ليس هذا القول انتصارا لهذا أو ذلك.. بل مجرد محاولة للتفكير بصوت مرتفع، في ظل النقاش حول سياسة الميزانية المثلى التي تتيح مواجهة تداعيات فيروس كورونا في ظلها وما بعدها.. ويستحب عند نقاش ما يطرحه بعض المسؤولين، الابتعاد عما يمثلونه خارج دورهم في صناعة القرار أو اتخاذه، وإن كانت أبعادهم الأخرى تعطيهم سلطات قد تنأى بالنقاش عن مقدماته وخلاصاته..
لا شيء يمنع من أن تدخل المدارس المختلفة في نقاش عمومي حقيقي حول السياسات الاقتصادية والسياسات العمومية الممكنة، في ظل وما بعد كورونا، شريطة ألا يكون ذلك محكوما تماما بالظرفيات الطارئة، بل يكون مسترشدا برؤية حقيقية تزاوج بين المديين القصير والبعيد.. المهم ألا تندرج المساهمات الرامية إلى الخوض في الإشكالية المطروحة اليوم، ضمن “التاندانس” الذي فرضته الجائحة.
أخنوش.. دعوة الاستدانة
عندما ينشر وزير مثل أخنوش مرافعة يعتبر فيها الدعوة إلي التقشف خطأ ويؤكد فيها على ضرورة المضي في الاستدانة، لا بد أن يثير ذلك الانتباه، خاصة أنه يبني ذلك على تصور يرى في الدولة مخلصا للقطاع الخاص، بعدما كان يؤكد هذا الأخير أن السوق هو الفيصل.. الوزير يؤكد أنه لا خيار أمام المغرب من أجل تنظيم الخروج من الأزمة، سوى الاستدانة، والمخاطرة بمواكبة الفاعلين الاقتصادين إلي أن يصلوا إلي شط الأمان، مشددا على أن عالم ما بعد كورونا سيفضي إلى هدم البديهيات المتعلقة بالعجز الموازني.
الأزمي.. قف خطر 2012
هذا التوجه الذي عبر عنه وزير الفلاحة لم يرق لإدريس أزمي الإدريسي، القيادي الخبير في المالية العمومية في حزب العدالة والتنمية، الذي ذكر حليف حزبه في الحكومة بالفصل 77 من الدستور، الذي يؤكد على أنه يتوجب على البرلمان والحكومة الحفاظ على توزان مالية الدولة، كما يحيله على الفصل 20 من القانون التنظيمي الخاص بقانون المالية، الذي يذهب إلى أنه من أجل الحفاظ على توازن مالية الدولة لا يفترض في الاقتراضات أن تتعدى مبلغ نفقات الاستثمار والوفاء بأصل الدين برسم السنة المالية.
يتصور الأزمي بأن اللجوء إلي توسيع العجز والدين العمومي ينطوي على مخاطر، لأنه يعاكس التوجه الرامي إلي تطهير أساسيات الاقتصاد الوطني، والتي بلغها المغرب بالكثير من “الإصلاحات السياسية الشجاعة”.
وهو يذكر، من أجل دعم دعواه، بالعجز الذي وصل إلى 7.2 في المائة في 2012، كي يقلص بعد ذلك كي يحوم حول 3 في المائة، كما تم التحكم في دين الخزينة ليصل إلي حوالي 65 في المائة.
الأزمي يعتقد أن هذه الجهود هي التي أتاحت بلوغ الاستثمارات العمومية 190 مليار درهم، والانخراط في برامج اجتماعية عبر تيسير والراميد والدعم المالي للأرامل هل تؤشر هذه على سياسة اجتماعية حقيقية؟.. ذلك نقاش ليس هنا مجاله.
الأزمي يحيل على تقييم وكالات التصنيف الائتماني للمغرب و حصوله على خط السيولة والوقاية الذي أتاحه له صندوق النقد الدولي.. ويخلص الأزمي إلي أن الاستدانة تترجم بالزيادة في الضرائب أو التضخم، والذي ستتحمله الأسر والشركات…
الإطفائي وحارس المعبد
لا يتعلق الأمر بسجال نظري بين مسؤولين.. أحدهما اكتشف مزايا الاستدانة والعجز كما كان ينادي بذلك المندوب السامي في التخطيط قبل كورونا، وآخر ينبه ويدق ناقوس الخطر حول الإمعان في توسيع العجز والاستدانة.. بل نقاش غير معلن له خلفيات فنية.. حول طريقة التعاطي مع مالية الدولة في الضراء والسراء..
الوزير يسعى إلي تقديم حل يرى أنه كفيل بدعم الشركات، حيث يفترض في الدولة أن تتحمل عبر العجز والمديونية عملية عودتها إلي الوضعية الطبيعية، فهو لم يصبح من مريدي الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز أو حتى تلميذه جوزيف استغيلتز، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، والداعي إلى العودة إلى الدولة من أجل التخفيف من عب اليد الخفية للسوق. تلك دعوة أصيلة لديه، عكس أخنوش الذي يقدم حلا ظرفيا لهزة امتدادات ارتداداتها غير معروفة بالنسبة للشركات.. بينما القيادي في العدالة والتنمية، يتصور أنه لا يفترض الوقوع في فخ الاستدانة والعجز.. إنه يستمسك ب” الأصول” كأي أرثوذوكسي يؤمن بأن الظرفية مهما تقلبت لا يجب أن تنال من القناعات الأولى.
وبعبارة أخرى، بينما يسعى الأزمي إلي لعب دور “حارس المعبد”، بالتذكير بما يعتبرها بديهيات قانونية دون استحضار كبير للظرفية.. يتصدى أخنوش للعب دور “الإطفائي” Penser la situation à chaud.
هل سيحدث تحول في العقيدة الموازنية والمالية للدولة كما قد يعتقد قارئ لمقال أخنوش أم أننا سنبقى مخلصين لتلك الأرثوذوكسية المالية التي قد يرى قارئ رد الأزمي أنه معتصم بها؟
بين الأسرة والدولة
مسألة التوازن الموازني التي يكرسها الفصل 77 من الدستور، تحيل على الفكر الليبرالي، الذي يعتبر أن الفاعلين الاقتصاديين يبنون توقعاتهم على أساس رؤية يحددها صاحب القرار السياسي، الذي يمكنه أن يتبني سياسة قائمة على الصرامة الموازنية أو يميل لسياسة موازنية توسعية بهدف تقليص البطالة، خاصة عندما تكون هناك ظرفية انتخابية مثلا.
هذا ما يفرض في تصور الفكر الليبرالي، عدم ارتهان الفاعلين لأهواء أصحاب القرار السياسي. ذلك يستدعي تكريس مبدأ المصداقية، عبر تأطير قانوني لسلوك أصحاب القرار، كما يلاحظ صديقي الاقتصادي، الذي يلاحظ أن ذلك أفضى إلي نوع من الدستورانية الاقتصادية.
وينسجم مطلب تضمين مبدأ التوازن الموازني في القانون الأسمى للدولة مع تحقيق هدفين: تناغم ووضوح القرارات التي تأخذها السلطات بهدف تحقيق الاستقرار الاقتصادي، من جهة، تقييد السلطة التقديرية للحكومة في ما يتصل بالموارد والنفقات، من جهة أخرى. يحيل التوجه الرامي إلى تقييد سلطات الدولة في الإنفاق، على صورة مافتئت تساوي بين الدولة والأسر، حيث يقال إن الدولة كما الأسرة لا يمكنها أن تتجاوز مواردها عند الإنفاق.
لا يكتفى بالتشديد على أنه لا يجب الإمعان في الإنفاق والاستدانة، كي تتحمل أعباء ذلك الأجيال القادمة، بل إن المدافعين عن التوازن، يؤكدون على أن الاستدانة تشكل عامل إزاحة للقطاع الخاص، على اعتبار أنها تنافس الشركات في سعيها للحصول على تمويلات من الأبناك.
لنكتفي بتشبيه الدولة بالأسرة، ذلك تصور يقوم، كما يقول صديقي الاقتصادي، على اعتبار أن الميزانية عبارة عن نفقات يتحملها المجتمع، والحال أن الدولة، باعتبارها صاحبة القرار الموازني تؤثر، على الضرائب والنفقات العمومية، على الاستهلاك والاستثمار والإنتاج والشغل وتوزيع المداخل. هذه سلطة غير متوفرة لرب الأسرة.
ولننظر لمسألة المديونية وتحمل الأجيال القادمة لتبعاتها. ذلك تصور يغفل بنية الدين، كما أن الأثر الإيجابي أو السلبي للدين العمومي لا يقاس بحجمه، بل بآثاره التوزيعية بين الفاعلين. ينبه صديقي، إلي أنه سواء كان الدين داخليا أو خارجيا، فإن لا يفضي بالضرورة إلي تحميل التزامات الجيل الحالي للأجيال المقبلة، ألا يساهم الدين في تمكين الأجيال القادمة من المدارس ومستشفيات و طرقا وبنيات تحتية. وقد رأينا كيف أن المندوب السامي للتخطيط، أحمد الحليمي، كان دعا إلى الاستدانة شريطة توجيهها للاستثمار.
ينطلق مبدأ توازن المالية العمومية من رؤية ليبرالية، تقوم على أن الأسواق ضامن لتوازن الاستعمال الشامل للموارد، بالتالي، تسند للدولة ضمن هذا المنظور حماية القواعد الميكرو اقتصادية وتلك التي تتعلق بالسياسة الموازنية والنقدية.
هاته الرؤية تتجاهل، في تصور صديقي، كون السياسة الاقتصادية لا يمكن بلورتها خارج الديمقراطية. فالسياسة الاقتصادية يفترض أن تكون محصلة تداول ديمقراطي، خاصة من قبل السلطات المنتخبة التي يفترض فيها الحرص على تحقيق العدالة الاجتماعية.
يقول صديقي الاقتصادي إنه لا يمكن رفع حصر العجز في حدود 3 في المائة والمديونية في حدود 60 في المائة من الناتج الداخلي الخام إلى مرتبة قانون فيزيائي.. لا دليل علمي يثبت أن تلك الحدود التي توصي بها المؤسسات الدولية والتي كرسها الاتحاد الأوروبي دون أن تتقيد بها الدول المكونة لها.. واجبة الاحترام من قبل جميع البلدان.. لا يمكن لتحديد السياسة الموازنية أن يخضع لإكراه مؤسساتي لا سند اقتصاديا أو سياسيا له.
في أزمة 2008، أثيرت مسألة الإنقاذ المالي بحدة، وآل البعض على نفسه إعادة النظر في الاحتكام الأعمى للسوق، غير أنه ما إن بدأت الاقتصاديات في التعافي حتى تجلى شعار “تعميم الخسائر وخوصصة الأرباح”.. .
وعندما يجرى الحديث في المغرب عن عودة الدولة، بعدما كان الكثيرون يواجهونها باليد الخفية للسوق، فإن ذلك لا يعني، إلي أن يثبت العكس بالأفعال المفحمة، تبني سياسة ذات جوهر كينزي. فالمفكر الاقتصادي جون ماينارد كينز، كان يعتبر، كما يلاحظ صديقي الاقتصادي، أن أكبر عيوب أي نظام، هي البطالة والفوارق، وكل سياسة لا تسعى إلى معالجة هذين العيبين لا يمكن أن تحمل وصف الكينزية، حيث أن الباقي لا يعدو أن يكون بحثا عن الأب.
هدف تلقيص البطالة والفوارق، قد لا يكون قابلا للتحقق في بلد مثل المغرب، بسياسة موازنية توسعية تقوم على دعم النشاط عبر العجز والمديونية والتضخم حتى إن كان “جيدا” كما يقول الحليمي، بل تمر عبر وضع مقدمات ضرورية من قبيل تفعيل الإصلاح الضريبي القائم على الإنصاف ومحاربة الفساد المنتج للريع..
ألم يقل رئيس الحكومة إن المغرب يخسر سنويا ما بين 5 و7 في المائة من الناتج الداخلي المحلي بسبب الفساد؟.. لنلاحظ أن ذلك يمثل ما بين 50 و70 مليار درهم.. وفي حده الأقصى يمثل رقم 70 مليار درهم.. ضعف سقف الاقتراضات الخارجية المرخص بها للحكومة في العام الحالي.. ويمثل حوالي ضعف ما تمت تعبئته إلى حدود الآن لفائدة صندوق مكافحة جائحة كورونا.. على الأقل إذا اقتصرنا على المساهمات والتبرعات المصرح بها نقدا.
أليس التعاطي الحازم مع الرشوة والريع والوضعيات المهيمنة كفيلا بأن يشكل مدخلا لأية سياسة للإنقاذ بعد كورونا.. قبل الحديث عن سياسة الميزانية؟.. ألم يؤشر النقاش حول تجريم الإثراء غير المشروع بعد إسقاط العقوبة الحبسية من المشروع على أن داء العطب قديم؟
سيكون مفيدا تناول القضية في جميع أبعادها المالية والاقتصادية والسياسة والاجتماعية.. فالبعد المالي قد يكون ثانويا في النقاش العمومي في المغرب عكس بلدان أخرى.. فحسم الموقف السياسي والثقافي من مالية الدولة، مدخل أساسي من أجل تعبئة الموارد.. التي تعبر عن سلوك مواطن يرتب واجبات وحقوقا.
المفتش العام للقوات المسلحة الملكية وقائد المنطقة الجنوبية يجري لقاء مع وزير الدفاع الموريتاني
بتعليمات سامية من الملك محمد السادس، القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة…