سعيد الحركاتي*
تترجم تناقضات المسرح الدولي مختلف تفاعلات الدول سواء أكانت قوية أو ضعيفة، فمنها دول تتمادى في ممارسة قوتها ونفوذها ضاربة بعرض الحائط أخلاقيات ومثالية القانون الدولي، وأخرى تجري وراء الإنفلات من الخضوع، والتحرر من نير الإذلال والإستفزاز، حيث أننا نصادف بشكل يومي ممارسات دبلوماسية بل واتخاذ قرارات تنمي الشعور بالإذلال والضعف لدى الدول الخاضعة لسيطرة القوى الكبرى من خلال إقصائها وإبعادها من مراكز اتخاذ القرار الدولي.
لقد وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على القرار الذي سيتم بموجبه نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وما إن فعل ذلك، حتى تعالت الأصوات المنددة بهذا القرار والذي يشكل في جوهره إعترافا صريحا بكون القدس عاصمة لإسرائيل.
لقد أثبت الرئيس الأمريكي بتوقيعه هذا القرار أن هذا الزمن هو زمن المذلولين بلغة “برتراند بادي” والذي يتحدث عن الإذلال بكونه طرح للمسائل في حقل العلاقات الدولية بطريقة معكوسة، كما أن هذا القرار يضعنا أمام ثنائية ممارسة القوة والإذلال، فهو من جهة يعبر عن غطرسة أمريكا وممارستها لقوتها خاصة داخل أروقة الأمم المتحدة ولا أدل على ذلك استخدام حق النقض للدفاع عن قرارها داخل مجلس الأمن؛ أما من جهة أخرى فإنه يشكل إذلالا للعالم العربي والإسلامي بشكل عام نظرا لما للقدس من حرمة لدى المسلمين، أما ما يعتبره البعض انتصارا للقدس من خلال تصويت الجمعية العامة بأغلبية ساحقة على القرار الذي ينتقد القرار الأمريكي بخصوص نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، فهو لا يعدو سوى أن يكون مجرد ضحك على ضعاف الفهم، فكيف يمكن أن نعتبره نصرا في حين أنه لا يغير شيئا على أرض الواقع، فرفوف الجمعية العامة مليئة بمثل هذه القرارات، وهنا أستحضر ما جاء على لسان أحد الإسرائيليين عندما قال “أتمنى لهم مزيدا من مثل هذه الإنتصارات”؛ خاصة أنها لا تؤثر على المخططات التوسعية لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية تاركة للعالم الإسلامي عامة والعربي خاصة إتقان العزف على وتر الشجب والتنديد.
صراحة إن تحرك آلة الإذلال الأمريكية تجاه المقدسات الإسلامية لم يكن وليد اللحظة بل كانت البداية عندما تم تصوير عملية شنق الرئيس العراقي السابق صدام حسين وتقديمه على أنه هتلر الشرق الأوسط، هذا بالإضافة إلى أن عملية الإعدام تمت في يوم له رمزية كبيرة في مقدسات المسلمين.
إذا كانت العلاقات الدولية مرتبطة بشكل أساسي ببسط النفوذ وممارسة القوة والسيادة فإن ذلك مرده إلى وجود قوي وضعيف على المستوى الدولي وبالتالي إقرار القاعدة الأساسية التي تتعلق بكون “القوة لا تواجه إلا بالقوة”، هكذا أصبح الإذلال أمرا مألوفا في العلاقات الدولية ولا أدل على ذلك تلك الممارسات الدبلوماسية التي نشهدها في كل يوم والتي تحط من قدر دولة أو تخضعها للوصاية أو تبعدها من مركز القرار أو تشوه سمعة مسؤوليها. هكذا يسمح طرح القضايا الدولية من زاوية الإذلال باستقراء سلوكات المذلولين والمغلوبين على أمرهم في عالم ترسم القوى الكبرى معالمه وتقدم الدول الضعيفة الطاعة والإمتثال، هنا يكمن جوهر التيار الواقعي الذي يجعل من القوة ركيزة أساسية لفهم قضايا العلاقات الدولية، ونستحضر مقولة لستيفن والت يؤكد فيها “أن الأقوياء يفعلون ما يمكنهم فعله، والضعفاء يتحملون ما عليهم تحمله”.
إن المسرح الدولي يعج بالعديد من القضايا التي تلخص صراع ثنائية القوة والإذلال، ولكن تبقى قضية القدس بعد القرار الأمريكي الأخير هي أحدث قضية تقدم صورة جلية وواضحة عن ذلك، فرغم وقوف أغلب دول العالم إلى جانب فلسطين سواء في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة فإن ذلك لم يزعزع شيئا من إرادة الدولة الأمريكية من دعمها المطلق لإسرائيل أو حتى التراجع عن قرارها بخصوص نقل السفارة إلى القدس بل بهذا الإصرار تعمل على مواصلة ممارسة قوتها وإذلالها للآخرين وهنا نشير على سبيل الإستئناس إلى التهديد بقطع المساعدات المالية عن الدول التي تصوت لصالح القرار الذي يندد بقرار ترامب الأخير، هكذا فإن أمة المليار لا يسعها سوى أن تتجرع كؤوس الإذلال والمهانة حتى الثمالة بل تجديد تقديم الطاعة والولاء لتجنب غضب العملاق الأمريكي.
بالإضافة إلى ذلك لابد من الإشارة إلى أن ممارسة القوة بالشكل الذي يعتبر إذلالا واستفزازا للآخرين، من شأنه أن يساهم في خلق ردات فعل قد تتخذ طابع العنف لدى الأطراف الضعيفة، وهو ما قد يعرض مسألة تحقيق السلم والأمن للخطر ويسبب في خلق مزيدا من بؤر التوتر التي لن تساهم إلا في إراقة الدماء وإضافة العديد من القلاقل التي لن تزيد العالم سوى الفوضى.
* باحث في العلاقات الدولية