محمد عروبي*
ازداد عدد الدكاترة المعطلين بالمغرب في السنوات الأخيرة إلى درجة مقلقة دفعت المقاربات المهتمة إلى الحديث عن هذا الأمر كظاهرة بفعل تواترها واتساعها وتفاقمها. إن هذه الظاهرة التي تشكلّت ملامحها الأولى في عقد التسعينات من القرن الماضي، أصبحت اليوم تكتسي أبعادا خطيرة بفعل تمدّداتها التي وصلت إلى قطاعات كانت إلى الأمس القريب بعيدة عن خطر البطالة من جهة، ومن جهة أخرى نظرا لعدد الدكاترة الذي يرتفع سنة بعد أخرى، إذ هناك أرقام غير رسمية تتحدث عن وجود ما لا يقل عن سبعمائة دكتور معطل موزعين على مختلف التخصصات.
إن ظاهرة بطالة حملة الشواهد العليا بصفة عامة، والدكاترة بصفة خاصة تعتبر نتاجا لفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتشغيلية للدولة المغربية. ونظرا لأن المقال لا يستطيع للإلمام بكل العوامل المتداخلة والمتشابكة التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بظاهرة الدكاترة المعطلين ، فإننا سنركز بإيجاز على عنصرين أساسيين يكشفان مدى مسؤولية الحكومة في هذا المجال، وهما : محدودية سوق الشغل وعدم توافقه مع مخرجات الجامعة من جهة ، وأزمة نظام التعليم العالي من جهة أخرى.
أولا: محدودية سوق الشغل وعدم توافقه مع مخرجات الجامعة
لا يختلف شخصان في الاعتراف بحقيقة مرّة، وهي أن هناك هوّة تتسع سنة بعد أخرى بين ما تعرضه الجامعات من مخرجات، وما يطلبه سوق الشغل من كفاءات.إن هذا الأخير ورغم محدودية نطاقه بفعل ضعف أداء النظام المقاولاتي ،فإنه يتوجّه إلى المدارس العليا الخاصة للاستجابة لحاجياته من الموارد البشرية، وذلك بسبب محدودية القدرات التي يتوفر عليها أصحاب الشواهد العليا الجامعية التي لا تتوافق مع متطلبات القطاع الخاص. من هنا المسؤولية المزدوجة للدولة:
من جهة أولى، لم تعمل على إصلاح منظومة التعليم العالي في الاتجاه الذي يجعل الجامعة قادرة على مواكبة محيطها الاقتصادي والاجتماعي من خلال إنتاج مخرجات ذات جودة عالية تنافس تلك الصادرة عن المعاهد الخاصة، إذ تتفادى المقاولات ما تعرضه الجامعات نظرا لأن منهجها يقوم في غالب الأحيان على التلقين وسيادة النزعة الأكاديمية على حساب الجوانب التطبيقية،وهنا تتجلى مسؤولية الدولة في إحداث هذا التغيير. صحيح أن إصلاح 01.00 قد أتى ليحقق هذا الهدف لكن النتائج أظهرت محدودية أدائه على هذا الصعيد ، وذلك بفعل أسباب عديدة لعلّ أهمها يتمثل في غياب الأطر الكافية والقادرة على تفعيله بشكل صحيح. وبالتالي استهدفت التكوينات المهنية والمتخصصة التي قامت بها الجامعات في هذا الإطار فئة الموظفين بشكل أساسي، الذين أقبلوا عليها بغية الحصول على دبلوم جامعي لتحقيق الترقية الإدارية.
من جهة ثانية، لم تقم الدولة بالمجهود المطلوب على المستويات القانونية والمالية والمؤسساتية وغيرها لتوسيع النسيج المقاولاتي حتى يستطيع استيعاب تدفقات خريجي الجامعات ، بما في ذلك تشجيع هؤلاء على إنشاء مقاولاتهم الخاصة ( إن المبادرات التي اتخذتها الدولة في هذا السياق تؤكد على عدم وجود تخطيط مسبق يأخذ بالاعتبار إكراهات الواقع، وكانت النتيجة وراء ذلك كله، أن النتائج كانت محدودة كما وقع مثلا مع مشروع ” مقاولتي “). بل نجد أحيانا أن الدولة نفسها لا تساهم بشكل فعّال في عملية تشغيل الشباب،ففي بعض المرّات يكفي فقط أن تتخذ هذه الأخيرة قرارات عادية وعادلة لتسهيل اندماج الشباب في سوق الشغل مثل: فتح المهن الحرة كالمحاماة والتوثيق وغيرها من المهن القانونية في وجه أصحاب الشواهد العليا في الحقوق كما كان الأمر في السابق، وحذف سن الحدّ الأقصى(أي 45 سنة) خصوصا وأن هذه المهن هي مهن حرة لا تكلّف الدولة شيئا بل بالعكس سوف تستفيد منها من خلال تقليص نسبة البطالة خصوصا على مستوى حملة الإجازة، ومن خلال توسيع الوعاء الضريبي ، إذ بذل أن تعطي سوف تأخذ.
ثانيا: أزمة النظام الجامعي
من المعروف أن منظومة التعليم العالي تعاني أزمة بنيوية خانقة أدت إلى ظهور انعكاسات سلبية على عدة مستويات مثل: التراجع المهول في القدرات العلمية والفكرية للطالب،وانتشار قيّم مادية غريبة عن الوسط الجامعي، وبطالة الدكاترة…..إلخ. فبخصوص هذه النقطة الأخيرة، وهذا ما يهمنا في هذا المجال ، فإن مسؤولية الدولة تتجلى في غياب إستراتيجية توقعية لتدبير الموارد البشرية على مستوى هذه الفئة ، إستراتيجية تقوم على تخطيط مسبق قادر على توفير الأعداد المناسبة من الأساتذة الجامعيين في الأماكن المناسبة وفي الأوقات المناسبة وفق أسلوب التنبؤ بفرص العمل داخل المؤسسات الجامعية كما هو معمول به في غالبية الدول ومنها الدول المجاورة مثل: الجزائر وتونس. ولعلّ غيّاب هذه الإستراتيجية يتجلى من خلال العجز الموجود على مستوى التأطير الجامعي.
فرغم أن قانون 01.00 ونظام 2004 قد جاءا بإصلاحات هدفها ربط الجامعة بمحيطها الاقتصادي والاجتماعي ، وتنمية دورها في البحث العلمي ، فإن النتائج كانت محدودة للغاية بسبب عوامل عديدة أهمها عدم توفير العدد الكافي من الأساتذة المساعدين القادرين على بلورة هذا المشروع على أرض الواقع، حيث وقع عبء تدبير الوحدات والمسالك والقيام بعمليات المراقبة والتقييم على عاتق الأساتذة الباحثين الذين غالبا ما كانوا يستعينون بخدمات الأساتذة العرضيين، ورغم ذلك بقي الخصاص كبيرا على مستوى التأطير الجامعي ، ومن المنتظر أن يزداد تفاقما في السنوات المقبلة بفعل تقاعد أكثر من 1000 أستاذ جامعي ، وذلك حسب إحصائيات وزارة التعليم العالي.
سياسة حكومية ارتجالية
إذا كانت مشكلة الخصاص في عدد الأساتذة المساعدين مرشحة لأن تتفاقم في السنوات القادمة، ففي المقابل يتوقع أن يصل عدد الطلبة في الجامعات إلى حوالي مليون طالب سنة 2018 حسب أرقام حكومية. وبالتالي، فالسؤال المطروح هنا هو كالتالي: كيف ستحلّ الحكومة هذه الإشكالية التي تتمثل كالآتي : من جهة ، هناك خصاص مهول في الأساتذة الجامعيين، وهذا الخصاص مرشح لكي يزداد تفاقما في المستقبل القريب ، وفي الجهة المقابلة هناك ازدياد تصاعدي في أعداد الطلبة الذين يلتحقون سنويا بالجامعات ؟
إلى حدّ الآن أبانت الحكومة السابقة عن نظرة ضيقة في التعامل مع هذه المشكلة، وقد تجلى ذلك من خلال المبادرات التي اتخذتها في هذا السياق، وهي كالتالي:
ــ اللجوء إلى حلّ ” التحويل” أي تحويل الموظفين الحاصلين على الدكتوراه من القطاع العام إلى المؤسسات الجامعية لسدّ ــ جزئياــ العجز الموجود ، وهو حل أملته اعتبارات مالية صرفة. ومثل هذا الإجراء يتنافى مع منطق اشتغال المؤسسات الجامعية التي تحترم نفسها،فهذا القطاع بالذات يجب مقاربته من خلال رؤية إستراتيجية شاملة واستشرافية تأخذ بالاعتبار الجوانب الإنسانية والعلمية والمعرفية قبل العناصر المالية.
ــ اتباع سياسة “الندرة” في تدبير حاجيات هذا القطاع، وقد تجلى ذلك في قلة الوظائف التي أعلنت عنها وزارة التعليم العالي والموجهة نحو فئة الأساتذة المساعدين.
ــ التعاقد مع الطلبة الباحثين غير المؤهلين للعمل داخل الجامعات كمؤطرين للدروس التوجيهية والتطبيقية ، مع ما ينتج عن ذلك من انعكاسات سواء على مستوى العملية التعليمية أو على صعيد البحث الجامعي ، إذ المطلوب من الطالب الباحث في هذه المرحلة هو التركيز على جودة أطروحته الجامعية قبل كل شيء.
الأساتذة العرضيون
بفعل الخصاص الموجود على مستوى التأطير الجامعي، تستعين الجامعة بالأساتذة العرضيين (vacataires)الذين يعتبرون الطرف المظلوم في هذه المعادلة، على اعتبار أنهم مطالبون بالقيام بأشغال التدريس الجامعي ومساعدة الأساتذة الباحثين في عمليات المراقبة والتقييم مقابل تعويضات مالية متواضعة قد لا تصلهم أحيانا ، إلا أنه من المؤكد أنه عندما يتوصلون بها ، فإن ذلك يتم في السنة الجامعية الموالية!
كما لا يتوفرون على ضمانات بأن مجهوداتهم التي يقومون بها لفائدة الجامعة لن تذهب سدى وسوف تؤخذ بالاعتبار عند الترشح لاجتياز المباريات، إلا أنه ومع الأسف ، غالبا ما يجدون أنفسهم ضحية علاقات زبونية تتحكم في منظومة المباريات، وهذا الأمر يعرفه الجميع بما في ذلك الوزارة المعنية، وسبق للصحافة أن تحدثت عنه. فداخل هذه الفئة ، يمكن أن نجد من قضى عشر سنوات في التدريس الجامعي في إطار ما يسمى (vacation)، ويتقدم للمباريات كلما تم الإعلان عنها ، إلا أنه وفي كل مرة تخيب آماله حتى في الحصول على فرصة الوقوف أمام اللجنة العلمية، ليس لوجود قصور من جانبه ، فسيرته الذاتية تشفع له ، وإنما يتم إقصائه بسبب سطوة العلاقات الزبونية المستشرية داخل الحقل الجامعي. وهكذا تجري الأعوام ، ويجد هؤلاء الأساتذة العرضيون أنفسهم وقد تجاوزوا سن 45 عام لأسباب خارجة عن إرادتهم. فيقع عليهم الظلم مرتين: مرة بسبب عدم إدماجهم في التعليم العالي استنادا إلى شواهدهم وبحوثهم ومنشوراتهم وتجربتهم في التدريس الجامعي، ومرة بإقصائهم من اجتياز المباريات لأن القانون يحدّد سن 45 كحدّ أقصى ، مع العلم أن الذنب ليس ذنبهم لأنهم ما كانوا ليظلوا هكذا لو كان هناك احترام تام لمبدأ تكافؤ الفرص.
إن هذه الفئة بالذات تشعر بالغبن، ولديها قناعة بأنها ضحية مؤامرة ما، إذ كيف يمكن تفسير عملية تهريب أغلب المباريات الموجهة لانتقاء أساتذة مساعدين نحو فئة الدكاترة الموظفين في حين أن المنطق يقول بأن الدكاترة المعطلين هم الأولى؟ هذا مع العلم أن هذا الإجراء هو غير دستوري لأنه يضرب في الصميم مبدأ تكافؤ الفرص. وكيف يمكن تفسير قيام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في عهد الوزير السابق السيد لحسن الداودي بتمكين الطالب الباحث الذي لم يناقش بعد أطروحته الجامعية لنيل دبلوم الدكتوراه بعقود للتدريس الجامعي في حين أن المنطق يقول بأن الأجدر والأولى هو الدكتور المعطل؟ أكثر من ذلك ، كيف يمكن تفسير صدور المذكرة رقم 4588ـ2 المؤرخة 22يونيو 2017 التي وجهها كاتب الدولة في التعليم العالي السيد خالد الصمدي إلى رؤساء الجامعات يطلب منهم حصر الخصاص الموجود على مستوى الأساتذة الجامعيين ومحاولته سدّه (أي الخصاص) بالاستعانة بأساتذة التعليم الثانوي الحاصلين على الدكتوراه؟
إن الإحساس بالإجحاف والظلم والتنكّر للتضحيات التي قدموها للجامعة هو الذي دفع الدكاترة المعطلين إلى تأسيس إطار جمعوي للدفاع عن حقوقهم العادلة والمشروعة، والتي يمكن اختزالها في مطلب أساسي ألا وهو الإدماج المباشر في أسلاك التعليم العالي، وهذا المطلب يتأسس على الحق ، وعلى العقل ، وعلى المنطق.
ــ على الحق نظرا لأن الدستور يضمنه، وتكفله أيضا الإعلانات العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تلزم الدولة المغربية.
ــ على العقل، على اعتبار أن هناك خصاص مهول حاليا في التأطير الجامعي، وهذا الخصاص لا يمكن سدّه إلا بعملية توظيف شاملة وواسعة من شأنها الاستجابة لنسبة التأطير المتعارف عليه دوليا، وإلى الرؤية الاستراتيجية للتربية والتكوين التي أعدها المجلس الأعلى للتربية والتكوين.
ــ على المنطق، بحكم أنه لا يمكن أن نحكم بالعطالة على أناس أفنوا زهرة عمرهم في التحصيل والعطاء العلميين، ونقول لهم، وبعد هذا المسار الطويل، هكذا و ببساطة آسفون ليس لدينا ما نقدمه لكم!!
فإذا كانت الدولة المغربية قد سبق لها وأن وجدت حلا للدكاترة المعطلين الذين كانوا منضوين تحت لواء التنسيقية الوطنية للدكاترة المعطلين ، فإن بإمكانها، ومن الواجب عليها أن تجد كذلك حلا عادلا يستجيب لانتظارات هؤلاء الدكاترة ، وبذلك تكون قد أنصفت هذه الفئة، وقدمت خدمات جليلة للجامعة التي هي في أمس الحاجة إليهم.
*باحث جامعي حاصل على الدكتوراه في القانون العام وأستاذ زائر بكلية الحقوق بالدار البيضاء.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…