يُعيد نشطاء مغاربة كانوا مرتبطين سابقاً بحركة 20 فبراير توجيه تركيزهم نحو الأنشطة الثقافية بعيداً من المطالب السياسية العلنية.
في 12 ديسمبر 2015، أدّى مسرح المحڭور مسرحيته “بحال بحال” في شوارع عين السبع، إحدى ضواحي الدار البيضاء، أمام مئات الأشخاص. تتطرق المسرحية إلى موضوع العنصرية في المغرب التي تستهدف المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء، وقد شُجِّع المشاهدون على التدخّل خلال المسرحية وتحديد مسار الأحداث. أنشئ مسرح المحڭور في الدار البيضاء في العام 2012 على يد حسني المخلص، الناشط السابق في حركة 20 فبراير. ومنذ ذلك الوقت، تنظّم الفرقة عروضاً في شوارع العديد من المدن المغربية تتطرّق فيها إلى مواضيع الفساد القضائي، والعلاقات الجندرية، والانتخابات.

مسرح المحڭور هو واحدٌ من العديد من منظمات المجتمع الأهلي التي أنشأها نشطاء سابقون في الجناح اليساري العلماني لحركة 20 فبراير بعد مغادرتهم الحركة عندما بدأت بالانحسار. كانت حركة 20 فبراير تياراً غير هرمي متنوّعاً على المستوى الأيديولوجي يحظى بالدعم من الشباب اليساري فضلاً عن التيار الإسلامي الأكبر في المغرب، العدل والإحسان، من جملة أطراف أخرى. لقد يعني تراجع احتمالات اندلاع احتجاجات واسعة النطاق في المغرب.

بعد العام 2011، بدأ الفاعلون في المجتمع الأهلي يتحوّلون نحو الميادين الثقافية، مثل المسرح والآداب، وركّزوا في شكل أكبر على العمل في المساحة العامة. ينظّم هؤلاء الأفرقاء أنشطتهم بوتيرة متزايدة في الشوارع، بعدما أدركوا، من خلال تجربتهم في حركة 20 فبراير، أن اليسار السياسي في المغرب يفتقر إلى قاعدة نفوذ حقيقية. فقد غادرت أيضاً جماعة العدل والإحسان الإسلامية التي شكّلت مكوّناً مهماً من مكوّنات حركة 20 فبراير، الحركة نحو أواخر العام 2011. وجاء النصر الانتخابي لحزب العدالة والتنمية الإسلامي في نوفمبر من العام نفسه ليسلّط الضوء أكثر فأكثر على القدرة التنظيمية للإسلام السياسي في المغرب وضعف اليسار السياسي. بعدما وجد هؤلاء الأفرقاء أنهم يفتقرون إلى الدعم الكافي من القواعد الشعبية من أجل التعبئة، بدأوا يرون في انخراطهم في المجتمع المدني وسيلةً لبناء قاعدة شعبية – أي من خلال العمل مع المجتمع بدلاً من العمل ضد النظام. على النقيض من حركة 20 فبراير، لاترفع هذه المنظمات مطالب واضحة إلى النظام، بل تحاول تحفيز التغيير على مستوى القواعد الشعبية، و”تثقيف” الناس عن مسائل تعتبرها محورية لتنشئة مواطنين يتمتّعون بالحس النقدي. هذه المقاربة للمسؤولية الفردية تترك الدولة خارج المعادلة.

لذلك انتقلت جهات فاعلة عدّة في المجتمع الأهلي إلى المساحة العامة من أجل الوصول إلى جماهير جديدة وإشراكها، ونشر الوعي لدى شرائح جديدة من السكّان. وقد أصبحت المواضيع الثقافية من الوسائل المفضّلة لدى هذه الجهات. بدأ نادي الوعي الطلابي، وهو عبارة عن منظمة طالبية في الدار البيضاء، تنظيم جلسات قراءة في كلية العلوم في جامعة عين الشق بالدار البيضاء في 2007. يُشار إلى أن عدداً كبيراً من أعضاء المنظمة شارك في حركة 20 فبراير، وفي العام 2012، بدأت المنظمة نقل جلسات القراءة إلى المساحة العامة. حتى الآن، نُظِّم نحو مئة تجمّع من هذا النوع في شوارع الدار البيضاء، بمشاركة مئة إلى ثلاثمئة شخص، بحسب ياسر بشور، أحد كبار المنظّمين1. يهدف النادي إلى تحفيز الطلاب والجمهور العام لجعل القراءة نشاطاً يومياً.

ثمة عوامل مؤسسية تقف أيضاً خلف استيعاب الحركة الاحتجاجية في المجتمع الأهلي. فالأحزاب السياسية أصبحت غير جاذبة، ويتعذّر الوصول إليها في معظم الأحيان، مايجعل المجتمع المدني الخيار الحيوي الوحيد للحصول على شكل من أشكال المشاركة السياسية. عددٌ كبير من النشطاء السابقين انضم في البداية إلى أحزاب سياسية في اليسار وأقصى اليسار، مثل الحزب الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي. بيد أن هذه الأحزاب فشلت في استيعاب معظم هؤلاء النشطاء السابقين الذين اعترضوا على هرميتها، وهيكلياتها الداخلية البائدة، وغياب الديمقراطية داخل الأحزاب. غادر معظم الأعضاء الشباب الجدد في غضون عام من انضمامهم إلى الأحزاب، وبدأوا إنشاء منظمات أهلية جديدة أو الانضمام إلى المنظمات القائمة2.

لقد شجّعت الدولة هذا الأمر. فالدستور المغربي الجديد الذي أُقرّ في العام 2011 يعزّز مكانة المجتمع الأهلي. ينص الدستور على أن المنظمات غير الحكومية تساهم في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وفي تفعيلها وتقويمها (الفصل 12). وعلى السلطات العمومية إحداث هيئات تشاورية بغية إشراك الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقويمها (الفصل 13)، لكن هذه الهيئات لم تبصر النور حتى الآن. وللمواطنين أيضاً الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع (الفصل 14)، وفي تقديم عرائض إلى السلطات العمومية (الفصل 15). يفرض الدستور إصدار قوانين لتنظيم هذه الحقوق الجديدة، لكن على الرغم من تقديم مشروعَي قانون حول حقوق رفع العرائض واقتراح مشاريع قوانين، إلى مجلس النواب في أبريل 2015، لم يتم إقرار أي منهما حتى الآن. في حال تطبيق الدستور الجديد كما يجب، من شأنه أن يمنح المجتمع الأهلي مجالاً وافياً لتوسيع مشاركته السياسية، الأمر الذي يحفّز بدوره المواطنين لإنشاء مجموعات أهلية والانضمام إليها. وينص الدستور أيضاً على تعزيز التعاون بين مؤسسات الدولة والمجتمع الأهلي، مايسهّل على الدولة فرض سيطرة أكبر على هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين. في المدى الطويل، غالب الظن أن هذه التنازلات للمجتمع الأهلي ستدفع بعدد كبير من الجهات المدنية الفاعلة إلى التوقّف عن التشكيك في تركيبة السلطة السياسية الراهنة، لابل إلى السعي إلى الإفادة من الفرص السياسية التي تتيحها الدولة.

لقد تقبّل النظام أنشطة الفاعلين الجدد في المجتمع المدني، على غرار مسرح المحڭور وسواه من التنظيمات التي أنشأتها حركة 20 فبراير – مثل حركة أنفاس الديمقراطية ومعهد بروميثيوس للديمقراطية وحقوق الإنسان – لكن لايجب اعتباره انحساراً في القمع الذي تمارسه الدولة. على العكس، ازداد القمع بحق منظمات ونشطاء حقوق الإنسان منذ العام 2013. ويستهدف في شكل أساسي الجهات الفاعلة التي تنتقد النظام الملكي أو تتطرق إلى مسائل حسّاسة مثل وضع الصحراء الغربية، إذ يُعتبَر أن مناقشة هذه المسألة تشكّل تهديداً لسلامة الأراضي المغربية. في العام 2014، فُرِض حظر على أكثر من ستين نشاطاً من تنظيم الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وهي هيئة مستقلّة. وقد مُنِع المعطي منجب، رئيس جمعية “الحرية الآن” التي تدافع عن حرية التعبير، من السفر، ولم يُرفَع حظر السفر عنه إلا بعدما نظّم إضراباً عن الطعام.

يعني القبول بهذه المبادرات الأهلية الجديدة أن النظام ينظر إلى هذه المجموعات والمنظمات بأنها أقل تهديداً له، ويرحّب بالتركيز المتزايد على الثقافة على حساب المطالب السياسية العلنية. في شكل عام، لم تتجاوز هذه الجهات حتى الآن أية خطوط حمراء. فعلى سبيل المثال، تمكّن مسرح المحڭور، خلال العام 2015 الذي شهد انتخابات محلية في المغرب، من عرض مسرحية عن موضوع الانتخابات في العديد من المدن في مختلف أنحاء المغرب من دون أن يتعرّض للتعطيل من الدولة. واقع الحال هو أن نسب الاقتراع متدنّية في المغرب، مايقوّض رواية الدولة عن الديمقراطية التشاركية، وترحّب السلطات على الأرجح بمسرحية تجعل الناس يتناقشون حول الانتخابات.

تركّز هذه المنظمات في شكل عام على التغيير التدريجي، وتساهم بهذا المعنى – عن قصد أم لا – في ترويج رواية النظام الملكي عن الإصلاح التدريجي. وهكذا فإن استيعاب النشطاء السابقين في المجتمع الأهلي، وتفكُّك المجتمع المدني إلى مجموعات متخصّصة، وغير مسيّسة في الظاهر، والمنطق المتبدِّل لهذه المنظمات فرض قيوداً تحدّ من احتمالات وآفاق اندلاع احتجاجات واسعة النطاق في المغرب. على الرغم من أن هذا النوع من الحراك تسبّب بتراجع حظوظ تنظيم احتجاجات حاشدة في المستقبل، إلا أنه قد يساهم في المدى الطويل في تغيُّر أنماط السلوك على مستوى القواعد الشعبية.

دورثه إنغيلك

عن مركز كارنيغي للشرق الأوسط

التعليقات على المجتمع المدني المتغيّر في المغرب مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

أخنوش من قمة الرياض: المغرب يتوفر على تصور متكامل ومبتكر لتدبير ندرة المياه يرتكز على 5 محاور رئيسية منها الطرق السيارة للماء ومحطات التحلية