مصطفى الفن
واهم من يعتقد أن هذه الاحتجاجات المشتعلة بالريف لم تندلع إلا مع مقتل بائع السمك محسن فكري في شاحنة لطحن النفايات بالحسيمة.
واقعة مقتل فكري لم تكن في حقيقة الأمر إلا تلك الشرارة التي عجلت بظهور هذا الحراك الاحتجاجي بزعماء لا يتحكم فيهم تنظيم سياسي ولا نقابي ولا مدني ولا ديني ولا سلطة ولا عامل ولا وال ولا هم يحزنون.
بل إن رموز هذه التنظيمات السياسية والنقابية والمدنية، ومنهم برلمانيون ومسؤولون جماعيون وفاعلون وحقوقيون، هم في نظر زعماء هذه الاحتجاجات مجرد “خونة من سلالة بنعرفة” تآمروا مع الرباط على الريف مقابل تلك الامتيازات التي يرفلون فيها.
وهذا معناه أن الحراك الحالي تجاوز سقف الوسطاء السياسيين والاجتماعيين والفاعلين المحليين في المنطقة ليصبح المحتجون في مواجهة مباشرة مع الدولة ورموزها.
وهنا مكمن الخطر المفتوح على المجهول. ولأن الأمر كذلك، فقد حرصت الدولة، منذ البداية، على أن تتكفل هي نفسها بإطفاء هذه الاحتجاجات المشتعلة من خلال انتداب مسؤوليها السامين الى منطقة الريف لضبط بوصلة الاحتجاج ومحاورة زعمائه.
والواقع أن جذور هذا الاحتقان بالريف له عقود من الزمن وإن كان قد توارى إلى الخلف مع بداية العهد الجديد وتلك العناية الخاصة التي أولاها الملك محمد السادس لهذه المنطقة في السنوات الأولى من حكمه.
لكن خلال السنوات الأخيرة ظهر فاعل “سياسي” جديد أريد له أن يكون اللاعب رقم واحد في هذه المنطقة ليس من خلال صناديق الاقتراع الشفافة ولكن من خلال كسر هذه الصناديق وتثبيت “وسطاء جدد” بدون رصيد أخلاقي ولا عمق سوسيولوجي وسط قبائل الريف.
وكلكم تتذكرون كيف أن ثمانية أحزاب سياسية بالحسيمة خرجت ببيان مشترك في سابقة من نوعها في اليوم الموالي لإعلان نتائج الانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر لتقول بالفم المليان: “إن هذه النتائج المعلن عنها في هذه المدينة الريفية مشكوك فيها وأن يد السلطة لعبت لعبتها لتعبيد طريق الفوز أمام حزب سياسي لا يشبه بقية الأحزاب”.
وربما لهذا السبب أحس ابن الريف إلياس العماري بوخزة ضمير دفعته الى تقديم نصف استقالة من مهامه العمومبة الحالية قبل أن يطلب الصفح من قبيلته لعلها تأذن له بالدخول والعودة الى حضنها وبساطتها وصفائها هروبا من “نفاق الرباط ومنافقيها وخونتها ووعودهم الكاذبة”.
اليوم، ينبغي الاعتراف بأن هناك فراغا سياسيا قاتلا بالمنطقة تتحمل فيه الدولة النصيب الأكبر من المسؤولية لأن كل هذه المجالس المنتخبة بالإقليم تكاد تكون وهمية وصنعت ربما بليل خارج المنهجية الديمقراطية ولأنها أيضا غير مسنودة بقواعد اجتماعية من شحم ولحم ودم.
فما العمل والحالة هذه بهذا الفراغ؟
ما هو مؤكد منه أن الدولة منزعجة من هذا الفراغ الذي أفرز قادة احتجاج من طينة خاصة فشل جميع مسؤولي السلطات المحلية في محاورتهم لمعرفة على الأقل لائحة مطالبهم.
وإذا كان البعض يقول إن هذه الاحتجاجات هي ذات طابع اجتماعي خالص، فأنا لا أعتقد ذلك.
ولا أرى أن المطالبة برفع قانونية العسكرة عن المنطقة هو مطلب اجتماعي، بل هو مطلب سياسي صرف خاصة عندما يرفق بشعار آخر يدعو إلى إعادة جثمان زعيم الثورة الريفية محمد بنعبد الكريم الخطابي المدفون بمصر.
وهنا لا ينبغي التردد في اتخاذ بعض القرارات مهما كانت مؤلمة لأن منطق الدولة فوق بعض الاعتبارات المرتبطة بمحاباة هذا المسؤول والتنكر لذاك استنادا الى عاملي البعد والقرب من دائرة القرار.
وأنا لا أفهم مثلا كيف أن واليا للجهة مثل اليعقوبي الذي يقله ملك البلاد أحيانا إلى جانبه في سيارته لم يستطع أن يقنع محتجين يتظاهرون منذ عدة أشهر في الساحات العمومية بالجلوس إليه ولو مرة واحدة لتبادل أطراف الحديث معهم حول دوافع هذا الاحتجاج.
أقصد القول أن الدولة في حاجة إلى مسؤولين يخدمونها وليست في حاجة إلى مسؤولين تصرف عليهم الأموال الطائلة دون أن يقدموا لها أي خدمة ملموسة في وقت الشدة.
ويبدو أن صناع القرار في الرباط انتبهوا الى هذا المأزق الذي تحول فيه بعض المسؤولين المحليين من رجال السلطة في الشمال الى عبء على الدولة أو قل تحولوا إلى جزء من المشكل عوض أن يكونوا جزءا من الحل.
ولذلك كله، سيلتقي عبد الوافي لفتيت وزير الداخلية الجديد ومعه نور الدين بوطيب الرجل الثاني في “أم الوزارات”، مساء هذا اليوم، منتخبي إقليم الحسيمة، ليتدارس معهم الوصفات الممهدة لتطويق هذا الحراك الذي أخرج أمس الأحد أكثر من 30 ألف محتج الى شوارع المدينة.
وهذه واحدة من المهام الكبرى التي تنتظر لفتيت الذي لا أعتقد أن استوزاره في حكومة العثماني هو رسالة موجهة الى العدالة والتنمية فقط.
استوزار لفتيت، الذي يعد بحق “عصا” السلطة، فيه مآرب آخرى. فالسيد ابن الريف من بلدة “تفرسيت” وتربطه علاقات قوية بالكثير من العائلات الريفية، بل حتى ببعض قادة الاحتجاج، الذين سيتحدث إليهم ب”تريفيت”، أي باللهجة التي يفهمونها.
ومع ذلك، هناك نقطة ضعف واحدة في سيرة عبد الوافي لفتيت تداولها زعماء الحراك فيما بينهم:
“لفتيت واحد من خدام الدولة واستفاد في ظروف غامضة من أراضيها، فيما نحن حركة احتجاجية جئنا لنحارب الفساد والمفسدين”.