محمد الطائع*  

هل فعلا فاجئ فيروس كورونا والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي ستصاحبه، صناع القرار في العالم؟ لا اعتقد ذلك. فمنذ ست –6- سنوات على الأقل تحدثت كل التقارير الوازنة لمراكز الأبحاث ( الحقيقية) أن العالم مقبل على كارثة اقتصادية وركود وافلاس مالي- بنكي يتجاوز أزمة 2008 بل يتجاوز حتى أزمة 1929 . ذات الدراسات والتحاليل المختلفة، تكلمت عن جيل جديد من الحروب، وبما ان الهوية في زمن العولمة تحولت الى معطى حاسم في مستقبل العلاقات الدولية، فانه من الراجح جدا ان يصطدم الشرق (بكل حمولته الحضارية) بقيادة الصين وروسيا مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي، وهو صدام ” لابد منه” لرسم مستقبل جديد متعدد الأقطاب والهويات. عالم ما بعد ” أحادية القطبية” ونهاية سياسةواقتصاد ما بعد 11 شتنبر 2001.الذي لم يكن معلوما بالدقة والضبط، هو كيف ومتى تحديدا سيقع ” الذي يجب أن يقع”، رغم أن المؤشات كلها تفيد أن ذلك سيكون بين 2020-2022

نهاية عالم.. وليس نهاية العالم

أن يكون مصدر وأصل “كورونا فيروس”– كفيد 19-، نتاج مختبرات بحثية، أو هو ” جواب” تلقائي للطبيعة، فهذا لا يهم اطلاقا. فالمستعجل اليوم هو التصدي للوباء وتطويق انتشاره وحفظ الأرواح والمجتمعات، فلاحقا سيتضح لامحالة مصدر هذا الوباء وكيف استطاع أن تخرق سماوات القارات كلها. الأكثر أهمية راهنا، هو تطويق واستباق الكوارث العظمى للوباء، خاصة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. لا أحد بإمكانه أن يتنبأ كيف سييكون الغد، فمن اخطر ما نعيشه اليوم ان المستقبل مفتوح كليا على المجهول، السيناريوهات الاستباقية ماعادت تصلح ولم تعد تصمد. لم يتردد الكثير من رؤساء الدول في وصف ما يجري بالحرب ( على رأسهم الرئيس الفرنسي ماكرون). وهي فعلا كذلك( حرب عالمية ) مع اختلاف الوصف والاختزال (حرب اقتصادية- حرب صحية- حرب نفسة – …). نعيش المرحلة/ الدرجة الثانية، من الحرب العالمية الثالثة، باعتبار أن تبعات ما يسمى “ الربيع العربي” والحرب في سوريا، تجسد المرحلة/ الدرجة الأولى لهده الحرب ،في انتظار الدرجة / المرحلة الثالثة التي قد تذهب للاحتكاك والاصطدام  العسكري المباشر بين الصين بتنسيق مع حلفاءها في مواجهة أمريكا ومن معها.  

في 11 -11-2001، اعلن الرئيس الأمريكي ” بوش” على النهاية الرسمية للحرب الباردة ،وانتصار الولايات المتحدة الأمريكية على الاتحاد السوفياتي وتفكيكه. وأعلنت أمريكا تزعمها ل” النظام العالمي الجديد” المبنى على ” قيم الراسمالية والاستهلاك والحرية” والذي يقابله حسب “بوش” عالم ” الانغلاق والشر. هنا لابد من استحضار الدورالكبير لتنظيم ” القاعدة” في رقعة الشطرنج الجيوستراتيجية، وكيف ساهم اتباع أسامة بن لادن والعربية السعودية في كسر شوكة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي- الشيوعي( على أرض أفغانستان) وخلخلة الشرق بصفة عامة. وبعد 20 سنة من هيمنة الولاية المتحدة الأمريكية بمعية الشركات المتعدد الجنسيات، وتغول شركات ” الاقتصاد الأسود” وعولمة الأسواق وسطوة لغة المال وحرب القيم و انتشار الاقتصاد ” المزور- المغشوش، ورغم كل ذلك، لم تنجح أمريكا في التصدي للصعود الصيني و الصمود الروسي ، حتى أنداعش” انهزمت شر هزيمة ولم تستطع أن تؤدي نفس الوظيفة التي أسدتها ” القاعدة” سلفا. فما نجح فيه “بلادن” في أفغانستان، فشل فيه ” البغدادي” في سوريا-العراق.  

نعيش على إيقاع تحولات سياسية دولية جارفة، وركود اقتصادي وانهيار مالي غير مسبوق، الجميع يترقب ويتحسس مشاهد صادمة و أكثر اثارة في خضم التحولات الجارية. أن يدخل الأطباء الكوبيون والروس و الصيينيون، الى إيطاليا وغيرها من العواصم الغربية للنجدة والاسعاف، ليس حدثا عابرا البتة. ان يهب حفدة عتاة الاشتراكيين والشيوعيين ( لينين،ماركس،كاسترو، ماو تسي تونغ) لإنقاذ ورثة/ أحفادروما وأثينا وبابا الفاتيكان، فهذا حدث تاريخي ضخم جدا وعظيم وغير مشهود، خصوصا اذا نظرا الى كيفية تعامل الاتحاد الأوروبي مع إيطاليا واسبانيا في محنتها مع الوباء. لا يختلف اثنان ان الكيان الأوروبي، لن يصمد طويلا، تجمعا سياسيا وعملة اقتصادية. حتى فرنسا، انكشفت أمام العالم، وباتت ” صغيرة للغاية” و متخلفةعلى المستوى الصحي/الطبي و طريقة تعاطيها مع الأزمة، قياسا مع دول أوربية أخرى، حتى أن هناك من وصفها بكونها ” دولة العالم الثالث في أوروبا“.

صحيح، ان الشرق ابان عن قوة كبيرة وجبارة (دون اغفال القوة الديمغرافية) وحنكة في إدارة ازمة كورونا حتى اليوم. وبالمقابل تعرى كليا وهم ” العولمة” والاقتصاد ” المغشوش”، ولاحظ العالم قاطبة أن أوروبا عادت قزما وطاووسا بلا ريش. فمن الدروس الأولى لوباء و جائحة كورونا، (وان كان سابقا لأوانه استخلاص الدروس) عودة التاميم، وحضور الدولة القوي مع بعث الدول الوطنية، خصوصا في القطاعات الاستراتيجية الحساسة وعلى راسها التعليم والصحة والبحث العلمي، الى جانب الرهان والدود دائما على القيم وتحصين العنصر البشري والاستثماري فيه، باعتباره الرأسمال الحقيقي دون منازع.  وفي هذا الاطار، لا يجب اغفال الدور الكارثي الذي لعبه التقنوقراط والخراب الذي زرعوه في كل مكان مع رجال الأعمال، في تخريب السياسة، كفعل نبيل، وتم تسليع كل شيىء بما فيها العلاقات الإنسانية والارث الحضاري. وعليه، فمن حسنات هذه الأزمة، ان صح القول، هو “طرد “ التقنوقراطورجال الأعمال من الحقل السياسي وهيمنته عليه، وإعادة الاعتبار للفاعل السياسي النزيف، الحامل للمشروع والقيم. فالسياسة علم وله قواعد. السياسة حوكة وفعل نبيل وليس تجارة ومزاد علني. فشتان ما بين رجل التجارة ورجل السياسية.

“جائحة” اقتصادية واجتماعية القيم المغربية ومواجهة

واهم جدا، من يعتبر أن العالم كما تركناه في مارس 2020، سيستمر كما كان بعد ذلك. لقد انتهى عالم ..نعم انتهى عالم ولم ينتهي العالم. العالم مستمر وسيبقى كذلك، غير أن النظام الراسمالي والبنكي والهيمنة الكلية لاميركا انتهت ..ولنقل هي في طريقها للنهاية. المستقبل للاقتصاد الحقيقي المبني على دورة الإنتاج الطبيعية، وللقيم الحضارية و عودة مظفرة للعلوم الإنسانية، خصوصا علوم الانتروبولوجيا،الاجتماع، التاريخ والفلسفة. انه حدث تاريخي رهيب فعلا ، أن ترى السماء دون طائرات تطير وفنادق فارغة وحدود مغلقة ، وروما و أثينا و مدريد وباريس وكبريات العواصم خالية من البشر..شبه مقفرة؟ انه حدث تاريخي رهيب فعلا، أن ترى جيوش الدول تجوب الشوارع، وملاعب كرة القدم التي كان صخبها يملىء الأرض، فارغة من البشر دامسة مدرجاتها بلا نور؟ رهيب حقا، ان يعود الجميع في كل بقاع الأرض الى الاعتكاف في منازلهم والاستمتاع برائحة الخبز المنزلي؟ وهو حقا غريب أن يظهر مرض/ فروس قاتل يبعد الناس عن بعضهم البعض ويكرس عزلتهم اجتماعيا، فلا عناق ولا قبل، مرض فتاك، لا يستثنى أحدا مهما بلغ من سطوة ومال ؟؟  ما يجري أمامنا وحولنا مذهل ومدهش، أحداث عظمى ستغير لا محالة مستقبل العالم ومستقبلنا نحن في هذا العالم، أجيال الغد ستكون أمامها تحديات جمة. غدا ستكون المعركة على ثمن الدقيق أكثر من معركة الناس على شراء تذكرة مشاهدة مباراة في كرة القدم. من الصعوبة بما كان أن نشاهد غدا، أطفالا صغار في مدرجات الملاعب في منتصف الليل، أوهرولة الناس للانفاق المجنون على مظاهر الزينة والتبضع الهيستري على منتجات يوم “الجمعة الأسود” بلاك فيرداي”. غدا، ستهزم ميزانية تكاليف وفاتورة المياه كل مصاريف عمليات التجميل.

الراجح، ان الناس ستعود لا محالة الى جذورها. سيقع ذلك بالتدريج، هم اليوم في مرحلة إعادة الاكتشاف. لحظة إعادة الاعتبار للمفاهيم والمعايير. ساد وقت طويل، اختلطت فيها المفاهيم وتم تمييعها كما تم قلب المعايير والاستخفاف بالجدي منها والراسخ والراجح. المجتمعات الشرقية، ستكون محظوظة للغاية، لكونها تملك حضارات لا تنضب بالقيم. ديمغرافية وخصوبة الانسان والمجال. الغرب سيعاني كثيرا على هذا المستوى، قد يمتد الأمر لسنوات. في هذا الصدد لا أتوقع أن يصادق الفرنسيونمستقبلا على قانون (الوالد أ- والوالد ب-) . هكذا ستتحول قضية الهجرة الى ” أم المعارك” .. الكل سينكمش على نفسه، يتقوقع على ذاته ويعود لجذوره، إعادة قراءة الأشياء والتاريخ. هذا وغيره، سيدخل الناس في صدمات مترابطة، إعادة اكتشاف الحياة والنفس حيث يتطلب الأمر قوة كبيرة لمواجهة استفزاز الوقت/ الزمن. الكثير من المظاهر و السلوكات ستنقرض، كل ما له علاقة بالاقتصاد المغشوش سيسقط، لن يستمر سوى الاقتصاد الحقيقي، وسترتفع أسهم ما هو حقيقي في الانسان والعلاقات، والقيم الإنسانية والاجتماعية ستكون على راس الأولويات.

مغربيا، لا شك أننا سنمر بمحك كبير وسنواجه معضلات وتحديات كبرى وقد تكون الكلفة باهضة، اقتصاديا واجتماعيا وحتى نفسيا. الاقتصاد المغربي وبما انه مرتبط بسلسلة الاقتصاد العالمي، سيتضرر بالغ الضرر من الركود التام لأهم القطاعات المحركة للاقتصاد الوطني، وعلى راسها السياحة،الفلاحة،تحويلات المهاجرين، وصناعة السيارات و النسيج والصناعات التقليدية. وضعية صعبة جدا، سترخي بضلالها على الواقع الاجتماعي الذي يظل منفلتا من حيث الكلفة وردة الفعل. صدمات اجتماعية صعب تخطيها بالمقاربة الاحسانية فقط، من اليوم فصاعدا، فإننا نلج مرحلة” بالغة التعقيد والمتضرر الأول سيكون حتما القطاعات الاجتماعية الهشة أصلا والتي كانت حتى الأمس القريب تعاني شبه افلاس. ومن إيجابيات الوضع في المغرب، هو الموقع الجغرافي، وأيضا الاستقرار المؤسساتي، زد على ذلك أهمية الاستثمار وتثمين وتحريك القيم المغربية، يمكنها أن تلعب دور الواقي وتخفيف شدة الصدمات. هده القيم، تبق متاحة اليوم أمام الجميع ومفيدة للجميع ويمكن تعميمها على الجميع. قيم التضامن،الاخاء، التسامح، حسن الجوار الارتباط العائلي، روح الجماعة ، الاسرة. العودة للكثير من التقاليد المغربية، طعاما ولباسا وتجمعا. هذا يعني، ان المغاربة سيدركون، ان مخططات التنمية وبرامجها على اختلاف أنواعها واشكالها وكذا عمليات الخوصصة والسياسات المتبعة في البلاد ولعقود وفي شتى المجالات خاطئة، وحان وقت مراجعتها بكامل الجدية والتواضع، بل وجب إعادة النظر في كل شييء، كل الحقول والمجالات بلا استثناء بأفق وطني حقيقي واسع وخالص. ومادام الشيىء بالشيىء يذكر، فمن الأجدر اليوم، أن لا يلتفت المسؤولون المغاربة الى توصيات تقرير البنك الدولي حول ” آفاق مغرب 2040 ” باشراف جون بيير شوفور، وترك ذلك، فجل ما جاء به فريق العمل أصبح متجاوزا للغاية. ومن نقاط قوة المغرب أيضا، هناك، كثلة بشرية وازنة من السواعد الشبابية تستثمر في عمليات التطوع، وجيل السبيعينات تربى جله في دور الشباب والمخيمات على قيم التطوع، قبل ان تزحف الراسمالية وقيمها في تسليع ” التطوع”، وحتى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مخطئة في هذا الباب..باختصار من الراجح جدا عودة الناس لبعض صفاء النفوس كما عادت السماء والطبيعة الى بعض نقاءها.  النزهاء من الخبراء والباحثين الدوليين وحتى الوطنيين، ظلوا يرددون لسنوات، استحالة استمرارية النظام العالمي على وقع الوتيرة والطريقة التي تشتغل بها الابناك المركزية والتجارة العالمية واستنزاف الموارد الطبيعية وتسليع القيم وهيمنة الشركات المتعددة الجنسيات على كل شييء،.كان الكثير من ” العقلاء” يرفضون الصمت أو المشاركة في الفساد أو التغاضي عن الكوارث المحدقة بمستقبل البشرية والدول، وكانوا يقابلون بالاستخفاف والازدراءوالتجاهل ان لم يكن بالاضطهاد (هنا فقط أسوق كمثال البروفسور دي ديي رالوولت)، فهل فيروس كورونا، لعبة حرب بيولوجية –جرثومية قذرة بين القوى العظمى أم هو غضب الطبيعة؟؟

لا يهم راهنا، المطلوب اليوم هو الوعي والانخراط الإيجابي والتكيف مع ما استجد من الوضع، فكرا وسلوكا. أن ما ينتظرنا غدا، صعب جدا جدا ..لقد انتهى عالم ..وكلنا نعيش على مخاض عسير لعالم جديد مفتوح على كل المجهول، وهنا اختم بكلام وزير الداخلية ، عبد الوالي لفتيت، ابان اجتماع لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة بمجلس النواب، يوم 23/03-2020 بمناسبة المصادقة على مشروع القانون رقم 2.20.292 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية، حيث قال ” كلنا في سفينة واحدة، اما أن ننجو جميعا أو سنغرق جميعا”. هذا التصريح اعتبره شخصيا يلخص كل الكلام، واعتبره أعمق وأدق واصدق كلام لمسؤول مغربي منذ بداية الازمة الى يوم الناس هذا.

ختاما، فما خططته في ثنايا هذا المقال ليس انطباعات ولا هو ارتسامات، هذا وصف حال. فما بعد “كورونا” لن يكون مطلقا كما قبلها.  كل البشرية اليوم، على اعتاب كتاب تاريخ جديد.

*صحافي،كاتب، ومحلل سياسي

التعليقات على كورونا يضع البشرية أمام تاريخ جديد: نهاية عالم.. عودة للجذور مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

اشتباكات بين الجمهور الفرنسي والاسرائيلي في مدرجات ملعب فرنسا الدولي أثناء مباراة المنتخبين

شهدت مدرجات ملعب فرنسا الدولي مناوشات قوية بين الجماهير الفرنسية ومشجعين إسرائيليين خلال م…