هافنغتون بوست
انتظر جوشوا (22 سنة) الـ”بار ميتزفا” (حفل البلوغ عند اليهود) الخاص به، ليودع الطفولة ويلتحق بعالم الكبار في سن الـ13، قامت عائلته بجميع التحضيرات وانتقلوا خصيصاً من الولايات المتحدة الأميركية إلى إسرائيل للاحتفال، حضر الأهل والأصحاب مصحوبين بالهدايا وبطاقات التهنئة.
وفي خضم الصخب الذي يصاحب الحفل، لفتت انتباه جوشوا عادات وتعابير وجوه غريبة يقوم بها بعض أقاربه، فتارة يخرجون له لسانهم وهم يبتسمون، وأخرى يرمونه بقطع الحلوى، لم يستطع استيعاب ما يحدث، فما يقومون به لم يسبق له أن رآه في أي “بار ميتزفا” من قبل.
سأل والده عن مضمون ذلك ومعناه فأخبره أنها عادات “السفرديم” (يهود الشرق) في الاحتفال بهذه المناسبة، التي تشبه إلى حد كبير عادات العرب، وبدأ يشرح له عن جذوره المغربية، وعن ثقافة البلاد التي تنحدر منها جدته التي هاجرت بلدها منذ زمن طويل لتستقر في الولايات المتحدة.
الـ”بار ميتزفا” كما يقول جوشوا، لم يكن جسر العبور من الطفولة إلى الرشد فقط، بالنسبة له، بل كان الخيط الذي سيربطه ببلد يفتخر بالانتماء إليه -ولو جزئياً- والذي سيخلق لديه فضولاً أكبر للبحث عن جذوره وعن خصوصية هذا البلد (المغرب) الذي يعيش فيه اليهود والمسلمون في تلاحم وتعايش منذ مئات السنين.
متى بدأ الوجود اليهودي في المغرب؟
تتفق معظم الدراسات على أن الوجود اليهودي في المغرب قديم، وعلى أن قدوم اليهود إلى شمال إفريقيا جاء في أعقاب خراب الهيكل الأول (تدمير هيكل سليمان المقدس على يد البابليين أيام الملك البابلي نبوخذ نصر عام 586 قبل الميلاد)، ومنه انتشرت اليهودية بين سكان المغرب الأوائل.
وتعزز هذا التواجد بعد سقوط الأندلس أواخر القرن الخامس عشر باليهود النازحين من جنوب إسبانيا، الهاربين من المجازر الجماعية وحملات التنصير التي استهدفت اليهود والمسلمين في ذلك الوقت.
لماذا كشف ديانته الحقيقية؟
أثناء زيارات جوشوا كوهين ميلر الأولى لبلده الأم، حسب تصريحه لـ”هاف بوست عربي”، فضل عدم الكشف عن ديانته لعامة الناس، وارتأى أن يحتفظ بذلك لنفسه والمقربين منه فقط. والإفصاح بكونه يهودياً ذا أصول مغربية لم يكن رأياً صائباً أو مريحاً بالنسبة إليه وقتها، ويؤكد قائلاً: “كنت خائفاً من ردة فعلهم، فبعد كل شيء، عدد قليل جداً من اليهود لا يزالون يعيشون في المغرب اليوم”.
ولكن ما حدث في إحدى رحلاته على القطار في صيف سنة 2014، غير مسار الأحداث ووجهة نظر جوشوا، إذ يروي قائلاً: “ذكرت أثناء حديث لي مع مسافرين في رحلة قطار بين الرباط ومراكش أن جدتي مغربية، لكن من دون أن أذكر ديانتها، وبما أنهم لاحظوا معرفتي الكبيرة بتاريخ وثقافة البلد وبمدى افتتاني به، سألتني فتاة كانت تجلس بجانبي عن ديانتي، تردَّدت بادئ الأمر لكني قرَّرت أن أقول الحقيقة. مِمَّ سأخاف؟ ولماذا أخفي حقيقة أنني يهودي عن أشخاص يتحدثون إليّ منذ ساعتين؟
عندما أجبت تحمسوا جدا، وإذا برجل بجانبي يقول إنه ليس هناك فرق بين يهودي ومسلم في المغرب، كما أتذكر سيدة طلبت من ابنتها الصغيرة أن تأتي لتقبِّلني على خدي لأنني “أخ” قبل أن تفتح حقيبتها وتقدم لي بعض الحلوى، حينها قلت لنفسي إن ما حدث الآن هو ما يجعل هذا البلد مميزاً وفريداً، فأنا لا أتخيل عيش نفس السيناريو في بلد عربي آخر، فقط في المغرب تستطيع أن تجد هذا النوع من التعايش”.
ما يعيشه ويتعلمه جوشوا في كل مرة يزور المغرب، لم يساعده في فهم تراثه وتاريخه فقط، بل حفزه على اختيار التاريخ والعلوم السياسية كتخصص أكاديمي ليعمق البحث في العلاقة المميزة التي جمعت وتجمع المسلمين واليهود في المغرب، وشجعه على التحدث عن هذا الأخير في جميع الملتقيات الشبابية التي يحضرها، وأن يقوم بذلك كيهودي يفتخر بمغربيته يسعى لتقوية العلاقات بين اليهود والمسلمين بغض النظر عن التعقيدات السياسية المتواجدة في المشرق، وخاصة في ظل التوتر الذي تعيشه المنطقة، الناتج عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي يرفض جوشوا أن يكون هذا هو ما يحدد العلاقة بين اليهود والمسلمين بشكل عام.
كيف فاز بقلوب المغاربة؟
استغل جوشوا شبكات التواصل الاجتماعي بشكل كبير ليمرر رسالته إلى أكبر عدد ممكن من المسلمين واليهود. أو بمعنى أصح ليصحح الصورة النمطية المرسومة لليهودي في الذهن العربي، وذلك بعد أن تلقى أحد فيديوهاته صدى جماهيرياً كبيراً وانتشاراً واسعاً لم يكن في انتظاره، حيث يظهر في الفيديو وهو يهاجم الناشطة المنتمية لجبهة البوليساريو “أمينتو حيدر”، في أحد مقاهي واشنطن العاصمة، وذلك على خلفية خوضها لإضراب عن الطعام في أحد مطارات إسبانيا، ناعتاً إياها بـ”خائنة المملكة المغربية”.
وبفضل هذا الفيديو استطاع جوشوا أن يحقق شعبية كبيرة وسط اليهود والمسلمين من المغاربة في المغرب، وفي الولايات المتحدة الأميركية.
دفع ما سبق بأحد أصدقائه الصحفيين أن ينصحه بكتابة “رسالة حب” كيهودي لـ”أخوته” المسلمين، يتحدث فيها عن التجارب التي عاشها في المغرب وعن علاقته كيهودي بالمسلمين، والتي تلقت أصداء جد إيجابية من قبل القراء المغاربة بعد أن تم نشرها على
موقع إخباري مغربي، في حين أن أغلب الردود التي تلقاها من طرف قراء عرب آخرين، بعد نشر الرسالة في أحد المواقع العربية، كانت مستفزة.
وتلقى جوشوا العديد من الإهانات والشتائم، وهذا يعكس مرة أخرى الفرق الكبير في المواقف بين المغاربة والمصريين على سبيل المثال تجاه اليهود، حسب تعبيره، ويضيف “لدي العديد من الأصدقاء المسلمين من الدول العربية الأخرى الذين أتقاسم معهم رؤيتي حول التسامح والتعايش. لكن المواقف المجتمعية في تلك البلدان ليست مفتوحة مثل المغرب. وهذه تمثل عقبة في وجه التواصل لنشر هذه الرؤية للجميع”.
المتشددون
وبما أن المجال الذي اختار جوشوا أن ينشط فيه بدا غريباً للبعض، فمن الطبيعي أن يتعرض للمضايقات من طرف متشددين، “عادة ما ينعتونني بالكافر”، يقول المتحدث.
ويضيف: “أحياناً أجيبهم باقتباسات من القرآن الذي يأمر المسلمين باحترام أصحاب الديانات الكتابية وأخرى أغض النظر عما قيل”، ويركز كوهين في معظم نقاشاته على نقطة يعتبرها مهمة، وهي حقيقة أن الإسلام واليهودية ديانتان ولا وجود لأي صراع بينهما، في حين أن المشكلة موجودة فقط في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهو صراع بين شعبين، ويبرر قائلاً: ” يجب أن نعترف أنه من الطبيعي أن يتعاطف اليهود مع إخوانهم اليهود في إسرائيل، ومن الطبيعي أن يتعاطف المسلمون مع إخوانهم المسلمين في فلسطين، ولكن من الخطورة جداً أن نصنف هذا الصراع السياسي على أنه صراع ديني، ولا يمكن أن نجعل من صراع سياسي على قطعة أرض القصة الوحيدة التي تحكي عن علاقة المسلمين واليهود”.
وحسب وجهة نظره، فإن الحوار والعلاقات الإيجابية بين اليهود والمسلمين خارج هذا الصراع يمكن أن تساعد في تشكيل المستقبل وإنهاء هذا الصراع.
هذا الشاب الأميركي الذي يفتخر بكونه يهودياً من أصل مغربي، لا يتوانى عن الدفاع والترويج لعلاقة المسلمين واليهود بكل ما أوتي من طاقة. وذلك بحضوره الدائم في كل الأنشطة والندوات والمحاضرات التي تتطرق للعلاقة بين اليهود والمسلمين، مرتدياً زيه المغربي التقليدي-المعاصر، ونشره للعديد من المقالات باللغتين العربية والإنكليزية، مذكراً بنموذج المغرب الذي يحتوي على أكثر من ثلاثين معبداً وعدد كبير من الأضرحة والمزارات التي يحج إليها اليهود من جميع بقاع العالم، وبالتالي يعطي أكبر مثال على التعايش بين الديانتين، لتلهم الآخرين في جميع أنحاء العالم، وخاصة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومفندا بذلك ادعاءات المتطرفين الذين يعتبرون أن المسلمين واليهود أعداء منذ الأزل وإلى الأبد.
أهل الذمة
يتعايش اليهود والمسلمون في المغرب رغم أن عدد اليهود في تناقص مستمر، إذ لم يتجاوز 75 ألفاً في إحصائيات سنة 2010، أي ما يعادل 0.2% من سكان المغرب، إلا أن حضورهم قوي في الساحة الفنية والاقتصادية وكذلك السياسية، وذلك راجع للانفتاح الذي يعيشون فيه، فرغم كونهم أقلية منذ مدة قوية، رفضوا أن يعيشوا في مجتمعات منغلقة، وفضلوا أن يتلاحموا مع المسلمين بدلاً من عزل أنفسهم.
وعُزِّز هذا التلاحم بوضعية “أهل الذمة” التي كانوا يتمتعون بها منذ القدم، وهي وضعية حددت سلوك المسلمين إزاءهم، فكان موقفهم قوامه عدم الاعتدال والتعامل بالمعروف، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لليهود، دينية أو قانونية أو وقفية أو قضائية، بالإضافة إلى رفض ملك المغرب آنذاك محمد الخامس الموافقة على القوانين النازية لحكومة فيشي، ورفضه تسليم الرعايا اليهود لألمانيا، حيث قال: “لست ملك المسلمين فقط، وإنما ملك لكل المغاربة”.
بالنسبة لجوشوا فإن مفاتيح المستقبل في أيدي الشباب، ويقول: “بوصفنا الجيل الجديد يجب أن نجتمع معاً ونجعل رؤيتنا حقيقة واقعة في جميع أنحاء العالم، وبالتالي مبدأ التسامح والتعددية يجعل من العالم مكاناً أفضل”.
ويؤمن بأن السلم والتعايش يحققه الشعب، ويقول: “قبل أن يتمكن السياسيون من تحقيق السلم، أعتقد أنه يجب أن يأتي من الشعب أولاً، ويمكن للقادة السياسيين أن يساعدوا في تيسير حوار السلام لا أقل ولا أكثر. ولكن السلام يأتي في نهاية المطاف من الشعب أولاً”.
عاجل.. مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019
صادق مجلس النواب في جلسة عمومية، اليوم الجمعة، بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2019…