحرير المغرب العربي، وأحيلكم على قراءة كتاب “وثائق مكتب المغرب العربي” لبنعبود.
– في بداية الخمسينات خططت لتنظيم الكفاح المسلح في مجموع دول المغرب العربي، احك لنا عن هذا الأمر؟
عندما قرّرنا أن نخوض الكفاح المسلح في 1952، ذهبنا إلى علال الفاسي، عبد الحميد الوجدي وحمادي العزيز وأنا، ولمّا أخبرته بنيتنا تنظيم الكفاح المسلح، العابر للحدود المغاربية، وسألته إن كان بإمكان حزب الاستقلال دعمنا، قال لي: “الحزب تحت تصرفكم”!.. وكان آنذاك في مصر، ومن ثم انطلقنا لمفاتحة باقي الأحزاب المغاربية في الموضوع، وعندما عدنا إلى القاهرة، في 17 أكتوبر 1952، قدّمنا، حمادي وأنا، تقاريرنا إلى رئيس لجنة تحرير المغرب العربي، الأمير عبد الكريم، حول نقاشنا مع الأحزاب، والتي كان مضمونها أن أغلب الأحزاب المغاربية لن تستطيع مشاركتنا في العمل المسلح باستثناء حزب الدستور التونسي. وفي 18 نونبر 1952، الذي صادف ذكرى عيد العرش، وهي الذكرى التي كانت لجنة تحرير المغرب العربي تحتفل بها، استطعنا أن نعرف من القيادات الجزائرية والتونسية أن حزب الاستقلال المغربي لن يشاركنا في العمل المسلح، عكس ما كان قد وعدنا به علال الفاسي، وهو ما يعني أن علال الفاسي لم يعد يمتلك القرار داخل الحزب.. أعود الى سنة 1956، ففي هذه السنة، كنا نستعد لفتح جبهة خلفية في الشمال، أنا شخصيا، أعددتُ 300 مجاهدا تحت إشرافي، وكان ضمن القيادة السي حدو اقشيش، محمد إبراهيم القاضي، شباطة تركي سعيد والقبطان الجزائري بربر.. وقد استعنّا بأهل الريف، ومن ضمنهم الحاج سلام أمزيان. بالنسبة إلينا لم يكن الشمال أكثر من قاعدة خلفية غير معنية بالعمليات العسكرية، كنا نعتزم الدخول الى المنطقة الشرقية للمغرب، لفتح جبهة ضد فرنسا، وكانت معنا القيادة المذكورة، أي الضباط وال300 مجاهد، كما كانت رفقتنا قيادة أخرى فيها 30 ضابطا.. وهذا لم يكن ليرضي المهرولين إلى استقلال مشوّه يضمن لهم مواقع ومصالح، ومن ثمة، كانت معاداتهم واضطهادهم للمناطق التي مانعت هذا الاستقلال وأهلها، مثل شمال المغرب والريف تحديدا.
– سبق وأن قللت من شان وثيقة المطالبة بالاستقلال، كيف ذلك وهي من أهم وثائق الحركة الوطنية ؟
أنا رجل عسكري لا أومن بمثل هذه الأشكال. وثيقة المطالبة بالاستقلال ماهي؟ هي مذكرة كتبها عشرة أفراد أو خمسين أو ألفا وقدموها لمحمد الخامس. ماذا عساه يفعل بها؟ هل هي مدفعية..رشاشة. قنبلة؟ هي ورقة لا قيمة لها.إذا كنتم تعتبرونها شيئا مهما فأنتم أحرار. أنا كنت أقرا مذكرات تشرشل واستوقفتني حكاية.. يذكر تشرشل أنه في مؤتمر يالطا تمت المناداة على ممثل الفاتيكان وكان كردينالا يرتدي لباسا أحمر، لما رآه ستالين «تخلع» ثم سال تشرشل عمن يكون الشخص، فأخبره تشرشل أن المعني بالسؤال هو ممثل الفاتيكان، وبما أن سطالين كان يدخن غليونه، فقد سحب نفسا ونفخ دخان تبغه في الهواء، تعبيرا عن لا شيء. أنا اعتبر وثيقة المطالبة بالاستقلال كذلك لا شيء.
– كان حكام تلك المرحلة، سواء عبد العزيز أو عبد الحفيظ، أضف إليهم كتلة القيادات المخزنية التي سادت المغرب حينها، كلهم من طينة واحدة، عاجزين ويركضون وراء مصالحهم الشخصية.
ومثلما انساق عبد العزيز وراء من جعلوا منه سلطانا وهو طفل لم يتجاوز بعدُ ال14 من عمره، مفضلا وإياهم النزوات والمصالح على عزة البلاد واستقرارها . كذلك انساق عبد الحفيظ ضاربا عرض الحائط التزاماته تجاه البيعة المشروطة التي قيّده بها العلماء، ليختار بدلها الانحياز إلى طغمة فاسدة، وينفذ في الأخير بجلده وثروته، دون أن يعبأ لمصير العباد والبلاد.. عملت نفس تلك الكتلة الفاسدة، كذلك، على تكرار الشيء نفسه مع مجيء بن يوسف، حيث جعلته في بداية توليه العرش مهيأ لكي يماشي الحماية إلى درجة أنهم يوم أرادوا أن يظهروه في القمر “أظهروه لنا” (يضحك) وقبلناه.. وأصبح خائنا من يرفض مثل تلك الرواية.. لقد كانت مهزلة تاريخية.
– كنت قريبا من عبد الكريم الخطابي.. كيف كان ينظر هو إلى الظروف التي هيأت لاحتلال المغرب؟
– كان الأمير الخطابي رافضا لكل التبريرات التي أعطيت للقول إن الظروف كانت أكبر من الحكام وهي التي لعبت أدوارا في تسهيل مأمورية المحتلين.. من أراد أن يعرف ذلك فليرجع إلى جريدة “تلغراف”، التي كانت تصدر من مليلية، والتي كان الأمير يكتب فيها آراءه ومواقفه. لقد كان الأمير معجبا بالدولة العثمانية، كما نوّه بتجربة كمال أتاتورك التحررية وأشاد بمحاربة تركيا لإيطاليا سنة 1912 وغزْوَها ليبيا.
أحك لنا كيف كان الخطابي ينظر، من منفاه في مصر، إلى مجريات الأحداث في المغرب؟
ما أزال أتذكر أنه يوم اختطاف بن يوسف (محمد الخامس) كنت رفقة مجموعة من الضباط، على موعد مع الأمير، في بيت أخيه في حي الدقي في القاهرة، وكان من عادته الاستماع إلى إذاعة الشرق الأوسط في لندن، فاستمع إلى الخبر في حدود ال12 زوالا، وعندما أراد الدخول علينا في مكتب أخيه، ضرب الباب برجله وبعصاه بعنف، وقال لنا: “ما عْندكومْ خْبار”!؟ وأضاف: “لقد نفت فرنسا بن يوسف”، فأجابه زميلنا الضابط الجزائري محمد إبراهيم القاضي، بالفرنسية: “وماذا بعد؟”.. فقال له الأمير: “لو لم يكن في رجلي كسر، لما توانيت في الرجوع إلى المغرب لردع فرنسا“.. انظر إلى الشهامة، مع التأكيد أن الأمير الخطابي لم يكن من الأدعياء الذين يقولون ما لا يفعلون، بل كان رجلا صادقا.
– لماذا كان وجودكم رفقة عبد الكريم الخطابي في مصر يزعج إسبانيا؟
نعم، لقد كان تحلقنا حول الأمير عبد الكريم محط انزعاج وقلق الإسبان، وتخطر ببالي واقعة تظهر ذلك، ففي 1948، وقعت مظاهرة في تطوان، اعتقل إثرها أشخاص من حزب الإصلاح الوطني، وقد بعث الخليفة مولاي الحسن بن المهدي إلى المقيم العام مبعوثا يلتمس منه إطلاق سراح المعتقلين، وكان مبعوث الخليفة إلى المقيم العام مستشارُه السكوري، فلما دخل هذا الأخير على المقيم العام الإسباني،وجده مطأطأ الرأس، غارقا في التفكير، وبعدما أبلغه ملتمس الخليفة، أجاب المقيم العام، وبعقلية جنرال إسباني: “نحن لا نخفي امتعاضنا من هؤلاء الوطنيين، غير أنهم لا يزعجوننا كثيرا. نحن نخشى من ذلك الذي نزل بالقاهرة“.. وكان يقصد الأمير عبد الكريم. ما استنتجته أنا من هذه الواقعة هو أن الحركة الحزبية أو ما سمي الحركة الوطنية كانت صفرا، صفرا، صفرا..
– في مرحلة الاستعمار الإسباني لشمال المغرب كانت لك علاقة متميزة مع دول المشرق، حتى إنك ذهبت من المغرب إلى مصر مشيا على الأقدام.. ما سر هذه العلاقة؟
كان شمال المغرب دائما مركزا للثقافة، فدور اللغة العربية كان مهما جدا، إذ لم تكن الفرنسية هي الغالبة، بل اللغة الأم هي التي كانت تسود، كما كان التوجه العلمي مرتبطا، أيما ارتباط، بالمشرق. أذكر أنه في سنة 1937، وأنا طفل صغير، ذهبت في رحلة مدرسية إلى إسبانيا، وقد صادف ذلك بداية الحرب الأهلية الإسبانية. لمّا عدنا، بعد ثلاثة أشهر، إلى تطوان، وكنا في أواخر شهر غشت، صادفنا بعثة حسنية في طريقها إلى الشرق بتوجيه من الشيخ المكي الناصري، وقد كان ضمن هذه البعثة شخص جزائري هو أبو مدين الشافعي، الذي سيصبح صاحب أول كرسي في علم النفس في القاهرة، والذي سيصير صديقا لي في ما بعد، ومن مدينتي، القصر الكبير، كان ضمن هذه البعثة من الطلبة خالي عبد السلام الطود (المختطف الشهير) ولما ذهبوا إلى مصر ركبني طموح لا حد له لأن أفعل مثلهم، وقد عزمت منذ تلك اللحظة على الذهاب إلى الشرق وبقيت ألح على الأستاذ الغالي الطود، زوج خالتي، إلى أن جاءت سنة 1945 وذهبت إلى مصر مشيا على الأقدام.
– كنت تقود مجموعة من المقاومين الشباب في شمال المغرب لمحاربة فرنسا.. كيف عنّت لكم فكرة قطع الحدود لمحاربة فرنسا بدل اسبانيا ؟
لقد كنا مجموعة من الشباب من كل أنحاء المغرب العربي.. حينما ألقى الفرنسيون القبض على رفيقي المجاهد حمادي العزيز، تفاجأوا بأن يكون هناك ضابط من الشمال يقاوم وجود فرنسا بدل إسبانيا، في هذه اللحظة، تعرّفوا علي أنا أيضا، وقد كانو يلقبونني ب”فارْ البراجْ” لأنني كنت صغيرا ونحيلا وأنفلت من قبضتهم دائما وأعبُر المنطقة الحدودية “باراج عرباوة”، متسللا إلى المناطق التي تقع تحت السيطرة الفرنسية.. وكانت فرنسا تطلق على مجموعتنا لقب “أشبال أسد الريف”، نسبة إلى الأمير عبد الكريم الخطابي. وقد كان الفرنسيون يحاولون معرفة الكثير عن تحركاتنا، عن طريق مخبريهم وسفاراتهم.
– كان البعد المغاربي حاضرا بقوة في مشروعك التحرري لمقاومة الاستعمار. كيف كان ذلك؟
عندما نزل الأمير عبد الكريم الخطابي في القاهرة، أراد أن يحييّ فكرته وأن يصلح ما أفسده التاريخ وأن يتدارك الأخطاء التي وقعت في الثورة والاستفادة من دروس العمل الجهادي ضد فرنسا وإسبانيا، كما كان يأخذ بعين الاعتبار ما استجدّ مع ظهور الحركة الوطنية في الثلاثينيات، لأنه في الوقت التي قامت ثورة الريف، بقيادة الأمير، لم يكن هناك أي وجود للحركة الوطنية، لكن الأمير أخد على نفسه أيضا أن يحترم البلد الذي يستضيفه وألا يتسبب لمصر في مشاكل مع فرنسا وإسبانيا.
– يعني أن الخطابي التزم الصمت عندما كان في مصر؟
لا. في يوم 29 نونبر 1947، ذكرى يوم تقسيم فلسطين، امتلأ بيت الأمير في القاهرة بقيادات حركة التحرر العربي، من أمثال الشيخ أمين الحسيني من فلسطين، وصلاح حرب والدكتور السعداني من ليبيا، ورياض الصلح من لبنان، وعبد الرحمان عزام، الذي سيصبح رئيسا للجامعة العربية، وغيرهم ممن وفدوا على الأمير اعتبارا لرمزيته ولوزنه الكبير وطلبوا منه إعلان الجهاد في فلسطين، مؤكدين له أن الملك فاروق لا يمانع في ذلك، وهكذا أصدر الأمير عبد الكريم بيانا يدعو فيه إلى الجهاد في فلسطين، وهي الدعوة التي لاقت صدى كبيرا في مطلق العالم العربي والإسلامي، فاستجاب الناس من تونس وليبيا بغزارة، ومن المغرب، جاء حوالي عشرة أفراد، نظرا إلى بعد المسافة، وكان مجموع من قدِموا من شمال إفريقيا حوالي 1000، ومن هنا انطلق الأمير، فكانت هذه الانطلاقة أول صفحة في إعادة بناء التنظيم، تلاها تأسيس مكتب المغرب العربي.. لهذه العملية (تأسيس مكتب المغرب العربي) ارتباط آخر مع شمال المغرب، فقد ذهب وفد خليفي (من المنطقة الشمالية) يترأسه الأستاذ امحمد بنعبود، بصفته مندوبا للجنة الثقافية للجامعة العربية، إذ لم يكن ميثاق الجامعة العربية يقبل عضوية الدول الخاضعة للاستعمار، باستثناء شمال المغرب، الذي كان مسموحا له بتمثيل المغرب في الجامعة، لذلك جاء الأستاذ بنعبود من تطوان لتنظيم الصلات الثقافية بين المغرب الشمالي ومصر والشرق العربي عموما، فلما وصل إلى القاهرة، وجد مجموعة من الشباب، فكان أن تأسس مكتب المغرب العربي قبل لجنة تحرير المغرب العربي، وأحيلكم على قراءة كتاب “وثائق مكتب المغرب العربي” لبنعبود.
– في بداية الخمسينات خططت لتنظيم الكفاح المسلح في مجموع دول المغرب العربي، احك لنا عن هذا الأمر؟
عندما قرّرنا أن نخوض الكفاح المسلح في 1952، ذهبنا إلى علال الفاسي، عبد الحميد الوجدي وحمادي العزيز وأنا، ولمّا أخبرته بنيتنا تنظيم الكفاح المسلح، العابر للحدود المغاربية، وسألته إن كان بإمكان حزب الاستقلال دعمنا، قال لي: “الحزب تحت تصرفكم”!.. وكان آنذاك في مصر، ومن ثم انطلقنا لمفاتحة باقي الأحزاب المغاربية في الموضوع، وعندما عدنا إلى القاهرة، في 17 أكتوبر 1952، قدّمنا، حمادي وأنا، تقاريرنا إلى رئيس لجنة تحرير المغرب العربي، الأمير عبد الكريم، حول نقاشنا مع الأحزاب، والتي كان مضمونها أن أغلب الأحزاب المغاربية لن تستطيع مشاركتنا في العمل المسلح باستثناء حزب الدستور التونسي. وفي 18 نونبر 1952، الذي صادف ذكرى عيد العرش، وهي الذكرى التي كانت لجنة تحرير المغرب العربي تحتفل بها، استطعنا أن نعرف من القيادات الجزائرية والتونسية أن حزب الاستقلال المغربي لن يشاركنا في العمل المسلح، عكس ما كان قد وعدنا به علال الفاسي، وهو ما يعني أن علال الفاسي لم يعد يمتلك القرار داخل الحزب.. أعود الى سنة 1956، ففي هذه السنة، كنا نستعد لفتح جبهة خلفية في الشمال، أنا شخصيا، أعددتُ 300 مجاهدا تحت إشرافي، وكان ضمن القيادة السي حدو اقشيش، محمد إبراهيم القاضي، شباطة تركي سعيد والقبطان الجزائري بربر.. وقد استعنّا بأهل الريف، ومن ضمنهم الحاج سلام أمزيان. بالنسبة إلينا لم يكن الشمال أكثر من قاعدة خلفية غير معنية بالعمليات العسكرية، كنا نعتزم الدخول الى المنطقة الشرقية للمغرب، لفتح جبهة ضد فرنسا، وكانت معنا القيادة المذكورة، أي الضباط وال300 مجاهد، كما كانت رفقتنا قيادة أخرى فيها 30 ضابطا.. وهذا لم يكن ليرضي المهرولين إلى استقلال مشوّه يضمن لهم مواقع ومصالح، ومن ثمة، كانت معاداتهم واضطهادهم للمناطق التي مانعت هذا الاستقلال وأهلها، مثل شمال المغرب والريف تحديدا.
– سبق وأن قللت من شان وثيقة المطالبة بالاستقلال، كيف ذلك وهي من أهم وثائق الحركة الوطنية ؟
أنا رجل عسكري لا أومن بمثل هذه الأشكال. وثيقة المطالبة بالاستقلال ماهي؟ هي مذكرة كتبها عشرة أفراد أو خمسين أو ألفا وقدموها لمحمد الخامس. ماذا عساه يفعل بها؟ هل هي مدفعية..رشاشة. قنبلة؟ هي ورقة لا قيمة لها.إذا كنتم تعتبرونها شيئا مهما فأنتم أحرار. أنا كنت أقرا مذكرات تشرشل واستوقفتني حكاية.. يذكر تشرشل أنه في مؤتمر يالطا تمت المناداة على ممثل الفاتيكان وكان كردينالا يرتدي لباسا أحمر، لما رآه ستالين «تخلع» ثم سال تشرشل عمن يكون الشخص، فأخبره تشرشل أن المعني بالسؤال هو ممثل الفاتيكان، وبما أن سطالين كان يدخن غليونه، فقد سحب نفسا ونفخ دخان تبغه في الهواء، تعبيرا عن لا شيء. أنا اعتبر وثيقة المطالبة بالاستقلال كذلك لا شيء.
التعليقات على حوار تاريخي: الطود: الحركة الوطنية «صفر»..ووثيقة المطالبة بالاستقلال لا قيمة لها مغلقة
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…