خالد أمزال*

هناك إجماع من طرف الباحثين والمتتبعين للحياة السياسية بالمغرب أن البلاد في وضعية جمود، فرغم تكليف الملك لبنكيران بتشكيل الحكومة، إلا أن الأمور تراوح مكانها، فلا هو استطاع تشكيلها، ولا هو أعلن فشله في هذا المسعى. هكذا تنافست الأقلام والأصوات في تفسير هذا التأخر أو التعثر، وفي البحث عن الدواعي التي تعوق السيد بنكيران، وتعرقل تشكيل ائتلاف حكومي جديد، وصار المحللون والصحفيون المنتمون لكل ألوان الطيف السياسي، يخوضون بشكل يومي في موضوع تعثر رئيس الحكومة المكلف في تأليف ووزارته، متهمين هذا الطرف أو ذاك بتعطيل ولادتها، لدرجة صارت الألسن والأقلام على حد سواء تَلُوكُ مصطلح “البلوكاج”، جاعلة منه الكلمة المفتاح التي تفسر حالة “السطاتيكو” التي يعيشها الحقل السياسي بالمغرب.
فهل المغرب يعيش فعلا حالة جمود سياسي ؟ وهل السبب هو تعثر بنكيران في تأليف الحكومة الجديدة ؟ وما هي الحلول الممكنة لتجاوز هذه التعطيل الحكومي ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في السطور التالية.
1- الجمود السياسي في المغرب حالة مستديمة :
منذ تعطيل تجربة التناوب بعد انتخابات 27 شتنبر 2002، والمغرب يعرف في العهد الجديد حالة من الجمود السياسي الدائم، ولم يكسر رتابة هذا الوضع سوى رياح الربيع العربي، والتي أجبرت السلطة على تنشيط الحياة السياسية بمنح المغرب دستور 2011، كإجراء تكتيكي محض غايته احتواء الحراك الشعبي الذي انطلق مع 20 فبراير، لكن ما عدا ذلك ظلت الأمور تراوح مكانها : المؤسسة الملكية هي صاحبة المبادرة، تقوم بتدبير صغائر الأمور بحس إنساني عال، كالتعزية في وفاة الرعايا والتكفل بالمصابين في الحوادث والكوارث الطبيعية، وتدبر بحزم كبير كذلك كبائرها كرسم التوجهات المالية والاقتصادية للحكومة، وتصريف العلاقات الخارجية للدولة، أما الحكومات المتعاقبة فهي مجرد سكرتارية لدى رئيس الدولة، تنفذ توجيهاته وتحرص على تطبيقها تحت أعين مستشاريه.
هكذا كان الوضع وهكذا مازال، لأن هندسة النظام السياسي بالمغرب تتشكل من سلطة غير منتخبة تتمثل في الملك، تمسك بكل السلطات، وتقع عرفا وقانونا خارج دائرة المراقبة والمحاسبة، ثم سلطة منتخبة جزئيا (لكونها مخترقة بما يسمى بـ “وزراء السيادة” الخاضعين للسلطة غير المنتخبة) أصبحت مع دستور 2011 تتمثل في الحكومة، والتي يرأسها الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية، وتمارس السلطة التنفيذية كما ينص الفصل 89 من الدستور دون أن ترأسها، وهي خاضعة نسبيا للرقابة البرلمانية والمحاسبة الشعبية عبر الاستحقاقات الانتخابية.
لذا تقتضي الموضوعية القول بأن الجمود السياسي في المغرب حالة مستديمة، مستمرة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، منذ أن هادنت القوى السياسية الوطنية والتاريخية المؤسسة الملكية، وسلمت لها مقاليد السلطة طوعا وكرها، وقبلت ولو ضمنيا بما كانت تسميه خلال الستينيات بالحكم الفردي، وذلك جراء القمع والتضييق الممنهجين اللذين تعرضت لهما من طرف أجهزة الدولة المختلفة، ثم بسبب الانقسامات الداخلية لهذه القوى وتضارب رؤاها، وبمبرر استكمال الوحدة الترابية وتقوية الجبهة الداخلية في مواجهة الانفصاليين. فتضخمت المؤسسة الملكية، ليس بإرادتها فقط بل بإرادة غالبية قوى المجتمع، إما خوفا من جحيم المخزن أو طمعا في نعيم ريعه، وصارت هذه المؤسسة الفاعل الوحيد في دائرة السلطة، مما أوصل الحياة السياسية بالمغرب للدرجة الصفر، بعد أن تحولت الحكومة والبرلمان والأحزاب وباقي المؤسسات لمجرد ظلال للملك.
فالحيوية السياسية لأي بلد لا تأتي إلا من خلال بناء سلطة عبر تعاقد اجتماعي، ثم إخضاع ممارستها للنقد والتصويب والرقابة والمحاسبة، باعتبارها (أي ممارسة السلطة) نشاطا بشريا يحتمل الصواب والخطأ، وتحقيق تداول حقيقي ودائم لهذه السلطة وفق مقتضيات الديموقراطية التمثيلية، إضافة للفصل السليم بين أعمدتها الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتحقيق استقلال فعلي لكل منها عن الأُخريَيْن. فكل هذه الأمور غائبة في تجربة الحكم بالمغرب، فرغم الجهود التي بذلت منذ سنوات على مستوى الإصلاح الدستوري، والدعوة لربط المسؤولية بالمحاسبة، وتوسيع هامش الحريات وخصوصا منها السياسية والصحفية، وتطوير المسار الحقوقي، إلا أن السمة الغالبة على نظام الحكم هي الملكية التي تسود وتحكم.
لذلك لا يمكن الادعاء أن المغرب يعيش منذ انقشاع غبار انتخابات السابع من أكتوبر، وتكليف السيد بنكيران بتشكيل الحكومة، بلوكاجاً سياسيا، لأنه حتى ولو تشكلت هذه الحكومة دون عوائق، فلن يطرأ أي تغيير جوهري في الحياة السياسية، لأن من يحكم عمليا لم يصل للسلطة عبر الانتخابات حتى يتأثر بنتائجها، أو يتعطل عمله بتدبير تشكيل حكومته، فهو يستمد شرعيته من الدين والتاريخ والوراثة ورضا الناس، وبالتالي لن يتأثر حكمه بأي متغير حتى ولو كان هو الإرادة الشعبية المعبر عنها انتخابيا. وليس أدل على ذلك من الكلام الذي راج طيلة الأسابيع الفارطة، والذي مفاده أن سفينة الدولة في المغرب تسير بيسر وسلام، رغم غياب ربانها الذي كان في جولة إفريقية، وعطالة الجهاز التنفيذي المتمثل في بقية حكومة تصريف الأعمال، وحدوث اهتزازات على أطراف السفينة بسبب حراك الشارع، والذي هَبَّ بعفوية تفاعلا مع مصرع “محسن فكري”.
فالمؤكد إذن أن هذا البلوكاج الذي تعيشه الحياة السياسية بالمغرب شيء عاد، وتأخر تأليف الحكومة ليس إلا تنويعا على وتر التعطيل الدائم والمزمن، بينما البلوكاج السياسي المستديم الذي سببه غياب ديموقراطية حقيقية تؤطر ممارسة السلطة وتقيدها، لا يتنبه له إلا القليل، فلا يستفيق المتتبعون للحقل السياسي المغربي إلا في مثل هذا الوقت الميت، لكي يتفننوا في وصف التعطيل الذي اكتنف مشاورات تشكيل الحكومة، ناسين أو متناسين أن الانحباس في أوعية الدماغ قد يتسبب في الجلطة وليس العكس، فعدم تجدد السلطة وفق إرادة الصناديق الانتخابية لا يؤدي فقط لتعطيلها، بل قد يؤدي لتكلسها وتيبسها.
2- تعثر تأليف الحكومة الجديدة مسألة متعمدة :
لا بد أن نؤكد في البداية على أن تأخر أو تعثر السيد بنكيران في مساعيه لتشكيل الحكومة لم يكن أمرا مستغربا، فقد أشرت في مقال سابق منشور على موقع “هسبريس” قبل الانتخابات الماضية بأزيد من شهر، على أن حزب العدالة والتنمية سيحرز المرتبة الأولى في الانتخابات بفارق ضئيل عن حزب الأصالة والمعاصرة، وسيكلف الملك أمينه العام بتشكيل الحكومة، لكن هذا الأخير سيفشل في هذه المهمة بسبب عدم توفره على الأغلبية البرلمانية الضرورية، لأن غالبية الأحزاب ستحجم عن المشاركة في تحالف حكومي بقيادته، أي أن مخطط عرقلة مساعي البيجيدي لتأليف الحكومة كان معدا سلفا، وذلك لأسباب استفضت في شرحها وبسطها وفي المقال المذكور سالفا، ومدارها أن حزب العدالة والتنمية استنفذ دوره في تهدئة الأوضاع بعد 20 فبراير، وأصبح يزعج المؤسسة المخزنية والدوائر المقربة من الملك بخرجات أمينه العام الإعلامية وعدم تحفظه في الكلام، إضافة إلى التوجس من تزايد شعبيته هو وحزبه، والتي ستتعاظم في حال بقائه في رئاسة الحكومة.
لقد رمى الملك الكرة في ملعب بنكيران عندما كلفه بتشكيل الحكومة كما تنص أحكام الدستور وخصوصا الفصل 47، وتركه يواجه مصيره بنفسه، ويخوض المشاورات مع فرقاء حزبيين لا يملكون إرادتهم، يَتَخَفَّوْنَ تارة وراء انتظار موقف هياكلهم التقريرية، وتارة أخرى بغياب عرض حقيقي من رئيس الحكومة المكلف، وثالثة بمبرر اتباطهم بمواقف حلفائهم لكي يدخلوا الحكومة معا أو يحجموا معا.
لكن المتغير الدرامي الذي قلب مسار أحداث شريط تشكيل الحكومة هو بروز فاعل جديد ووازن، عوض في آخر لحظة حزب الأصالة والمعاصرة، واستدرك به الممسكون بزمام الأمور فشل هذا الحزب في إعاقة فوز العدالة والتنمية بكرسي رئاسة الحكومة، إنه حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيسه الجديد الذي تم تنصيبه على عجل، وذلك بعد استقالة رئيسه السابق بمبررات غير مقنعة. فعلى الرغم من أن الكلام عن السيد عزيز أخنوش بصفته التقنوقراطية، تردد كثيرا كمرشح لتولي رئاسة الحكومة المقبلة، إلا أن العديد من المتتبعين اعتبروا ذلك غير ممكن بالنظر لتعارض ذلك مع مقتضيات الفصل 47 من الدستور. لكن سدنة معبد المخزن، الذين ما انفكوا يضَيِّقون بشكل منهجي على حزب العدالة والتنمية، خلعوا على السيد أخنوش في أيام معدودات حلة رئيس حزب احتل المرتبة الرابعة في الانتخابات، ودعموه بالأحصنة المروضة لحزب الاتحاد الدستوري، فصار يمثل القوة البرلمانية الثالثة في البرلمان الجديد، والثانية على مستوى الأغلبية الحكومية المفترضة. لذا صار يتفاوض مع بنكيران من موقع القوة المعطلة، ويملي عليه شروطه وعلى رأسها إقصاء حزب الاستقلال من التحالف الحكومي المرتقب، وإدخال حليفه الاتحاد الدستوري لحظيرة السلطة الموعودة.
هنا انطلق علنيا مسلسل تعطيل تشكيل الحكومة، بعد أن كان قد انطلق ضمنيا حسب مزاعم السيد بنكيران منذ ما سماه في كلمته أمام اللجنة الوطنية لحزبه يوم 05 نونبر 2016 بـ ” محاولة انقلاب يوم السبت “، أي اليوم الموالي لانتخابات 7 أكتوبر، والذي سعت وفق كلامه أحزاب المعارضة وعلى رأسها الأصالة والمعاصرة، لتقديم مذكرة للملك تقول بأنها ترفض التعامل مع البيجيدي ومع رئيس الحكومة الذي سَيُكَلَّف. وزاد الطين بلة تزامن مشاورات تأليف الحكومة مع الغياب المتكرر للملك بسبب زياراته للعديد من الدول الإفريقية، واصطحابه للسيد أخنوش معه في هذه الزيارات، مما يعوق استمرار هذه المشاورات مع الفاعل الحزبي الرئيسي المتمثل في التجمع الوطني للأحرار، ويؤخر تشكيل التحالف الحكومي المنتظر.
كل هذه المؤشرات إذن تبرز أن ما يسمى بالبلوكاج الحكومي، لا تلعب فيه العوامل الذاتية والمرتبطة بمزاج بنكيران من جهة، وحربائية الأحزاب التي يفاوضها من جهة أخرى أي دور. فقوى المخزن دخلت مع البيجيدي بعد استحقاقات السابع من أكتوبر في مرحلة ثني العظام، فهي تدفع هذا الحزب للزهد في ما بين أيدي السلطة، وعدم منازعتها الأمر، وإدراك حقيقة أن الشرعية الانتخابية التي حازها، لا تخول له ولا لغير أن يتصرف بمعزل عن المؤسسة الملكية، صاحب الشرعيات الثلاث الدينية والتاريخية والمجتمعية، وأن التمترس خلف إرادة الناخبين بغاية اقتطاع جزء من السلطة، ضدا على كهنتها وحراس معبدها، مرتعه وخيم ووَبَالُهُ عظيم، لكونه سينقص من هيبة الملك، وسيظهره كما لو أنه خصم للإرادة الشعبية المعبر عنها انتخابيا. وفي حال لم يستجب البيجيدي، وظل السيد بنكيران يردد مقولات التحكم وعدم إهانة إرادة الناخبين، فلن يجد المخزن سبيلا غير الدخول معه في المرحلة الثانية وهي كسر العظام، إذ لن تعوزه الوسيلة لإقصائه من رئاسة الحكومة.
لهذا فالبلوكاج الحكومي الذي يواجهه السيد بنكيران، هو إشارة صريحة من المخزن لحزب العدالة والتنمية كي يستفيق من سكرة الفوز بالانتخابات، فالذي سمح بوصوله لرئاسة الحكومة قادر على فعل ذلك مرة أخرى، لكن بإرادته المحضة المجردة من أي ضغوط، كما أنه، وهذا هو جوهر الرسالة، قادر على إعاقة وتعطيل ذلك إلى حين.
3- تجاوز التعطيل الحكومي مرهون بإرادة سيادية :
لقد أوضحت سالفا أن التعطيل الحكومي مسألة مقصودة، وأن الدافع الرئيسي من وراءه الحفاظ على موازين القوى داخل حقل السلطة في المغرب كما هي، وعدم السماح للسيد بنكيران بأن يستفرد بتدبير مشاورات تأليف الحكومة، أو يرتكن في ذلك لفكرة الاستجابة لصوت الناخبين. فالبلوكاج قد يُرْفَعُ بسرعة في حال استيعاب رئيس الحكومة المكلف لهذا الأمر، وسيتوافق معه حينئذ ودون عناء حزب التجمع الوطني للأحرار وباقي الفرقاء الآخرين.
لكن السؤال الملح هنا : هل التعطيل سينتهي بانتهاء تشكيل الحكومة أم قد يتم استخدامه في بحر ولايتها كذلك ؟ الجواب قطعا هو لن يتم الكف عن استعمال التعطيل الحكومي وسيظل مسلطا على رأس بنكيران كسيف ديموقليس، لأنه وبكل بساطة آلية من آليات الضبط السياسي التي تلجأ إليها السلطة كي تضمن ولاء القوى الحزبية، أو تحذير من تريد التمرد منها على ثقافة الخضوع والممالأة المسماة “آداب دار المخزن”.
إن الحل الممكن لتجاوز معضلة التعطيل الحكومي، سواء في لحظة التشكيل أو لحظات العمل والتدبير، هو بيد من يمتلك السلطة ويمارسها، لذلك أشرت في العنوان السالف لارتهان الحل بإرادة سيادية وليس سياسية، لأن السلطة ومقاليدها بحوزة من يسود، والممارسون للسياسة من موقع التدبير كالوزراء والمدراء، أو من موقع التنشيط كالأحزاب والنقابات، أو موقع التفكير كالباحثين والمتتبعين، لا يمارسون السلطة بل يدعمونها أو في أسوء الأحوال ينتقدونها، وبالتالي ليس بمقدورهم بصيغة المفرد أو الجمع توقيف آلية التعطيل الحكومي. لذا من المستحب أن تعمل المؤسسة الملكية، بكامل إرادتها وبشكل تدريجي، على إزالة العوائق التي تمنع الحكومة من ممارسة عملها التنفيذي على الوجه الأكمل، ويمكن إجمال أهم هذه العوائق في النقاط الثلاث التالية :
• العوار الذي يكتنف الفصل 47 من الدستور، والذي لا يتحدث عن ما يجب فعله في حال تعثر رئيس الحكومة المكلف في مساعيه لتأليفها، فهل يتم اللجوء للفصل 42 والذي ينص في على أن الملك “ضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية”، وهنا يتم إطلاق يده في أمر تشكيل الحكومة بالطريقة التي يرتضيها، حتى ولو عين رئيسا للحكومة من حزب آخر غير ذلك التي تصدر نتائج انتخابات مجلس النواب، أم أن ذلك يتعارض مع الدلالة القطعية للفصل 47 ؟
لذلك وإلى حين إجراء تعديل دستوري لتجاوز هذا القصور، من الممكن في حال عجز رئيس الحكومة المكلف عن تشكيل أغلبية برلمانية، اللجوء للفصل 96 والذي يعطي الملك الحق في حل البرلمان، وبالتالي الدعوة لانتخابات جديدة في ظرف شهرين على الأكثر من بعد تاريخ الحل. فهذا الإجراء سيقطع مع التأويلات غير الديموقراطية للدستور، وسيحافظ على صورة الملك كضامن الاختيار الديموقراطي، والحكم الأسمى بين مؤسسات الدولة.
• الاستقلالية المنقوصة لرئيس الحكومة ولأعضائها الحزبيين في تنفيذ البرنامج الحكومي الذي تم التعاقد عليه مع ممثلي الأمة في مجلسي النواب والمستشارين، ومحدودية قدرته على الإشراف والوصاية على المؤسسات العمومية، لكون الصلاحيات التنفيذية الأساسية مخولة للمجلس الوزاري لا الحكومي. هذا إلى جانب وجود وزراء تقنوقراط يمارسون مهامهم خارج وصاية رئيس الحكومة، فلا يدخل تدبيرهم للقطاعات التي يشرفون عليها في نطاق عمل الحكومة إلا في الجوانب الشكلية، لكونهم محسوبين ولو نظريا على الملك.
فمن الأفيد إذن تقوية السلطة التنفيذية للحكومة عبر تفويضها بعض صلاحيات المجلس الوزاري بشكل تدريجي، مثل تلك المرتبطة بالتوجهات العامة لمشروع الميزانية، خصوصا وأن الدستور الحالي في الفصل 48 يعطي الملك حق تفويض رئاسة المجلس الوزاري لرئيس الحكومة وفق جدول أعمال محدد. كما يتحتم إلغاء بدعة “وزراء السيادة” لكونها لا تضعف التضامن الحكومي، ولا تقيد تدخل رئاسة الحكومة في بعض القطاعات الحيوية فحسب، بل تجعل من هؤلاء الوزراء مراكز قوى تناوئ توجهاتها، كما حدث مع وزيري الداخلية والتربية الوطنية مثلا، ليتم في هذه الحالة ممارسة التعطيل الحكومي بأدوات داخلية كان يفترض منها أن تفعل العكس.
• قانون الانتخابات البرلمانية وخصوصا نظام الاقتراع باللائحة النسبية، وعتبة التمثيل البرلماني المتدنية، لكون ذلك يشتت الأصوات ويمنع تشكيل أغلبية متجانسة، ويجعل الحكومة تحت رحمة الأحزاب الأقل التمثيلية في البرلمان. هذا إضافة لتحكم وزارة الداخلية في مجريات هذه الانتخابات، انطلاقا من قوانينها التنظيمية ومرورا بالتسجيل في اللوائح، والإعداد اللوجستي والبشري والمالي والإعلامي، ووصولا لإشرافها على الاقتراع والفرز وإعلان النتائج. فقد أظهرت التجارب بما فيها الانتخابات الأخيرة أن هذه الوزارة لا تلتزم الحياد، وتستعمل سلطاتها وأجهزتها لعرقلة أطراف ودعم أخرى، مما يقلل من ثقة الرأي العام في نزاهتها، خصوصا وأنها هي المشرفة عمليا على صياغة الخريطة الانتخابية، والتي تتحكم بالتبعية في مسارات تشكيل الحكومة.
وبالتالي لا مناص من تعديل القوانين الانتخابية، وتبسيط نمط الاقتراع، ورفع عتبة التمثيل في مجلس النواب لتجاوز تفتيت الكتل البرلمانية، إلى جانب تأسيس هيئة عليا مستقلة ودائمة تشرف على الانتخابات في كل أطوارها، تعيد الثقة في الاستحقاقات الانتخابية ومُخْرَجاتِها، كل ذلك من أجل تمكين الحكومة من التشكل في ظروف طبيعية، والاضطلاع بمهام وضع السياسات العامة وتنفيذها، دون عرقلة أو تعطيل.
المغرب حقا الآن على مفترق طرق، فإما أن يستمر في مسار الانتقال الديموقراطي بكل عيوبه وعثراته، وهذا أضعف الإيمان، أو ينقلب على عقبيه ويعود لسنوات الاستبداد الفج. فما يبدو الآن في الساحة السياسية هو رغبة القوى النافذة في الدولة في تصفير عَدَّاد التحول الديموقراطي، والعودة بالمغرب للحظة ما قبل 20 فبراير، ظنا منها أن القوى السياسية والمجتمع من خلفها غير مستعدة بعد لمقتضيات الحياة الديموقراطية، فمسؤولية تدبير شؤون الدولة في نظرها لا يجب أن تناط برجالات الأحزاب فقط لكونهم أصحاب شرعية انتخابية، فالكفاءة والحزم والخبرة والولاء صفات قد تكون مكتسبة أو منعدمة في السياسي الحزبي، لكنها غير مكتسبة دائما عند السياسي التقنوقراطي، لذلك وبمنطق التدرج البطيء، يجب دائما إسناد المسؤول الحكومي القادم من صناديق الاقتراع بمسوؤل غير حزبي وغير منتخب، لذلك للحفاظ على توازن السلطة من نزق الحزبيين وقلة خبرتهم.
إن هذا المنطق للأسف هو المسؤول عن إعاقة المغرب في مسعاه للانتقال نحو حياة ديموقراطية متوازنة، لا يُنازِعُ فيها أحد الملك في السيادة، بل يشاركه أصحاب الشرعية الانتخابية الحكم، ليس بمنطق الندية بل بمنطق المساندة. لذلك نجد هؤلاء المتنفذين دائما يضعون أصابعهم على مقربة من زر التعطيل السياسي، بحجة حماية الملك من الطامعين في سلطانه ومن المُتَشَوِّفين لسلطاته، لكنهم بالمقابل لا يدرون أنهم بذلك يعطلون مسار الدولة بكل مؤسساتها، ويعيقون أفقها الديموقراطي، ويجعلون الملكية، كمؤسسة تحظى بإجماع وتقدير وتوقير كل المغاربة، في مواجهة مستمرة مع القوى المجتمعية التواقة للمشاركة في الحياة السياسية، والساعية للإسهام في تدبير الشأن العام ولو من باب الاقتراح والنقد. لذلك من مصلحة الجميع رفع الفيتو على الحياة الديموقراطية السليمة، والاستمرار في هيكلة الحقل السياسي بإيقاع متسارع، في أفق بناء دولة ديموقراطية لا تتعارض مع الخصوصية التاريخية والسياسية والثقافية للمغرب.

* محلل سياسي

التعليقات على تحليل.. التعطيل السياسي بالمغرب وتعثر تشكيل الحكومة مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

كاتب الدولة المكلف بالشغل: رغم الرفع من عدد مفتشي الشغل إلا أن الخصاص لا يزال كبيرا

أكد كاتب الدولة المكلف بالشغل، هشام صابري، اليوم الاثنين، أن الخصاص لا يزال كبيرا في عدد م…