علي جوات

وسط طبيعة قاسية، يعيش مواطنون مغاربة مسالمون، هادئون، بالرغم من عنف الفقر وقسوة التهميش الذي يلتف حول رقابهم، ونذوب الحياة التي رسمت أخاديدها على وجوههم، والتنمية المعطوبة التي يمنون النفس بها لكنها تتعثر في منتصف الطريق، حيث يعترض سبيلها لصوص المال العام. هنا تنغيير.. الكل مبتسم، لا تضخيم في الوصف ولا مبالغة، فالحقيقة الفاضحة لها عنوان واحد: هذا هو المغرب العميق المنسي.

حتى المستشفى الإقليمي، المنشأة الصحية التي يفترض أن تجيب عن الحاجيات الصحية لساكنة المدينة الصغيرة ومجموع القرى والمداشر المتناثر وسط الجبال “المتصحرة”، يعاني الكثير من الأمراض.

فعلى العكس مما التقطته عدسات المصورين يوم الاثنين الماضي، لحظة زيارة وزير الصحة للمستشفى، حيث ظهر صف طويل من الأطباء وهم يرتدون وزراتهم ناصعة البياض، ويرسمون ابتسامات عريضة استعدادا للسلام على “معالي الوزير”، فإن الحقيقة عكس ذلك تماما.

فبعد يومين فقط من زيارة الوزير، أي يوم الخميس، تبخّر فجأة كل أطباء الاختصاصات الذين كانوا حاضرين للسلام على الوزير، ولم تبقَ سوى صورتهم وهم يبتسمون في وجه الوزير مطبوعة في ذاكرة المرضى.

وقف مواطنون في صف طويل ينتظرون ما لا طائل من ورائه ولا أمل في قدومه؛ ليس هناك “سكانير”، ولا وجود للمصل المضاد للسعات العقارب.. ولا حاجة لأن نتكلم عن الجراحة التي تصبح في هذه الظروف ترفاً زائدا.

ورغم كل هذا العبث، يطلبون من المرضى في تنغيير أن يأخذوا مواعد لزيارة الطبيب عبر الأنترنيت، لا تستغربوا.. يا لها من سخرية، هل هؤلاء الأطباء والإداريون لا يعرفون أن حلم المواطنين في تنغيير هو قنينة ماء باردة “بقى ليهم غير الكونكسيون”!!!

أمام هذا الوضع التراجيدي انتابتني رغبة في أن ألتقي أطباء الاختصاص بالمستشفى الإقليمي لتنغير، لكي أقذف في وجههم غضبي وحنقي: كيف لك أيها الطبيب “المحترم” أن تقف أمام الوزير وتسلم عليه بوزرتك البيضاء، كأي موظف مخلص في عمله وبعد يومين فقط أنت غير موجود في مكان عملك، كيف؟ ألا تكفي حرارة الشمس و”الزمان” المسلطة على رؤوس هؤلاء المساكين، لتزيد أنت من معاناتهم. أنت لست طبيبا.. أنت “وباء”، بل “جائحة” ضربت هذه المدينة المسكينة، وبدلا من أن تداوي جراحها ترش الملح عليها.

صباح يوم الخميس دخلت المستشفى رفقة امرأة من المنطقة، كانت تتمنى أن تلتقي طبيب الأمراض الجلدية، بغرض الكشف على ابنتها التي لم تتجاوز السنتين من عمرها، لم تكن هذه السيدة المكافحة سوى أم الطفلة “إيديا”.. الطفلة التي توفيت قبل عام بسبب حاجتها لقطع 500 كيلومتر للعلاج، وقفت خلفها أسترق السمع محاولاً أن أفهم ما يدور بينها وبين موظفة الاستقبال، فلم أفلح في ذلك، إذ كانتا تتكلمان الأمازيغية. بعد نهاية المحادثة، استفسرتها، فردت أن الطبيب غير موجود، وحتى وإن كان موجودا فعلي أخذ موعد مسبق ، فسألت موظفة الاستقبال:
_ هل طبيب العظام موجود؟
_ لا
_ هل طبيب الجلد موجود؟
_ لا
_هل الجراح موجود؟
_ لا

نظرت إليها بسخرية وقلت: “إذن لماذا هذا المستشفى موجود.. لماذا حضرتك موجودة.. لماذا يتواجد هؤلاء المرضى هنا؟ أين الإدارة؟ أنا صحافي وأريد الحديث إلى أي مسؤول إداري. عندما دخلت الإدارة لم أجد سوى ابتسامات الإداريين تقول كل شيئ دون أن تقول شيئا: “الأمر مفهوم والجواب واضح، بالأمس كان الوزير فكان الأطباء من كل التخصصات حاضرين. واليوم ليس هناك وزير ولا عدسات كاميرات ولا صحفيين فما الداعي لحضورهم. هذا قانون الإدارة المغربية، ومستشفياتها خصوصا في المناطق البعيدة مثل تنغيير”.

تذكرت عددا من المدن التي تحولت طرقاتها من فرط الحفر والإهمال والتلاشي إلى فدادين تصلح لزرع البطاطس، وكيف يتمنى سكانها أن يزورهم الملك لأن السلطات والمنتخبين لا يتذكرون الإصلاح إلا مع كل زيارة ملكية…

غادرت مستشفى تنغير وأنا محبط، عكس والدة “إيديا” التي كانت تبتسم وكأن الأمر عادي جداً، ربما لأن القاعدة هي أن لا يحضر الأطباء، والاستثناء هو أن يكون هناك طبيب على مكتبه يباشر مهامه.

 

التعليقات على مستشفى تنغير.. أو عندما يرش الأطباء الملح على الجرح بدل أن يداووه مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

تركيا.. سفن محملة بالمساعدات ضمن “أسطول الحرية” تتهيأ للإبحار إلى غزة

تستعد سفينة أكدنيز رورو، وهي جزء من تحالف “أسطول الحرية”، للمغادرة من ميناء تو…