إمرأة بِلِحية

استعملت كرسيا كي أصل إلى حيث يضع أبي موس حلاقته أعلى الخزانة، أتقابل مع المرآة وأتساءل: هل أحلق حاجبي أم لا، أقرر أن أحلقهما كما تفعل فاطمة ”صطوب”، أقوى فتاة بالدرب، إنها لا تخاف أحدا ويشاع عنها بأنها تدخن الجوانات بمرحاض الحمام، أخذت أحلق  حاجبي كما يحلق أبي لحيته. وضعت الصابون وبعدها مررت عليهما الموس، أنظر في المرآة كي أرى شكل حاجبي الجديد؛ يا إلهي، لقد اختفى حاجباي تماما، ماذا سأقول لماما؟ وماذا سيفعل بي والدي عند عودته من العمل؟ ماذا سأقول لبنات وأولاد الحي، توجهت إلى أمي وأنا مستسلمة لما قد يصير، ضحكت علي معلقة: ماذا فعلت بحاجبيك؟ لقد حلقتهما ببساطة، أجبتها.. نظرت إلي بابتسامة محملة بالشفقة والرغبة في الضحك في آن. غسلت  جبهتي من بقايا الصابون.. بعدها استمرت أمي تحك الثوم علي حاجبي لفترة كي ينمو زغبهما، و كان علي أن أمكث “حاجبة” بالمنزل.

الأربعاء صباحا طلبت مني أمي أن أغسل أطرافي وارتدي ملابسي، لأن الزوهرة وابنها مراد سيمرون علينا لنذهب معا  إلى مكان لا أعرفه.  دخلت الحمام فتحت الصنبور ومسحت رجلي قليلا كي تبدوا لأمي مغسولتين، وتظاهرت بأني أنشفها بالمنديل لكي لا تطلب مني أمي أن أغسلهما مجددا..  لبست حذائي بسرعة البرق كي لا تكتشف أمري، بعدها مشطت شعري وأغلقت أزرار قميصي الزهري الذي نِمتُ به.  طرقت الزوهرة الباب، فاعتمرت أمي حجابها وخرجنا.

ركبنا سيارة هوندا. توسطت الزوهرة وأمي أسمعهن يتحدثن عنا أنا ومراد. مراد بدوره  لا يحب الكرة و يلعب بالدمى ويقلد الممثلة المكسيكية كوادالوبي في حركاتها وكلامها. تقول الزوهرة: لقد تعبت، جربت معه كل الطرق من ضرب وكيّ وحك الفلفل الحِرِّيق السوداني على شفتيه، لكن لا شيء ينفع مع “هاد ولد الحرام”.. فهمت أنهما تقصداننا حينها، لأن أمي أذاقتني “السودانية” وكوت يدي بسكين حام  لأني أكثر من قول “ويلي” وأتهادى في مشيتي مثل حمامة. أعرف أنني و مراد نتشارك نفس الصفات والاهتمامات، وأعرف أننا نتلقى نفس أنواع العقوبات والتنكيل،  ليس من لدن أمهاتنا فقط، بل من قِبَل الجميع.

ترجلنا من الهوندا لنجد نفسنا أمام بناية كبيرة، تعتليها قبة خضراء، يرفرف فوقها علم أخضر كعلم القذافي، على بابها اصطف سرب من المتسوليين والمجانين. تشتري الزوهرة وأمي بعض الشموع ونلج إلى قلب البناية. تطلب مني أمي أن أقدِّم رجلي اليمنى عند الدخول وأن أقول بسم الله. أفعل ما أمرتني بفعله. لكن، ما الذي يجري هنا؟ رأيت امرأة مستلقية على بطنها و تبكي بكاء غريبا و تصرخ: “يا سيدي أخذته مني وتركتني كالمجنونة أسألك يا سيدي أن تعيده إلي أو تأخذ روحي للأبد”. امرأة أخرى تخبط بيديها على باب الشبابيك وتحدث الشباك عن أخيها.. فهمت من كلامها  بأنه أخذ كل إرثها من أبيها ولم يترك لها شيئا..  تبدأ الزوهرة برمي الشمع من فتحات الشبابيك وتتمتم كلاما غير مفهوم وأمي قربها تكرر ما وتقوله الزوهرة وما تفعله، تطوف الزوهرة بمراد وتطلب منه أن يقبّل الشبابيك. أمي تطلب مني نفس الشيء. آخ، إننا نقبل قبر أحد الأموات كما نفعل عندما نزور قبر جدتي في عاشوراء بالمقبرة عدا أننا لا نطوف عليها و لا نرمي على قبرها الشمع.

بعد قليل نغادر البناية ذات القبة الخضراء وندخل بيتا على بابه ستارة سوداء، تزيحها الزوهرة على رجل ذي لحية كثة تكسو معظم وجهه فلا يظهر من ملامحه إلى القليل، يرتدي جلباب صوف أبيض، لا أعرف ما الذي قالته له الزوهرة لكنه فجأة نزع نعله وراح  يضربنا و يقرأ علينا القرآن وبعض الكلام الذي لم أفهم منه شيئا. حينما انتهى منا خاطب أمي والزوهرة قائلا: أغلب الظن أنهما مسكونان بجن يهودي والعياذ بالله، إذا ما سكن أحدهم لا يعود بالإمكان تبيان ما إذا كان رجلا أم امرأة.

عدنا إلى المنزل مساء، بعد رحلة روحية عدت منها بخيط أبيض حول عنقي، معلق به “سبوب”. انتهزت فرصة دخول أمي إلى المطبخ كي أزيله.. أفتحه فأجد عليه خطوطا غامضة مثل كتابة طبيب، أو كأنه مكتوب بالشينوية (الصينية). عرفت أنه  لا معنى له، أو على الأقل لا معنى قد يفهمه شخص آخر غير كاتبه. تدخل علي أمي ثم تصفعني صارخة : قلت لك لا تفتحها، الآن طار مفعولها، هل أنت مسرور؟؟ “ضربتي كلشي فالزيرو” هل تريد أن تبقى أضحوكة أمام أصحابك؟ أتجاهل صراخها بوجهي، فقد أصبحت تزعجني كثيرا.. ودون أن أعرف السبب  أنزوي إلى ركن بالغرفة، أحبس الدموع في مقلتي، وأشغل التلفاز. ليس هناك سوى القرآن يتلى طيلة ساعات، تقطعه نشرة الأخبار يظهر فيها مذيع يبكي وينتحب، ثم يعود التلفاز لبث القرآن مجددا. تكرر الأمر في حلقة مفرغة حتى نمت على صوت تجويد حزين. حينما استيقظت صباح اليوم الموالي،  أخبرتني أمي بأن الملك قد مات.

 

التعليقات على مذكرات متحول جنسي.. طلاسم الرجولة وموت الحسن الثاني مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…