عمان.. مدينة صيانة الألم

حسني المخلص

D388C636-7111-4FB4-B653-65D27B9BF2A9
ما إن خرجنا من سجننا الخمس نجوم وكأننا أمراء سعوديون مغضوب عليهم، حتى توجهنا رأسا إلى “وسط البلد”.. إلى مقهى جفرا التاريخي.. أول ما يشدك صوت عازف العود المبحوح وهو يردد ربيرتوار أغاني القضية العربية.. تشعر كأن الزمن عاد إلى الوراء وتجمد.. على الجدران وجوه شاحبة من فلسطين.. عليها أيضا صور لمحمود درويش بنظاراته الطبية وفيروز الحزينة على الدوام والشيخ إمام المكابر.. تفتح لائحة المشروبات فتجد مع كل صفحة مشروبات قصيدة بكائية لشاعر ما.. طلبت قهوة عربية كي لا أخرج عن السياق.. مرارتها امتداد لأجواء المقهى.. عائلات تحتسي الشاي وتشرب النرجيلة (الشيشة).. الأطفال يطوفون بين الممرات كأنهم ملائكة نزلوا للتو من سحب النرجيلة العالقة في السقف.

التحقت فتاة فلسطينة مع زميل لها.. حكت لنا كيف قضت 4 سنوات في السجون الإسرائيلية.. وكيف كانت بعد خروجها إحدى ضحايا حوادث دهس كان المستوطنون الإسرائليين يستهدفون من خلالها النشطاء الفلسطيين.. دخلت على إثرها في غيبوبة طويلة.. المغني ينشد: “شدوا الهمة الهمة قوية”.. والأصدقاء ينرجلون ويأخدون سليفيهات لتوثيق عودتهم المفاجئة إلى الذكرى.. أبو عنتر.. كان هو اسم زميل الفتاة الفلسطينية.. سألني هل ابنه هو من يدير المقهى الآن؟.. لستُ أدري أنا من المغرب.. أحسن ناس.. ثم بدأ يحكي.. أبو عنتر هذا كان أحد الحراس الشخصيين لياسر عرفات.. حكى كيف هرب يوما مع أبو عمار إلى هذه المقهى خوفا من ملاحقة النظام أيام عضبة الملك الحسين على الفلسطينيين.. يلتفت يمينا ويسارا وكأنه يتفقد المكان من جديد.. بادرته بالسؤال: ألا تحب هذا المقهى.. مطط شفتيه وحرك رأسه نافيا.. لماذا يا أبو عنتر.. الذكرى يا رفيق.. غير أنه يأتي من حين لآخر.. كيف لا والعرب من أبدعو الـ “قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل”.. هم شعب النوستالجيا بامتياز.. النوستيالجيا التي لا تعني في المعجم الإيتيمولوجي سوى العودة للألم.

لم أحب القهوة العربية.. مرة زيادة عن اللزوم طلبت شايا ورحت أراقب المكان والأشخاص.. أيقظني الأصدقاء من سهوتي.. علينا أن نذهب.. المغني كان يغني ” مبروك مبروك، ها الفرحة جمعتنا”.. لم أعرف على من كان يتهكم..ىعلينا أم على القدر.. بدا لي أن الوجوه المعلقة في الجدران لم تحب هذه الأغنية.. وحده الملك عبد الله كان مبتسما وكأنه متواطئ مع المغني.
أخدنا جولة في المدينة العتيقة.. وقفنا عند المسرح الروماني وتصرفنا كسياح مع الموضوع.. أخدنا طاكسي وعدنا إلى سجن الأمراء.
في الغد انتهى اللقاء الذي كان موضوعه كيف لبرنامج “ميد كيلتير” وهو برنامج أوروبي لدعم الثقافة أن يواصل في عمله في السنوات القادمة مع الأخد بعين الاعتبار دور الثقافة الاجتماعي والاقتصادي والتنويري.. أنتجنا الكثير من الكلام ومارسنا بعض هواياتنا المفضلة: هز الرؤوس والتصفيق لبعضنا البعض.. وأنهينا اللقاء برقصة الدبكة راجين من العلي القدير ومن الاتحاد الأوربي أن يساهم في تنفيس كربة الثقافة في العالم العربي.
هذا المساء تبدو عمان أقل حزنا.. ربما بفعل العرق الذي تجرعناه.. لكن مبانيها بألوانها الباهتة كقصة رسم لرسام تعيس.. تهمس في أذنيك: “تحرك، لا فرح هنا”.. سائق الطاكسي كان أسمه “ثائر”.سألته: ثائر على ماذا؟ أجاب: أنا مو دخلي.. بيَ وأمي سموني هيك.. ما تفلسف الموضوع.
على الرصيف كان شاب يعزف العود ويغني..”كل ذا كان لييييه؟”.. رميت “فكة” في قبعته.. وفكرت: عمان، مدينة تعمل على حماية الألم من الاندثار.

التعليقات على مغربي في الأردن.. عمان مدينة صيانة الألم مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…