الانتحار حالة نفسية من اختصاص علماء النفس، ولكنها منذ كتاب “الانتحار” لعالم الاجتماع إميل دوركايم، أصبحت ظاهرة تستقطب اهتمام علماء الاجتماع. ويعتبر كتاب دوركايم الذي يحمل ذات العنوان، من أهم الكتب المرجعية في العلوم الاجتماعية وواحد من مُقعدي أسسها. لماذا يقدم أشخاص على الانتحار؟ كان ذلك هو السؤال الذي طرحه دوركايم حين لحظ ازدياد عددهم وقام بجرد لكل حالات الانتحار التي درسها وبوبّها، لينتهي إلى نتيجة، وهي تحلل منظومة القيم، أو ما عبر عنه بمصطلح مشتق من اللغة الإغريقية يمكن أن نترجمه حرفيا بانتفاء القانون،Anomie  Nomos) هو القانون).

ذكّرت بمعطيات معلومة في العلوم الاجتماعية لأقف عند حالات استفحال الانتحار في المغرب، وبذات الطريقة، أي صب البنزين على الجسد وقدح النار عليه. استأثرت بالاهتمام حالة السيدة مي فتيحة بائعة فطائر البغرير في أحد الأحياء الهامشية المنبثة حول مدينة القنيطرة التي أوقدت النار في جسدها، تعبيرا عنها عن تنديدها بالظلم والحقرة. لا يمكن طبعا أن لا نقيم علاقة بين ما أقدمت عليه السيدة مي فتيحة وسابقة البوعزيزي. تكاد الحالتان أن تكونا متشابهتين في أسبابها وإن اختلفا في نتائجهما: غطرسة رجل سلطة يأخذ من المرأة نتاجها بغلظة ويصرفها في شدة… هل كانت السيدة بفعلها تود أن تشعل النار في الجسد الاجتماعي الملتهب، أما أنها كانت تريد أن تعبر عن استنكار ليس إلا؟

لم تمر القضية مرور الكرام، ذلك أن السلطات أمرت بإجراء تحقيق والوقوف عما قد يكون وراء الشطط من رجالها، كما بادرت عقب إقدام انتحار شخص آخر أياما بعد انتحار مي فتيحة، بذات الطريقة، من ذوي الاحتياجات الخاصة إلى نشر بلاغ تؤكد فيه أن أسباب فعله شخصية واجتماعية. اهتمام الصحافة الوطنية والدولية بقضية مي فتيحة، يخرج الحالة من خانة الحدث العابر إلى خانة الظاهرة.

يمكن أن ننطلق من النتيجة التي انتهى إليها دوركايم، وهي أن الجسم الاجتماعي بالمغرب يشكو تحلل القيم، أو هو تحلل الوعي الجماعي القديم الذي كانت تفرزه الأسرة والقبيلة، إلى مرحلة من دون وعي جماعي محدد المعالم، من دون منظومة أخلاقية جديدة جامعة. والأكثر عرضة للاهتزاز أثناء هذه المرحلة الانتقالية هم الفئات المهمشة من العاطلين، والنساء العوانس، والأشخاص ذوي الحاجات الخاصة.

أسفرت أولى التحريات التي قامت بها الصحافة أن إقدام مّي فتيحة على الانتحار أعمق من أن يُختزل في حالة فردية معزولة. يظهر فعلُها الواقعَ البئيس الذي تعيشه فئات في أحياء فقيرة في معظم المدن الكبرى بلا مجاري للمياه وسط الأزبال والقاذورات والكلاب الضالة، يحيل فعلها إلى المعارك الشرسة التي يخوضها الفقراء من أجل “النمرة” أي رقم بقعة أرضية لكي يخرجوا من جحيم دور الصفيح، ولكن “النمرة” تخفي واقعا معقدا من السماسرة، من المتاجرين بالبقع بتواطؤ مع أعوان الإدارة، ومن المحترفين السياسيين الذين يستغلون هذه الحالات الاجتماعية  فيجعلون من واقع أصحاب دور الصفيح خزانا انتخابيا، يدغدغون المواطنين العُزل بالخطابات والوعود… والنتيجة التي نخلص لها، هي إخفاق كل من الدولة في “حربها” على الهشاشة والتهميش، وعدم قدرة الطبقة السياسة على التصدي للواقع من خلال إجراءات عملية، واكتفائها بالخطاب أو استغلال هشاشة الفئات المحرومة.

في كتابي “مأزق الإسلام السياسي” خلصتُ إلى أن ما نحتاجه ليس ممرضين يضعون بعض المراهم والضمادات على الجراح، ولا أصحاب تمائم يقرؤون التعاويذ، ولكن أطباء يحللون واقع الجسم الاجتماعي من أجل تشخيص دقيق في أفق علاج ناجع وملائم، بما فيه التشريح إن اقتضى الأمر.

هل يمكن أن يصبح انتحار مي فتيحة مؤشرا على وعي جديد في التعاطي مع أدواء الجسم الاجتماعي؟

المرحومة مي فتيحة بعثت رسالتها، ولكن هل من ملتقط لفحواها؟

التعليقات على مِّي فتيحة بعثت رسالتها فهل من ملتقط لفحواها؟ مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

بايتاس معلقا على ندوة “البيجيدي”: لا يمكن مناقشة حصيلة حكومية لم تقدم بعد

اعتبر مصطفى بايتاس، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان، الناطق ا…