عزالدين العلام

كثُر الحديث في هذه الأيام عمّا يسمّيه الجميع باقتصاد الريع. تجلّى للبعض في رخص للنّقل تُعطى مجانا لمن يملك ألف وسيلة نقل. ورآه آخرون في رخص للصّيد في أعالي البحار وأسفلها تُعطى محاباة لمن لا تخلو مطابخهم وموائدهم من فواكه بحر لا تجد طريقها للعديد من أسواق المغرب وأفواه المغاربة. ورآه الكثير في استغلال مقالع للرمال تُهدى لوجه الله لأناس يملكون قصورا من حديد مسلّح لا رمال هشّة فيه. ورآه آخرون في وظائف، بل ومؤسّسات تُخلق خلقا من أجل مخلوق رضي الله عنه…

وأنا أسمع ما قيل، وأقرأ بعض ما كُتب في الموضوع من وقائع وتعليقات، تذكّرت جملة قلّما خلا منها مصدر من مصادر تراثنا المغربي الإسلامي، التاريخي والسياسي والأدبي، ونصّها بالحرف : “…و أعطاه ألف دينار.”

غالبا ما تأتي هذه الجملة الشّديدة السّخاء في نهاية حكاية من عشرات الحكايات المروية بين دفّتي الكتاب الواحد. من يُعطي هذه الآلاف من الدّنانير؟ ومن أين له بها؟ ومتى يعطيها؟ ولمَ يعطيها؟

أمّا صاحب العطاء، فلن تخطئه العين، بل كلّ أعين الرّعايا موجّهة إليه. هو الخليفة أو الملك أو السّلطان، سمّيه كما تشاء. وأمّا عن مصدر كلّ هذه الأموال من آلاف الدّنانير التي يعطيها ذات اليمين والشّمال، فتوضّحه جملة أخرى شهيرة مؤداها أن “لا دولة إلاّ بجيش، ولا جيش إلاّ بمال، والمال رزق تجمعه الرّعية، والرعية عبيد يتعبّدهم السّلطان”. بيد أنّ الأهم هنا هو أنّه لكي تعطي، يجب أوّلا أن يكون لديك ما تعطيه، أن تكون أخذت مسبقا ما ستعطيه لاحقا. ولكي تعطي باستمرار وسخاء كما كان يفعل الملوك والسّلاطين، عليك أن تأخذ وتأخذ، إن لم أقل أن تنهب باستمرار. فلكي يحافظ الحاكم المعطاء على كرمه وسخائه، عليه أن يكون غنيا على الدّوام، ولكي يبقى غنيا على الدّوام، عليه أن يبحث عن المال باستمرار، بل ويصبح مبتزّا يقدم على كلّ عمل يؤدّي إلى كسب المال، بدءا من فرض إتاوات ومكوس وضرائب إلى مصادرة الأملاك و الأراضي. هكذا إذن تختفي وراء خصلة العطاء السّلطاني “الحميدة”حقيقة الجشع “الرهيبة”حينما نكتشف أنّ العطاء يتطلّب الأخذ أوّلا، وأن الحفاظ عليه يفترض نهب الرّعايا مسبقا.

ومتى ينطق الملك أو السّلطان بهذه الجملة الكريمة والآمرة في آن؟ تتعدّد السياقات حسب الحكايات والمواقف. فقد ينطق بأمره المُطاع في لحطة نشوة من أجل شاعر مسترزق قال في حقّه ما في الله. وقد يحنّ قلبه و ينفتح سخائه أمام موعظة فقيه يتدلّل بعلمه، فيعطيه تلك الألف دينار يقوى بها على الزّمان. و قد يجزل العطاء على رجل من الأشراف المعروفين أو من الأعيان المتحكّمين، هبة منه جزاء ولائه، والأهمّ من ذلك جزاء له على ضبط تابعيه، عملا بالقاعدة السّلطانية المأثورة القائلة “لا يصلح التّابعون إلاّ بالمتبوع”…

واليوم، وأمام ما قيل في موضوع الريع، وما نُشر من وقائع، وما قد ينشر مستقبلا، يحقّ لنا التّساؤل: ما ذا تغيّر في المغرب الحديث؟ لست متشائما، ولكنّها وقائع وعلامات تحبس أنفاس تفاؤلي. فحينما تُخلق مديريات ومجالس، بل ووزارات ومندوبيات على المقاس، ألا يكون ذلك نوعا حديثا من عطاء ملايين الدّراهم، و ليس آلاف الدنانير كما كان بالأمس؟ حينما تُخلق وظائف وهمية، أو لا حاجة لنا لها، يستفيد منها الأقارب والأباعد، أليس ذلك عطاء في سبيل الله؟ حينما تُهدى رخص لمن يركنون في قصورهم منتظرين مداخيل لم يحرّكوا من أجلها ساكنا، أليس ذلك قمّة السّخاء الحاتمي؟ و بماذا نسمّي تفويت عشرات الأراضي بدراهم رمزية تتحوّل في شهور معدودة إلى ملايين الأورو الحقيقية؟

ما الفرق إذن بين “أعطيه ألف دينار..” البارحة، و أعطيه اليوم ما به يجني آلاف، بل وملايين الدراهم؟ أطرح السؤال وأترك الجواب لرئيس الحكومة الحالي متمنيا من الله عزّ وجل أن لا يختبئ مرّة أخرى في جبّة “أمير المؤمنين”.

 

التعليقات على …و أعطاه ألف دينار!! مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019

صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…