د محمد عصام لعروسي
(خبير في الشؤون الاستراتيجية والأمنية)
تشهد أوربا والعديد من دول العالم جملة من العمليات الإرهابية واستعمال العنف ضد رجال الأمن والقوات العمومية كما هو الشأن بالنسبة لعملية جادة الاليزيه في فرنسا والتي وقعت قبيل أيام قليلة من الدور الأول من الانتخابات الرئاسية في فرنسا ويتكرر نفس المشهد في كل الاستحقاقات الانتخابية، ما يعكس حتما التوظيف السياسي الدائم لملف التهديدات الأمنية من قبل التيارات الحزبية المتنافسة وخاصة إذا كانت استطلاعات الرـأي تعطي بعض التفوق للتيارات الليبرالية واليسارية. لهذا فالرعب من الإرهاب يدفع الناس في اتجاه أحزاب اليمين المتطرف أو بأقل حدة نحو يمين الوسط، وهي الاتجاهات التي عادة ما ترفع شعار الأمن والاستقرار أولا والمحافظة على كيان الدولة من العناصر الدخيلة على القيم الغربية.
صنع القرار السياسي-الأمني؟
إن مواجهة التهديدات الإرهابية عملية مركبة وشديدة التعقيد تتداخل فيها العديد من العوامل المؤسساتية والمجتمعية، وهو سجال متواصل بين من يملك المعلومات والبيانات عن العناصر المتطرفة أي المصالح الأمنية والاستخباراتية وأصحاب القرار في الحكومات الصانعة للسياسات. من المعلوم أن المصالح الأمنية والعسكرية لا تتدخل في العمل السياسي ويقتصر دورها على دعم صناع القرار بكل الإمكانيات والوسائل القانونية الممكنة، لكن تظل العلاقة بين المصالح الأمنية والاستخبارية وأجهزة الدولة جد ملتبسة وغير قابلة للتقييم وتعرف حركية الشد والجدب خاصة أن الحكومات في مجملها ليست مستقبل سلبي لكل المعلومات التي تحصل عليها من الأجهزة إلا إذا كانت تخدم في محتواها مصالح الحكومة أو الرئاسة فلا ضير من الاعتماد عليها وتوظيفها سياسيا، وقد اعتمد الرئيس الأمريكي بوش على تقرير جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية التي أكدت امتلاك العراق للأسلحة البيولوجية للتدخل العسكري في هذا البلد وتبين فيما بعد أنها كانت خدعة كبرى ومجرد دريعة لغزو العراق.
الوظائف الأمنية وتدبير السياسة
لا شك أن التخطيط الاستراتيجي على الصعيد الأمني في البلدان المتقدمة يرتكز على تنفيذ الأجهزة الأمنية لوظائفها العملياتية التي تكمن في أربعة وظائف أساسية تبرر تواجدها -رغم توجس الناس كثيرا من السرية والغموض الذي يلف مهامها-وهي منع الضربات المفاجئة الاستراتيجية Avoid strategic surprise” ” وهو الدور الاستباقي الذي من أجله خلقت هذه الأجهزة، ويعني منع حصول أحداث وتهديدات وتطورات قادرة على تدمير وخلخلة كيان الدولة ووجودها. لكن هذا الدور يبدو مضخما ومبالغا فيه طالما أن العديد من الدول لم تستطع منع حصول هجومات عسكرية على بلدانها حيث تفاجئت روسيا بالهجوم العسكري الياباني سنة 1904 ونفس الأمر بالنسبة للاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة اللتان لم تستطيعا توقع الهجوم الياباني سنة 1941 وأيضا فشل إسرائيل في توقع الهجوم المصري -السوري في حرب 1973. وتدخل غزوة مانهاتن في الحادي عشر من سبتمبر 2001 في سياق انفلات الخطر الإرهابي من الرقابة والمتابعة الدقيقة لكل الأجهزة الاستخبارية المتخصصة ومن أي توقع استخباراتي أمريكي، اللهم إذا كان الأمر -حسب رواد نظرية المؤامرة-يتعلق بعملية إرهابية قد تعطي لواشنطن الحق والمبرر للتدخل العسكري لحماية الأمن القومي الأمريكي من الإرهاب الاسلامي.
بالمقابل يجب التمييز بين المفاجأة الاستراتيجية وتلك التكتيكية التي تختلف من حيث الحجم والخطورة حيث يرى البروفيسور Richard Bets الأستاذ في جامعة كلومبيا، أن حصول المفاجأة التكتيكية لا تكون بنفس الحدة والخطورة لتهديد الدولة والمؤسسات ويكون أحيانا مفعولها النفسي أخطر وأبلغ من خطرها المادي بمعنى أنها مجرد عمليات إرهابية محدودة في الزمان والمكان وتحمل رسائل معينة للسياسيين وصناع القرار تهدف الى خلق حالة من الهلع دون تحقيق خسائر كبيرة في الأرواح كما هو الشأن بالنسبة للعملية الإرهابية الأخيرة في فرنسا.
من جهة ثانية، تتولى المصالح الأمنية وفق مخططاتها الاستراتيجية، تقديم خبرتها الطويلة وتجاربها الأمنية لتوفير الأمن والاستقرار وتقديم التوصيات والتوقعات المحتملة للتهديدات الأمنية، هذا الأمر يفسر منطق الاستمرارية والثبات في المواقع والأجهزة للإلمام الجيد بالملفات الأمنية في مقابل التغيير الدائم الذي يشوب المناصب الحكومية والمؤسسات العامة، وهو ما يطرح التناقض أحيانا بين المقاربة القانونية و الحقوقية لدى المسؤولين على الشأن العام والتي توسع من تأويل فضاء الحريات والحقوق على حساب الاحتياجات الأمنية الحالة والمقاربة الأمنية التي تجنح الى تشخيص الواقع الأمني ومحاكمة كل الاختراقات والتهديدات بكل الصرامة المطلوبة. بعد أحداث 11 شتنبر غيرت الولايات المتحدة الأمريكية من الاستراتيجية الأمنية وذلك بتأمين الاستمرارية والدوام وعدم تسييس وكالات الاستخبارات الأمريكية وخاصة في المواقع والمناصب العليا بعد أن عرفت خلال العشرية الأخيرة تدخل الأجهزة الاستخباراتية في تقديم تقارير ومعلومات خاطئة ومضللة للقياد الأمريكية.
القرار الأمني وموازين القوى
من الأدوار الأساسية أيضا للمصالح الأمنية والاستخباراتية، دعم المسار السياسي لحكومات بلدانهاsupport the policy process، ذلك ان صناع القرار لديهم احتياج طبيعي للمعلومات وقاعدة البيانات، والتحذيرات وتقييم المخاطر والمخرجات الأمنية. قد يبدو أن المجالين السياسي والأمني لهما مهمتين منفصلتين، حيث تدار الحكومة من قبل صناع القرار وتتولى الأجهزة الأمنية دور الدعم والمساعدة والتي لا يجب أن تصل الى التأثير على التوجهات السياسية للبلد والتزام الموضوعية والحياد إزاء السياسات والتوجهات والمخرجات السياسية، لكن تدخل الفضاء الأمني في السياسي يفضي عادة الى تسييس الأمن Politicized intelligence واختلاق تقارير استخباراتية موجهة إما تخدم مصالح بعض الساسة أو تقوي من أهمية المؤسسة الأمنية.
هذه الجدلية بين الأمني والسياسي ترتبط ارتباطا سياميا في حالة وقوع أحداث إرهابية حيث يسارع كل طرف الى اغتنام الفرصة لتمرير خطابات سياسية وأعتقد أن الاستراتيجيات الأمنية إذا حادت عن أدوارها وغاياتها الوظيفية، تصبح في خدمة النخب والقوى المتحكمة والنافذة في الدولة من خلال توقع عمليات إرهابية وعدم بدل جهود أمنية لمنع وقوعها إذا كانت العمليات المزعومة تخدم أجندة الأنظمة السياسية، أو اختلاق تقارير أمنية تساهم في مخرجات سياسية معينة سواء في الداخل والخارج.
غالبا ما تتموقع الأجهزة الأمنية في قلب الانشغالات المجتمعية والسياسية وتوجه الرأي العام وفق أهداف المنظومة العميقة المتحكمة في دوائر صنع القرار، كما أن الحفاظ على طابع السرية وعدم كشف المعلومات عن الجمهور وحتى عن السلطات يساهم في خلق فجوة كبيرة بين الدوائر الأمنية والاستخبارية والقيادات الحاكمة، تغيير القرارات الاستراتيجية المركزية في واشنطن مثلا والدعوة الى التدخل في سوريا وقصف تنظيم الدولة هو قرار أمني بامتياز يعكس أهمية التقارير والمعلومات التي تعدها الأجهزة الأمنية للرئيس ترامب لا تخاد مثل هذا القرار وقد يكون مبرر تواجد أسلحة كيماوية لدى نظام بشار الأسد بعد عملية خان شيخون، مجرد معلومات زائفة كما أشارت العديد من التقارير والتعليقات وأن الهدف الاستراتيجي هو تحريك مفهوم التدخل الأمريكي المباشر في سوريا من جديد. في السياق نفسه، تؤثر الأحداث الإرهابية على قرارات المواطنين في الفترات الانتخابية بالارتماء في أحضان التوجهات المحافظة المهووسة بالجانب الأمني. وهذا ما يفسر تصاعد تيارات اليمين المحافظ أو المتطرف في أوروبا، وهزيمة اليسار واليمين التاريخية في فرنسا، ونهاية تناوب الحكم بين اليمين واليسار منذ قيام الجمهورية الفرنسية الخامسة 1958.
إن حصول حزب الجبهة الوطنية على المرتبة الثانية في الدور الأول من الانتخابات الفرنسية يعكس طبيعة التغير الذي يشهده المجتمع الفرنسي وتأرجحه إيديولوجيا بين تيار غير حزبي إيمانويل ماكرون، الذي أنشأ حركة إلى الأمام وصرح بأنه لا ينتمي لا إلى اليسار ولا إلى اليمين رغم أنه ينهل من أدبياتهما ويدعم فكرة التنمية والنهوض الاقتصادي لفرنسا من داخل الاتحاد الأوروبي، وبين اليمين المتطرف بقيادة ماري لوبين وما تقدمه من خطاب وبرنامج ينسف أوروبا الموحدة ويدخل فرنسا في انعزالية كبيرة عن محيطها الطبيعي. وأعتقد أن قضايا السياسة الخارجية لفرنسا ستكون الورقة الرابحة لايمانويل ماكرون الذي يطالب بعودة الدور الفرنسي على الصعيد الدولي بشكل أكثر قوة من داخل الاتحاد الأوربي وتفعيل الدينامية الفرنسية لحل النزاعات الإقليمية والدولية. وقد صدر تقرير من جهاز الاستخبارات الفرنسية يؤكد استعمال النظام السوري لغاز السارين في خان شيخون ما يعني أن الملف الأمني سيشكل أولوية الصراع في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
من الناحية الوظيفية، يظل عمل المؤسسات الأمنية في خدمة الاستراتيجيات الكبرى للدولة التي لا تتغير عادة بشكل قاطع ونهائي رغم اختلاف التوجهات السياسية للحكومات المتعاقبة؛ فهي تعبّر عن الثبات والاستمرارية في الخط العام للسياسة الداخلية والخارجية، وتدعم مراكز القرار بكل الوسائل والمعلومات الدقيقة الممكنة لمواجهة الأزمات الداخلية والنزاعات الدولية. وقد اتضح في بعض الدول العربية التي دخلت مرحلة الربيع العربي المزعوم أن الأجهزة الأمنية كانت خارج السياق، ولم تستطع تقديم القراءات الصحيحة للأحداث والتوصيات الاستباقية لتجنب الوقوع في حالة الفوضى والارتباك التي عرفتها هذه الدول.
6
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…