عبد العزيز سلامي*
المثقف النخبوي، الباحث المتميز، لم يعد بإمكانه العيش في ظل الثقافة الشعبوية. فبينما هاجر للافتراضي، باعتباره قيمة ثقافية متميزة، تتداول المعلومة بشكل محدود، ليشكل بذلك سلطة و محور الإحالة للصواب و الخطأ، و لتصحيح مسارات الشعوب، وجد نفسه هو الآخر خاضعا لشروط التقنية و المعلومة الشعبوية والمتداولة بشكل جماعي، من دون أي قيمة مضافة للثقافة أو العلم أو المجتمع. وجد هذا المثقف نفسه، غارقا في بحر من التناقضات، والتفاهات التي أدت به إلى التنازل عن دوره. حقيقة الأمر أنه لم يعد له من دور وسط هذا الخليط من الصراعات (الميدياتية)، التي تستمد شرعيتها من عدد المتتبعين لوسائطه التواصلية و التي يمكن إحصاؤها و تقييمها. فهي وفق هذا المنهج الستاتيستيكي، معبرة، عن الكَم و ليس الكَيف، إذ من الكم، يعيش الشعبوي، و يؤسس بذلك لفقدان الذاكرة و تهميش الرأي السديد و العلم و الزعامات التاريخية و التجارب. الشعبوي ناجح اجتماعيا لأنه كمي، و يفتقد لفكر مجدد، و ما يهمه هو تمديد الزمن و الربح من هذا المعطى، قبل أن يُكشَف أمره، بأنه مجرد إيديولوجي ساذج، و نخبويته عرضية مستفيدة من سيادة الجهل بالأمور. هكذا تنازل المثقف عن مساهمته في شيوع الشعبوية الجاهلة، الغاضبة أو المتأثرة بفعل معلومة أو حدث ما.
يتحدد مصير الشعوب بين نُخَبه العالمة بأمر الثقافة و السياسة و الفن، و ليس كل من تعلم أبجدية الحروف بإمكانه أن يصير قائدا. القيادة فن مخصوص بالطليعة التي تتنور بفعل احتكاكها بالثقافات التي وصلت لمستوى أفضل، و ليس التقليد. ما يهم المثقف هو الكيف و ليس الكم، و إن تحول الكيف إلى كم فهذه هي الغاية من نخبويته، هي أن يُشيع الخبر على العالمين، و يكون بذلك قد أدى مهمته كما ينبغي. لكن، في إطار هذا التوحش الليبرالي المكثف، و الذي يعتمد الإشاعة و الغمز و اللمز بالوسائط التواصلية، يكمن العَدو اللذوذ لهذا المثقف، إذ ما يمكن أن يبنيه في عشر سنوات من قيم، يمكن أن يُهدم في ساعة، بفعل intox معلومة مغلوطة، تهدف لتغيير الرأي العام حول مسألة اجتماعية، أو شخص بعينه.
إن الوسائل الضرورية لتحصين هذه المكتسبات الثقافية و الاجتماعية، باتت غير ممكنة، في عصر (التواصلية العالمية) التي صارت تتجاوز القارات، لتمد شخصا بمعلومة في غنى عنها، و تبدل قيمة بقيمة و تحول رأيا إلى قناعة و تهدم برنامجا تربويا بفعل تجربة محددة في الزمان و المكان. إن قناعات هذا المثقف النخبوي و الباحث، لم تعد هي الأخرى تجربة شخصية، بل صارت تستمد صدقها من هذه التواصلية العالمية، بمبدأ :قيمة المعرفة في خضوعها للنشر و التوزيع في إطار كوني. يظهر إذن، على أن الإقصاء و التهميش الذي بدأ يعيشه المثقف ذو وجهين : محلي و عالمي. يتجلى المحلي في سيادة الشعبوية على النخبة و محاصرته في هذه النخبوية المزعومة، و عالمي لأنه صار يأخذ بعين الاعتبار رأي الغير القابع في قارات أخرى، المتتبع لمساره المحلي، و مستعد لإقصائه، إن وجده يخرج عن اقتصاد السوق العالمية.
لهذا الأمر الوسائط التواصلية المعاصرة، المكتوبة و المرئية و المسموعة، لم تعد قادرة أن تعيد لهذا المثقف النخبوي قيمته و دوره في المجتمع باعتباره منارة، و هجرته إلى جغرافيا أخرى ستجعله يعيش نفس المحنة. إن تشتيت الركائز التي تقوم عليها المجتمعات المعاصرة، تحدث كل يوم، و لكن إن وجدت مؤسسات كانت قد قامت بفعل خبرة هذا المثقف، كانت ستتصدى لهذا التناقض الشعبوي الذي لم يعد يرحم المجتمعات و كيفما كانت طبيعتها. إلا أن واقع المجتمعات التقليدية التي ننتمي إليها، تغيب فيها كهذه المؤسسات، مما يجعل سلطة الشعبوي تتضخم و تمتد أكثر.
* باحث في الفلسفة و علم الاجتماع و علم النفس
الرباط.. تقديم كتاب “على مقياس ريشتر: ما لم يرو في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز”
تم اليوم الخميس بالرباط، تقديم كتاب “على مقياس ريشتر: ما لم يرو في تغطية الصحفيين لز…