الطريق نحو القبة ( الحلقة الثالثة)
محمد طروس
يتردد السيد النايب مجددا.. يقرر أن يعود من حيث أتي.. أن ينعم بما اكتنزه.. أن يغادر القبة نحو فضاءات أكثر رحابة.. يطرد مخاوفه.. تستمر السيارة السوداء في السير نحو القرية.. تتحدى الحفر والأحجار.. يطلق بوقها عاليا.. تطل الرؤوس من الأكواخ، من المقهى العتيق، من نوافذ البيوت الساقطة.. تتابع العيون السيارة الغريبة.. تتحرك الأجساد الخائرة نحوها. يتفرس الأشباح وجه السائق. يدققون النظرفي ملامحه.. يتبادلون النظرات.. الإشارات والإيماءات.. يفحصون أكثر فأكثر.. الملامح مالوفة.. قديمة.. لكن أين غابت علامات البؤس.. تجاعيد الحرمان.. لفحات الشمس.. آثار الأوساخ والغبار.. كيف أصبح الوجه مكتنزا.. كيف أصبحت الأسنان ناصعة البياض؟ من أين هذا الجاه.. هذه السيارة الفخمة؟.. تتحول الأسئلة الصامتة همسات.. تصير الهمسات والتعليقات بين الآذان.. تصبح صراخا.. يرتفع صوت بدون جسد:
– واش ما عرفتوهش؟
يتلفت الجميع نحو مصدر الصوت.. امرأة بدون ملامح.. ما فوق الستين.. جسد آخذ في التقوس.. ثياب رثة ذكورية.. يصرخ الجميع متسائلين:
– من يكون؟
تتوقف السيارة.. يترجل السيد النايب.. تتسلط عليه العيون.. تتجه نحوه الأجساد.. تضيع العجوز في الزحام..
يقترب السيد النايب من أهل القرية.. يجيل النظر في الحشد المتحلق حوله..يتأمل الوجوه.. يتذكر بعضها. وجوه تقفز إلى ذاكرته في صورها القديمة. يقارن مع الصور الجديدة.. يشعر بالفزع.. أشباح مغبرة.. وجوه خرساء.. أجساد مترهلة.. عيون منكسرة.. بقايا بشر..
يتحرك.. يفسحون له الطريق.. يصعد فوق سور متهدم.. يحرك لسانه المشحوذ.. يخاطبهم:
” أعرف أنكم تعرفونني.. أنكم ناقمون علي.. أقرأ في عيونكم غضبا مختنقا.. حسدا من النعم التي أرفل فيها.. كنت أتمنى أن تستقبلوني بالزغاريد والهتافات.. أن تحتفلوا بعودتي.. أن تفخروا بالبطل الذي صنعتموه.. أنتم السبب إن أنا نسيتكم.. رميتموني في عالم غريب.. في متاهة من النعم والملذات.. منحتموني السلطة والجاه.. فكيف لي أن أتذكركم؟.. أنتم المسؤولون ..” يغمد لسانه لحظة.. يأخذ نفسا.. يستأنف: ” ثم ما هذه الوضعية المزرية البئيسة التي تعيشون فيها.. ما هذه الفظاعة؟ كيف رضيتم بالعيش في الإهمال والحرمان؟ كيف قبلتم الإقصاء والتهميش؟ لا تنظروا إلى باستغراب.. أنتم المسؤولون..”.. ينهي السيد النايب خطبته.. تستولي البلاهة على العقول.. تتحرك الأشباح نحو جحورها..