محمد الناسك
في الحلق شجى وفي العين قذى من حال دبلوماسيتنا العتيدة، فكلما تم تعيين ممثلين للمغرب في عواصم العالم، تجدني استرجع تاريخ هذه الدبلوماسية منذ أيام دار النيابة السعيدة، وحتى يومنا هذا الذي ما زالت فيه قضية الصحراء تشكل كعب أخيل المغرب. وأسأل نفسي ما الذي تغير وما الإنجازات التي تحسب لهذه الدبلوماسية، لقد فشلت دبلوماسيتنا فشلاً مدويا في هذه القضية أمام دبلوماسية كان يقودها وزير خارجية “ما زال فمّو سنان لحليب”. وقد أخبرني أحد رجالات الحركة الوطنية، وهو علي بركاش رحمة الله عليه، أن أحد دبلوماسيينا كان يترك لاهاي في عز المعركة من أجل الصحراء وييمم شطر جنيف حيث عشيقته.
أموال الشعب تهدر، ولا إنجازات تذكر في وقت تابع العالم باحترام وتقدير كبيرين ما حققته دبلوماسية “دولة الملالي” من إنجازات وكيف دوخ محمد جواد ظريف وريث “حاجي واشنگتن” عتاة دبلوماسيا الكبار.
ولا أقول هذا الكلام عن دبلوماسيتنا انطلاقا مما درسته، أو مما أقرأه، وأسمعه، لكن مما عاينته؛ ففي البلد حيث أقيم لا أعرف لسفارتنا نشاطا يذكر ما عدا جمع الجالية حول قصع الكسكس لمناسبة عيد العرش، وأيضا جمع معلومات لا طائل منها عن الجالية، يزودها بها أفراد من هذه الجالية، وطنيون أكثر من غيرهم. وقد ذكر لي مصدر كان على علاقة بالسفارة بعض المعلومات عني، فاستغربت اهتمام سفارتنا بمثل هذه التفاهات، وأدركت أسباب الفشل الذي يلازم دبلوماسيتنا.
ومنذ سنوات خلت حاولت مع مجموعة من الزملاء تشكيل رابطة للإعلاميين المغاربة بالخارج فاقترح بعضنا اللجوء إلى السفارة لعلها تساعدنا في شيء، ورغم أني لم أكن مقتنعا بجدوى هذه الخطوة عرضت مع أحد الزملاء الموضوع على السفارة فطلبوا ملفا؛ لأن هذا الذي كانوا يريدون، وكما يقول المثل عندنا في تافيلالت “تقطع الحبل وهرب الكلب”.
وهذا ما يجعلني أشعر بالانقباض كلما كانت لي حاجة في هذه السفارة، فأجد نفسي أماطل وأسوِّف؛ لأن سفارتنا كئيبة باردة، تذكرني بالمقاطعة، وبذل المقاطعة، ومقدم الحومة.
أذكر أني ذهبت ذات يوم إلى هناك، وبينما أنا أنتظر دوري، ليس لأن الموظف في شغل، بل لأنه يريدني أن أنتظر لحاجة في نفسه، مرّ السفير أمامي ونظر إلي نظرة “وقيلا تموت وقيلا تحيا” فلم يسلم علي ولا على أحد من الموظفين، فقلت في نفسي، هب أن سفيرنا هذا لم يسمع بـ “أفشوا السلام” ولابـ “الابتسامة صدقة” فعلى الأقل يجب أن يتصف بالقليل من “إيتيكت الدبلوماسيا” ويلقي السلام ولو تكلفاً على مواطنين راتبه من ضرائبهم.
وللإنصاف أخبرني أكثر من صديق أن خدمات سفارتنا تحسنت، لكن هذا التحسن ليس قاعدة أو سياسة، فالأمر يرتبط بأشخاص لا غير.
وكل ما ذكرت لا ينفي وجود استثناءات، لكنه للأسف يبقى الأمر مجرد استثناء. فهناك سفراء يستحقون التقدير والاحترام، يخدمون وطنهم بإخلاص ولا يشغلون أنفسهم بالتجارة وبشبكة سفيرات النوايا الحسنة اللواتي تفوقن في رسم صورة نمطية سلبية عن بلادنا، يتضرر منها المغاربة غاية الضرر.
نعم يوجد سفراء يعملون بإخلاص من أجل المغرب و”تيحللو رزقهم”؛ فقد ذكر لي محمد العربي المساري رحمه الله أنه لما عين سفيراً في البرازيل وجد سفارتنا هناك ميتة، وشبه مقطوعة عن العالم الخارجي؛ فأحياها وأصبحت لها علاقات بالآلاف، وما أن وطئت أقدامه بلاد السامبا حتى شرع في تعلم اللغة البرتغالية وأمر العاملين بالسفارة بتعلمها.
وذكر لي خلال حوار معه ضمن فيلم وثائقي عن المغاربة اليهود، أن اليهود الذين هاجروا إلى البرازيل في القرن التاسع عشر، كانوا يأتون إلى السفارة ليعرضوا خدماتهم حبا في وطنهم المغرب.
وحكي لي الدكتور عبدالهادي التازي رحمه الله، وكان ذلك بمنزله بالرباط، أنه لما عُين سفيراً للمغرب ببغداد وجد نفسه مضطرا لتعلم اللغة الانجيلزية (قال لي العبارة باللغة الانجليزية) ولم يتوان في ذلك.
تذكرت وأنا أقرأ خبر التعيينات الأخيرة لسفراء في عدد من العواصم فيلما شاهدته منذ سنوات، وقد شاهدته مرة أخرى قبل أن أكتب هذا المقال.
الفيلم إنتاج إيراني يحكي بأسلوب درامي ساخر قصة أول سفير إيراني في العهد القاجاري عينه السلطان ناصر الدين شاه بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وكان ذلك سنة 1889. وهذا السفير هو حسین قلی صدر السلطنه المعروف باسم “حاجي واشنگتن” (الحاج واشنطن). أنتج هذا الفيلم سنة 1982 أي بعد بضع سنوات من انتصار الثورة الإيرانية، لكنه تأخر عرضه حتى سنة 1998.
حسين قلى هذا هو الابن الثاني لرئيس الوزراء ميرزا أغاخان نوري، عينه ناصر الدين شاه وزيراً مفوضاً ومبعوثاً فوق العادة في العاصمة الأمريكية.
الفيلم حافل بالمواقف الطريفة، ويذكر مشاهده بحال دبلوماسيتنا في أيامها الأولى وفي يومنا هذا حيث تغيب وما زالت معايير الكفاءة في اختيار الدبلوماسيين، بينما قد يكفل الفوز في “طرح ديال الكارطا” للبعض منصب سفير، وقد تلقي “غضبة” بالبعض في مجاهيل أفريقيا أو أمريكا اللاتينية.
وصل صاحبنا “حاجي” إلى واشنطن مع مساعده، ودخل “جنته” وأخذ يتجول فيها مشدوها وهو يقول: “هنا عالم آخر، حياة أخرى، لا يوجد متسولون، ولا بناية من طين، الأنوار للجميع… الله أكبر إنها القيامة. معاذ الله، إنها الجنة بعينها”. فقال له المترجم، الأحرى أن تقول “الله أكبر” بالأنجليزية، فرد عليه السفير: “إنك لست مترجما بيني وبين الله إنه يعلم السر وأخفى”.
سيفاجأ “حاجي” أن مساعده المترجم (ميرزا محمود خان)لا يجيد الأنجليزية لما طلب منه إعداد خطاب الترحيب الذي سيلقيه أمام الرئيس الأمريكي جروفر كليفلاند، رئيس الجنة، وليُخرج المترجم نفسه من هذه الورطة أخبر السفير أنه حصل على خطاب السفير العثماني وسيستبدل كلمات “العثمانيين” بـ “الإيرانيين” و”الشعب التركي” بـ “الشعب الإيراني”، أما كلمة “الشاه” فهي مشتركة بين الأتراك والإيرانيين. لكن “حاجي” فضل أن يلقي خطابه بالفارسية باسم “المرشد الكامل الشيخ المتسم بصفات الأرباب ناصر دين الله”. ولما أنهى خطابه أهدى للرئيس الأمريكي حفنة فستق أخرجها من جيبه، وكان قد أهدى حفنة من قبل لوزير الخارجية.
لا يتسع المقام لسرد كل تفاصيل فيلم مدته ساعة ونصف، المهم أن صاحبنا “حاجي” كان مقطوعا عن العالم، إلى حد أنه لم يعلم بانتخاب رئيس أمريكي جديد، وبعد أن اكتشف أن وجود هذه السفارة لا جدوى منه، كما هو حال عدد من بعثاتنا الدبلوماسية، اضطر إلى الاستغناء عن الموظفين الثلاثة الذين عينهم لما وصل إلى أمريكا، وسمح للمترجم بالدراسة في كلية الطب في واشنطن.
هذا ما كانت عليه حال الدبلوماسية الإيرانية في القرن التاسع عشر، وها نحن نرى اليوم ما أصبحت عليه، فهل من معتبر.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…