خالد أمزال*
ظرف دقيق يجتازه المغرب منذ نهاية السنة الماضية، ففي الوقت الذي كانت أزمة التعطيل الحكومي ترخي بظلالها الثقيلة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كانت احتجاجات منطقة الريف وفي القلب منها مدينة الحسيمة ونواحيها، تزداد وتيرتها حدة يوما بعد يوم، خصوصا مع التجاهل المريب للسلطات المركزية والإقليمية لمطالب ساكنة هذه المنطقة، وبطء تدخلها لحل هذه الأزمة، والتلكؤ منذ البداية في نزع فتيل غضبهم، والذي تسبب فيه أساسا سوء تدبيرها لملف مقتل “محسن فكري”.
لكن الوضع استفحل أكثر عندما أمعنت السلطات في تغليب المقاربة الأمنية على ما سواها، فتم تخوين المتظاهرين والتشكيك في وطنيتهم بمباركة من زعماء الأحزاب السياسية المشكلة للأغلبية الحكومية، وعبر توظيف غير موضوعي وغير مهني للإعلام الرسمي، ولبعض الجرائد الورقية والمواقع الإلكترونية الدائرة في فلكه، والتي داومت على شيطنة هذه الاحتجاجات، واتهام رموزها بالخيانة والعمالة لقوى أجنبية، واستغلال الخطاب الديني داخل المساجد لتشويه صورة الحراك، عبر وصف المتظاهرين ومن يناصرهم بدعاة الفتنة والساعين لتفكيك الأمة، مع تكرار لازمة نعمة الأمن ومغبة الخروج عن طاعة وولاة الأمور. هذا إلى جانب الاستعمال المفرط للقوة المادية من طرف القوات العمومية خلال فض تجمعات المحتجين، مما حولها لأداة تعنيف وتنكيل عمياء، ليتم تتويج هذه المقاربة باعتقال زعماء الحراك وإصدار أحكام قضائية سريعة في حق بعضهم.
فما الذي يقع بالضبط بمنطقة الريف ؟ ولماذا عجزت السلطة في المغرب وعلى غير العادة عن احتواء هذا الغليان الشعبي بالحسيمة ونواحيها ؟ وما تداعيات هذه الأزمة على المغرب داخليا وخارجيا ؟ وكيف يمكن تجاوزها بأقل الأضرار الممكنة ؟
هذه عينة فقط من الأسئلة التي تؤرق كل منشغل بالوضع الداخلي للمغرب، وتجول في خاطر جميع المتابعين لهذه الأحداث الاستثنائية، والتي تعتبر بالمناسبة أطول احتجاج شعبي عرفه المغرب منذ الاستقلال، ومن المتوقع للأسف أن تسفر، في حال استمرارها، عن تشوهات عميقة وإضافية في الجسد السياسي المغربي.
في توصيف احتجاجات منطقة الريف :
لقد تابع الجميع كيف تحول حدث روتيني يقع تقريبا كل يوم لحدث استثنائي، فالشطط في استعمال السلطة والانتقائية في تطبيق القانون صار أمرا اعتياديا في تعامل الإدارة مع المواطن، لكن الذي جعل الأمر يأخذ أبعادا غير اعتيادية هو رد فعل رجل رأى في تصرف موظف بميناء الحسيمة “حكرة”، فألقى بنفسه في حاوية النفايات رابطا مصيره بمصير سلعته، فإما أن ينجوا معا أو يطحنا معا. فوقع المحظور، ومات بائع السمك، واندفع الناس في الحسيمة محتجين على عسف السلطة، رافضين العودة لمنازلهم إلى حين محاسبة المتورطين في هذه الحادثة.
ومنذ تلك اللحظة، أي يوم الجمعة 28 أكتوبر 2017، وقعت أحداث كثيرة : فقد تم تنظيم وقفات احتجاجية تنديدا بمقتل “محسن فكري” يوم الأحد 30 أكتوبر في عديد من المدن أهمها وقفات الرباط والدار البيضاء وطنجة، وفي نفس اليوم قام وزير الداخلية ووزيره المنتدب آن ذاك بزيارة للمدينة حاملا تعازي السلطات العليا لعائلة الضحية، كما تم تقديم أحد عشر متهما في هذه الواقعة أمام العدالة في فاتح نونبر2017. وظلت ومنذ ذلك الحين الوقفات والمسيرات الاحتجاجية تخرج بشكل يومي بمدينة الحسيمة ونواحيها، مع تجاهل غير مفهوم للأزمة من طرف السلطة، عدا بعض الإجراءات المحتشمة مثل إعفاء عامل الإقليم، إلى أن جاء يوم 15 ماي حيث عقدت الأغلبية الحكومية اجتماعا بمنزل رئيس الحكومة بحضور وزير الداخلية، تم فيه اتهام المحتجين بالريف بالنزوع الانفصالي وتلقي التمويل من الخارج، وتقرر فيه عدم التساهل مع الاحتجاجات التي تمس بثوابت الأمة، فجاء الرد سريعا من زعيم الحراك الشعبي بالحسيمة “ناصر الزفزافي” الذي دعا لخوض إضراب عام بالمدينة وتنظيم مسيرة حاشدة يوم الخميس 18 ماي، والتي مرت بسلام بفعل سلميتها وتجنب القوات العمومية الاصطدام بالمتظاهرين.
وفي يوم 22 ماي حل وفد وزاري مشكل من سبعة وزراء بإقليم الحسيمة في محاولة لتهدئة الأوضاع، لكن وبعد مقاطعة “ناصر الزفزافي” لخطيب الجمعة يوم 26 ماي ردا على اتهام هذا الأخير للمحتجين بإثارة الفتنة، صدر قرار اعتقال زعيم الحراك والذي تم فعلا يوم 29 ماي، وتلاه في اليوم الموالي توقيف أزيد من 70 شخصا على خلفية الحراك.
ومنذ تلك الخطوة التصعيدية من طرف السلطة وإلى حدود تاريخ خط هذه السطور، والجميع يرى أن احتجاجات الريف مدفوعة أساسا بمطالب اجتماعية، وأن الدافع السياسي شبه غائب عن المشهد الاحتجاحي، فالسلطة تصف ما يقع هناك بالاحتجاج الاجتماعي الذي سيتم معالجته عبر التنمية الجهوية، ونشطاء الحراك الشعبي بالحسيمة يرفضون تسييس مطالبهم، ويصفونها في الوثيقة التي تم تعميمها في 14 يناير 2017 بأنها مطالب حقوقية وقانونية واجتماعية واقتصادية. فهناك كما هو واضح إجماع من طرفي الأزمة بأن البعد الاجتماعي هو الطاغي، وأن الاستجابة لتطلعات الساكنة في عموم منطقة الريف كفيلة بحلها، والمشكل يبقى فقط في طريقة وتوقيت الاستجابة، فالسلطة تعد بتسريع وتيرة التنمية بالمنطقة، وترفض التدخل في سيرورة المتابعات القضائية للمعتقلين بدعوى فصل السلط، أما نشطاء الحراك فيطالبون بالإطلاق الفوري لسراح المعتقلين، والتنفيذ الاستعجالي للمطالب التنموية.
من السهل فهم إصرار السلطة على وصف احتجاجات منطقة الريف بالاجتماعية، لا استثناء فيها سوى طول مدتها بالمقارنة مع احتجاجات أخرى كأحداث سيدي إفني صيف 2008، وذلك للتغطية على الدوافع السياسية الطبيعية الكامنة من ورائها. ومن اليسير كذلك تفهم إصرار الحراك على الطابع الاجتماعي لمطالبه ورفض إلباسها ثوب السياسة، حتى لا يمتطي الاحتجاجات أي فصيل سياسي، وحتى يتم إبعاد شبهة مناكفة السلطة على مستوى طبيعة نظام الحكم وخياراته.
لكن من هنا بالضبط يبدأ مشكل أزمة احتجاجات منطقة الريف، فالتوصيف غير السليم يؤدي حتما للمعالجات القاصرة، فالأزمة في جوهرها سياسية، والمطالب الاجتماعية التي ينادي بها نشطاء الحراك هي نتاج سوء تدبير السلطة للسياسات العمومية بهذه المنطقة خصوصا، وبجميع ربوع المغرب عموما. فالسلطة المركزية وتابعتها المحلية وللأسف قد قدمت استقالتها ومنذ زمن من أهم وظائفها وأبرز أسباب ومبررات وجودها، وهو تقديم الخدمة العامة للمواطن، والإشراف على حسن تدبير المرفق العمومي، والسياسة كما هو معلوم تعني في أبسط تعريفاتها فن تدبير الشأن العام وضبط علاقة الحاكم بالمحكوم، وتوزيع الموارد والنفوذ، وبالتالي فعدم قدرة السلطة الحاكمة بالمغرب على توفير شروط العيش الكريم للمواطن، عبر تمكينه من الولوج لسوق الشغل، والاستفادة من الخدمات التعليمية والصحية، وغياب التدبير التشاركي للشأن العام، واحتكار القرارات المؤثرة على معيش الناس من طرف البيروقراطيين والتقنوقراط القابعين في المكاتب المكيفة، مؤشرات دالة على فشل هذه السلطة سياسيا، لأن الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية التي تتخذها هذه الأخيرة هي صادرة أساسا عن منظور سياسي، يرتبط بطبيعة استراتيجيات التدبير والحكم التي يتم تبنيها.
إن الدافع من وراء احتجاجات الريف وغيرها من الاحتجاجات التي يعج بها الفضاء العام بالمغرب، يكمن جوهريا في طريقة التدبير غير السليمة لشيئين رئيسيين هما السلطة والثروة، فغياب مشاركة حقيقية في السلطة وسوء توزيع الثروة دفعا المواطنين الغاضبين بسبب تردي أوضاعهم المعيشية، لمقاطعة الاستحقاقات الانتخابية، وفقدان الثقة في الأحزاب وفي السلطة السياسية نفسها، واستغلال أي فرصة للخروج للشارع من أجل التظاهر تنديدا بالسلطة وبقراراتها الجائرة. لذلك فأي محاولة لوصف ما يقع هناك بالاحتجاج الاجتماعي المنزه عن السياسة هو تعمية على الحقيقة، وعلى طرفي الأزمة أن يُقِرَّا معا وبدون مواربة بأن المشكل سياسي، ويجب معالجته سياسيا وبدون تخوف ولا توجس، بعيدا عن ديماغوجية السلطة وعدمية بعض نشطاء الحراك.
في أسباب عجز السلطة عن احتواء احتجاجات الريف :
على مدى أزيد من ثمانية أشهر والسلطة تحاول إخماد احتجاجات منطقة الريف بكل الوسائل، وبعد مرور كل هذه الأشهر العجاف، لا زالت الأزمة قائمة بل تفاقمت واستفحلت لدرجة بات الجميع يتساءل عن سبب فشل الدولة في احتوائها، وسر عدم قدرتها على إيجاد الحلول القمينة بإنهائها كما جرت العادة. إلا أن هذا الفشل هو في الحقيقة عجز، عجز ذاتي وموضوعي عن فك هذه المعضلة بسبب العوامل التي نبسطها في النقط التالية :
• القراءة الخاطئة لأصحاب القرار السياسي بالمغرب لدوافع وحجم وتداعيات الاحتجاجات التي أعقبت مقتل “محسن فكري”، فهؤلاء اعتقدوا ولفترات طويلة أن الأمر لا يعدو أن يكون حدثا عابرا، وشكلا من أشكال الاحتجاج الاجتماعي الذي أصبحت جزءا من حركية الشارع المغربي، وسرعان ما ستخف حدته ويخبو وهجه، وأن المطالب التي يرفعها المحتجون في منطقة الريف لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها في كل المغرب، وبالتالي فالتعامل الأمني والتسويف كفيلان باحتوائها، متناسين أن هناك عنصرا حاسما لم يتم التنبه إليه، أو على الأقل تم التقليل من قيمته وهو عنصر الذاكرة التاريخية الجريحة للمنطقة، فالحسيمة كانت وكما هو معلوم مسرحا في الماضي القريب لصدام دموي بين ساكنة الريف والأجهزة الأمنية للسلطة، سواء خلال انتفاضة الريف الممتدة بين أكتوبر 1958 ومارس 1959، أو خلال أحداث 1981 و1984، مما جعل تظاهرات الريف الحالية تصبح نوعا من رد الفعل الآجل لأحداث اعتقدت السلطة أنها أصبحت في ذمة التاريخ.
لكن ما وقع في الماضي ما زال حيا بالنسبة لساكنة تلك المنطقة، وبالتالي فالحراك هناك ليس مدفوعا فقط برفض التهميش الاجتماعي والإقصاء المتعمد من مشاريع التنمية كما اعتقدت السلطات، ولا باستنكار الحكرة والطابع الاستعلائي لتعاملها مع المحتجين، بل السبب الرئيسي لاستمرار التظاهر هو استنزاف رصيد الثقة في السلطة المخزنية بسبب تجارب الماضي المريرة، ثم الرغبة في السير على درب الأجداد الذين ما انفكوا يقارعون السلطة المركزية دفاعا عن كرامتهم وعزة نفسهم، وذودا عن حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية وخصوصيتهم الثقافية، وبالتالي تَحَوَّل الاحتجاج لتكتل اجتماعي ذي طابع مناطقي، يستمد لحمته من الاعتزاز بالهوية الأمازيغية لغالبية ساكنة الريف، والاعتداد برموزها النضالية وعلى رأسها “محمد بن عبد الكريم الخطابي”، ويستلهم قوته من الذاكرة الغاضبة للمنطقة ومن جروح وأخطاء الماضي، ويستجلب زخمه من الواقع الاجتماعي والاقتصادي الحارق للريف، ومن حاضره المر الموسوم بالتهميش والتعنيف ثانيا، ليصير من الصعب احتواؤه كباقي الاحتجاجات بالإجراءات الدعائية أو الأمنية أو بالوعود التنموية.
• تضارب الرؤى حول كيفية معالجة أزمة الاحتجاجات بالريف، والذي يعكس وجود صراع مواقع حاد داخل الدائرة الضيقة لصناعة القرار، هذا التضارب الذي لا يعني أن هناك أطرافا تدعو للتهدئة والاستجابة لمطالب الساكنة، وأخرى ترى ضرورة الحزم في مواجهتها والعمل على منعها بكل الوسائل، فالأطراف كلها متفقة على عدم قبول فكرة لوي الحراك لذراع السلطة، وخطورة إقدام هذه الأخيرة على الاستجابة لمطالب المحتجين، حرصا على هيبة الدولة والاحترام الواجب لمؤسساتها السيادية، لكنها تتصارع حول الفوز بأحقية إدارة هذه الأزمة ومعالجتها، فتتعزز بالتالي مكانة هذا الطرف داخل تلك الدائرة الضيقة للسلطة.
قد يقول البعض أن هذا التضارب متعمد، وهو يدخل في إطار عملية توزيع الأدوار بين النافذين في السلطة، لإظهار أن هناك جهات غير راضية على السياسات المتبعة في التعامل مع احتجاجات الريف، لكن وبالمقابل لا يمكن تجاهل أن الأمر تجاوز حدود التمويه والمخاتلة، فهناك إصرار على الإضرار بصورة طرف معين في معادلة السلطة، عبر شيئين : أولهما معاكسة تصريحات الجهات الرسمية العليا المتمثلة في الملك، والمنزعجة من تأخر تنفيذ المشاريع التنموية بالمنطقة، وتصريحات رئيس الحكومة الداعية للتهدئة والتروي، وذلك من خلال الإفراط في استعمال القوة لفض المسيرات السلمية والوقفات الاحتجاجية، كما حدث خلال يوم عيد الفطر بالحسيمة، أو في الوقفة الاحتجاجية النسائية بالرباط يوم 08 يوليوز 2017.
وثاني شيء هو حرب التسريبات التي بات يعيشها المغرب في الأسابيع الأخيرة، فقد تم تسريب جزء من التقرير الذي أعده المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والذي يؤكد مزاعم التعذيب التي لحقت بمعتقلي الحركة الاحتجاجية بالحسيمة، إلى جانب تسريب رسالة “ناصر الزفزافي” زعيم الحراك من سجنه بالدار البيضاء، وآخرها الفيديو الذي انتشر على المواقع الإلكترونية ويظهر الزفزافي شبه عار خلال حصة تصوير بإحدى مراكز الاعتقال.
فكل هذه التسريبات وتلك المعاكسات تريد وبطريقة غير مباشرة إضعاف هذا الطرف النافذ، والذي يتحمل كما يبدو مسؤولية جزء كبير من الملف الأمني بالمغرب، وتعمل على إعاقة مسعاه لمعالجة أزمة الاحتجاجات حتى لا تتقوى مكانته وتزيد حظوته داخل الدائرة المصغرة للسلطة، مما تسبب حتما في فشل الدولة في فك هذه المعضلة، لكون عوامل التعطيل والعرقلة تتم في هذه الحالة بأدوات من داخل السلطة نفسها.
• الطابع الاستثنائي لاحتجاجات الحسيمة ونواحيها وما يرافقها من وقفات تضامنية في المدن الرئيسية بالمغرب، ليس من حيث الكم فحسب بل خصوصا من حيث الكيف، فالحراك كان وكما بدا لأول وهلة عفويا وغير منظم، إلا أنه تهيكل سريعا عبر الجموع العامة التي كانت تنعقد بفضاء “ميرادور”، تلك اللقاءات التي أفرزت لجنة مؤقتة للحراك الشعبي بالحسيمة تكفلت بتدبير الحراك بمنطق تشاركي وجماهيري بعيدا عن التراتبية التنظيمية المتعارف عليها، مما أعطاه ليونة في الحركة، وقدرة كبيرة على التعبئة والحشد بفعل اشتغاله ميدانيا بقيادة مشتركة، لكنه يخاطب السلطات والجماهير عبر شخص كان في البداية نكرة، لكنه تحول بفعل كاريزميته الملفتة وخطبه النارية وبتنامي زخم الحراك لشخصية مشهورة ومؤثرة.
هكذا أنتج الحراك الشعبي بالريف، وفي غفلة من الزمن السياسي المغربي، تنظيما شعبيا مفتوحا، يصعب تفكيكه أو حتى ضبطه، وأنجب وجها مغمورا فصار مشهورا هو “ناصر الزفزافي” الصوت الهادر للحركة الاحتجاجية وأيقونتها النضالية، والذي قدم نموذجا جديدا لقيادة الحركات الاحتجاجية لم يعرفه المغرب منذ سنوات خلت، نموذج لم تتعود السلطات على التعامل معه، فهو بدون انتماء سياسي، وتوجهاته الإديولوجية غير محددة، يستعمل لغة حادة وشرسة في الحديث عن مؤسسات الدولة، يتكلم بطلاقة بالعربية الفصحى وبالدارجة وبأمازيغية الريف، ويمزج في كلامه وبشكل غريب بين معجم يساري راديكالي ومعجم إسلامي معتدل، وبالتالي من العسير لجمه أو تطويعه أو حتى التحاور معه.
كما أن الحراك بالحسيمة ونواحيها عمد لإبداع أشكال احتجاجية جديدة من غير الممكن احتواءها، مثل عدم تحديد مكان محدد لانطلاق أو وصول المسيرات، وإطفاء الأنوار في المنازل، وإطلاق الزغاريد وترديد الشعارات من فوق السطوح، والقرع على الأواني أو ما يسمى هناك بـ “الطنطنة”، إلى جانب الاحتجاج في الشواطئ بل وداخل مياه البحر. وعليه من الصعب على السلطات احتواء هذا الحراك الشعبي بالريف بفعل طابعه النوعي، سواء على مستوى التنظيم أو القيادة أو طرق التظاهر، خصوصا وأن المقاربة الأمنية الاعتيادية التي تعتمد على الترهيب والترغيب، هي المسيطرة على العقل التدبيري للدولة خلال التعامل مع الحركات الاحتجاجية.
• المناخ السياسي العام المتسم بالتوتر والاستقطاب والذي صاحب انتخابات 07 أكتوبر ورافق المسلسل الممل لتشكيل الحكومة أو بالأحرى لتعطيله، هذا المناخ المستمر لحد الآن والذي من تداعياته المباشرة إنتاج مزاج شعبي غاضب من السلطة، وفاقد للثقة في العمل السياسي عموما، وفي الأحزاب ومؤسسات الدولة خصوصا، المتشكك علنا في نواياها الإصلاحية وفي قدرتها على التدبير الرشيد للشأن العام.
فليس صدفة أن الشرارة الأولى لاحتجاجات الريف اندلعت زمنيا بعد ثلاثة أسابيع من الانتخابات التشريعية الأخيرة، وكانت مؤشرا على تبرم الناس هناك من التطاحن بين حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة، وصراعهما الانتخابي الذي تسبب في تجميد العديد من المشاريع بالمنطقة، وانزعاجهم من تلاعب السلطات بإرادة الناخبين وتبخيسها لنتائج الصناديق.
إن تدبير الدولة الخاطئ لملف “التعطيل الحكومي”، وتوظيفها لكل الأدوات لمعاكسة مسعى عبد الإله بنكيران لتشكيل تحالف حكومي جديد على ضوء نتائج الانتخابات، أضر بمصداقيتها عند المواطنين عموما وعند ساكنة منطقة الريف خصوصا. كما أن انفصال الأحزاب عن قواعدها بهذه المنطقة، وضعف تأطيرها لساكنته كما هو الحال في عموم المغرب، أضعف مؤسسات الوساطة المجتمعية التي تكون عادة همزة الوصل بين المواطن والسلطات. هذا إلى جانب أن إجراءات السلطات المركزية والمحلية للتخفيف من الاحتقان، ومحاولات بعض الوجوه الحزبية تهدئة الأوضاع كما فعل إلياس العماري عبر “المناظرة الوطنية حول الوضع في الحسيمة”، باءت جميعها بالفشل ليس فقط لأنها لا تمس جوهر المشكل ولا تستجيب لتطلعات المحتجين، بل لأنها صادرة عن جهات لم يعد أحد يثق فيها، وبالتالي لم يبق هناك من حل أمام الغاضبين سوى الخروج للشارع من أجل الاحتجاج والتظاهر، ولم يعد بمقدور الدولة احتواء حركية الشارع هناك، لكون رصيد الثقة السياسية في مؤسساتها بلغ أدنى مستوياته.
هذه إذن هي طبيعة احتجاجات منطقة الريف، وتلك هي أسباب عجز السلطات عن احتوائها، لكن ماذا الآن عن تداعياتها على الوضع السياسي بالمغرب ؟ وكيف يمكن معالجة هذه الأزمة المزمنة بمنطق رابح-رابح ؟ هذا ما سيتم استكمال البحث فيه عبر الجزء الثاني من هذه الورقة التحليلية.
* محلل سياسي