عبد الله الجباري
بعد استشهاد الشاب محسن فكري بمدينة الحسيمة، في سياق ما عرف حينها بـ”طحن مو”، تحرك الشارع هناك، وتدخلت الدولة بمنطق عهد الثمانينيات من القرن الماضي، ولم يكن لها من هاجس سوى امتصاص الغضب، دون أن تنزل بكل ثقلها لقراءة الوضع، وكأنها لم تحدس مآل الاحتجاج، ولم تخمن في ما قد يقع مستقبلا، وكأن المسكنات تحقق الشفاء والتعافي.
وفي مقابل مسار الدولة، عرف الحراك مسارا حضاريا، حيث كان طيلة شهور، ينزل إلى الشارع بصيغة دورية، حيث لم يحتج أبناء المنطقة يوميا، بل كانوا ينزلون إلى الشارع مرة في الأسبوع، وهو ما يعطي للدولة فرصة التدخل المُجْدي، دون ضغط، خصوصا إذا استحضرنا أن أغلب التظاهرات لم تعرف تغطية إعلامية من قبل المواقع الإلكترونية والصحف الورقية، وهو ما يدل على أن الدولة لم تكن تحت الضغط.
بعد هذا الهدوء النسبي، أو الاحتجاج المتعقل، تدخلت الدولة برعونة، واستخدمت وسائل الإعلام الرسمية، وذلك من خلال اجتماع وزير الداخلية وزعماء أحزاب الأغلبية، الذي ناقش الوضعية بمنطق متخلف جدا، وخرج على إثره زعماء الأغلبية بتصريحات العمالة والانفصال، هذه الخطيئة السياسية كانت الفيصل في الحراك، حيث حولته من الهدوء النسبي إلى التأجيج، وأثمر إضرابات عامة ناجحة في المنطقة، وهو ما بيّن أن الحراك يعرف حاضنة شعبية مهمة، وزاد الطين بلة، خطبة وزارة الأوقاف التي كتبت بطريقة غير حكيمة، حيث تحدثت عن الفتنة، وكأن وزارة الأوقاف تفكر بعقلية العصر الوسيط، عصر تخصص الوزير. فزادت الاحتقان، وأججت الأوضاع.
بعد هذا، تدخلت الدولة بمنطق الاعتقال والمحاكمة، وهو ما عبرت عنه أغلبية الشعب المغربي بالرفض، سواء من خلال الوقفات الاحتجاجية عبر ربوع الوطن، أو من خلال مسيرة احتجاجية وطنية بالرباط، أو من خلال احتجاجات أبناء الجالية المكثفة والمتكاثرة في عواصم ومدن أوربا.
بعد هذا المسار، أصدرت محكمة الدار البيضاء في حق المعتقلين، بعد شهور من التقاضي، أحكاما قاسية، منها عشرون سنة نافذة في حق مجموعة من المعتقلين. فما هي مسارات القضية ؟
بناء على متابعة القضية وتفاصيل مجرياتها، يتبين لي أن لها ثلاثة مسارات :
- مسار القانون.
- مسار العدالة.
- مسار الإنصاف.
المسار الأول : غني عن البيان، أن المسار القانوني للقضية، لا يحيد عن احتمالين اثنين :
- الاحتمال الأول : أن المحاكمة غير قانونية، وأنها عرفت اختلالات مسطرية، أو خروقات قانونية.
- الاحتمال الثاني : أن المحاكمة سليمة شكلا ومضمونا.
ويمكن لرجال القانون أن يناقشوا الأحكام ويعلقوا عليها فقها وقانونا، وهو ما قام به الأستاذ النقيب عبد الرحيم الجامعي، الذي تبنى الاحتمال الأول، وعدّد مجموعة من الخروقات، أسس اعتمادا عليه رأيه الذي لخصه في جملة ذات أثر عميق، وهي أن ليلة النطق بالحكم كانت ليلة افتضاض بكارة العدالة، إضافة إلى الأستاذ محمد شيلح الذي كتب باختصار شديد، أن الأحكام القضائية القاسية جعلته يحس بحزن شديد، لأنه أفنى عمره في تدريس القانون. هذه العبارات من هذين الأستاذين تشي بما تركه الحكم القضائي من جروح في نفسيهما.
وفي المقابل، تبنى غيرهما الاحتمال الثاني، وأشهرهم رئيس النيابة العامة الأستاذ عبد النباوي، الذي يدل كلامه على ارتياح نفسي، لأن المحكمة راعت أكثر ظروف التخفيف. وعموما، فهو لا نتصور منه أن يقول غير هذا.
المسار الثاني : مسار العدالة.
هنا أجزم أن المحاكمة لم تكن عادلة إطلاقا، وهذا ليس طعنا في المحكمة وهيأتها، وليس مسّأً بهيبة المحكمة، وليس تحقيرا لمقررات القضاء. أقول هذا بناء على أنه ليس كل محاكمة سليمة قانوناً هي عادلة بالضرورة، والقضاة لا يحكمون بالعدل، وإنما يحكمون بالقانون. وهناك فرق فلسفي بين الأمرين.
فلماذا لا تعدّ المحاكمة عادلة ؟
أولا : كان على الدولة عدم إدخال القضية إلى المحكمة ابتداءً، وعدم إدراج ملفاتها بين يدي القضاة، لأن القضية سياسية وليست قانونية. ومقاربة القضايا السياسية وفق المنطق القانوني، قد يترتب عنها تطبيق القانون، لكنه لا يحقق العدل. وما الأمس عنا ببعيد، حيث أصدرت المحاكم أحكاما قاسية على المعتقلين عقب احتجاجات 1981 و 1984، فعملت الدولة على “تطبيق القانون” دون أن تحقق العدالة.
ثانيا : لم تكن المحاكمة عادلة، لما صاحبها من أحداث استثنائية وشاذة في بداياتها الأولى، مثل نشر صور الزفزافي عاريا، وهو في قبضة مؤسسات رسمية، ولم نعرف من سرب تلك الصور، إضافة إلى أنها حاطة بالكرامة، فمن صوّره ؟ ومن المسؤول عن تسريب الصور ؟ هل المؤسسة السجنية ؟ أم مؤسسة الفرقة الوطنية للشرطة القضائية ؟ أم جهة ثالثة ؟ وإن اختلفت الإجابة، فإن الجواب الوحيد هو أن الزفزافي لم يكن – في مرحلة ما – في أيدي أمينة، لأن من صوّره ليس أمينا، ومن سرب الصور ليس أمينا، وافتقار المسألة في مسارها إلى قيمة الأمانة يخدش قيمة العدل.
ثالثا : بعد اعتقال الزفزافي، وخروج رجال الأمن من بيته، نُشرت صور خاصة للزفزافي مع فتيات في يخت، وغيرها، وهي صور خاصة، ونشرُها على الملأ عملٌ لا أخلاقي، ويبقى السؤال هو من سرب الصور ؟ ولماذا لم تحقق المسألة في هذا ؟ ولماذا لم تصدر عقوبات في حق من سربها ؟ وأشير إلى أننا قرأنا في وسائل الإعلام أن بعض” زوار” بيت الزفزافي الذين فتشوا غرفته، أخذوا معهم مفتاح USB الذي يخزن فيه تلك الصور، فلماذا لم يفتح القضاء تحقيقا في هذا العمل غير الأخلاقي، الذي كان المقصود منه توجيه ضربات تحت الحزام لزعيم الحراك ؟ ووقوع هذا العمل اللاأخلاقي قد لا يطعن في قانونية المحاكمة، لكنه يلمز عدالتها.
رابعا : مباشرة بعد اعتقال المحتجين، حولتهم الجهات القضائية من محكمة الحسيمة إلى محكمة الدار البيضاء، وهذا التحويل إجراء قانوني سليم من حيث الأصل، لكن، يحق لنا أن نتساءل، لماذا محكمة الدار البيضاء بالضبط ؟ ولماذا لم يحوَّلوا إلى محكمة وجدة الأقرب ؟ ولماذا لم يحوَّلوا إلى محكمة تطوان أو طنجة ؟ ولماذا القفز على محاكم القنيطرة والرباط وفاس ؟ ما العلة في التحويل نحو البيضاء بالضبط ؟ ولنا أن نتساءل، هل زاوج هذا الإجراء بين تطبيق القانون وتحقيق العدالة ؟ أم أنه راعى القانون وأغفل العدالة ؟ولنا أن نتخيل العذابات التي تكبدها أفراد عائلات المعتقلين للتنقل لمؤازرة أو زيارة ذويهم المعتقلين، وختاما، أستحضر معلومات تاريخية حول محكمة الدار البيضاء، تجعلني أتعامل مع الإحالة عليها بنوع من التشاؤم، ومن هذه المعلومات التاريخية، محاكمات رجال الأعمال في حملة التطهير الشهيرة في عهد إدريس البصري، وهي محاكمات لم تحقق العدالة قط، أما من الناحية القانونية، فلا أطعن فيها، ولا أناقشها.
خامسا : نوقشت أثناء المحاكمة مسألة رفع العلم الأمازيغي أثناء الاحتجاجات، وكان على القضاء ألا ينزل إلى هذا المستوى، لأن العلم الأمازيغي علمٌ عابر للحدود، وهو علم هوياتي يشترك فيه أمازيغيو الريف وأمازيغيو سوس، وكذا أمازيغيو المغرب الكبير، ولو كان دالا على حمولة انفصالية، لما كان مشتركا بين هذه المناطق والأقاليم. ومما يدل على زيف الربط بين العلَم والانفصال، أن هذا العلم ذاته كان حاضرا في ملاعب روسيا أثناء مشاركات المنتخب المغربي في المونديال، وكان مرفوعا من قِبل مشجعي المنتخب الوطني، فأين الانفصال والانفصاليون ؟ لذا كان استحضار العلم الأمازيغي أثناء المحاكمة استحضارا غير قانوني.
نعم، لو تضمن القانون المغربي فصولا ونصوصا تحظر رفع أعلام بعينها، ولو تضمن القانون بنودا تنص على أن العلم الفلاني يدل على الانفصال، وأنه ممنوع، أو غير ذلك، لكان للقضاء الحق في مناقشة المسألة.
وإذا كان القضاء يعتمد على أحكام قضائية سابقة، ويعتمدها ويعتبرها مرجعية، فإن المناضلين يعتمدون أيضا على سوابق نضالية، ويتعاملون معها باعتبارها عرفا مرجعيا يقاس عليه، ومن ذلك أن العلم الأمازيغي سبق وأن رُفع في مسيرات احتجاجية مليونية، حول قضايا وطنية أو قومية، وفي مسيرات حضرها وأثث صفوفها الأولى وزراء وزعماء أحزاب، لذلك فإنه لا مانع من رفع هذه الأعلام، ولا قانون يحظرها، فلِمَ أثارها القضاء ؟
سادسا : قرأنا في وسائل الإعلام، أن المحكمة أثارت قضية الضغط على زر الإعجاب في الفايسبوك، واستفسرت في شأنها أحد المعتقلين،!!!
لهذه الملاحظات وغيرها، أقول بأن المحاكمة لم تكن عادلة، ولم تحقق العدالة في حدها الأدنى، لذا ووجهت باحتجاجات شديدة على مستوى العالم الافتراضي في مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى الاحتجاجات على أرض الواقع، حيث وقع الاحتجاج على الأحكام في الشارع العام في الحسيمة ووجدة وغيرهما، وأسفرت تلك الاحتجاجات عن اعتقال شباب آخرين، وكأن قدرنا أن تلد المحاكماتُ المحاكماتِ. دون أن ننسى التنديد بالأحكام من قِبل المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية.
المسار الثالث : مسار الإنصاف
من المعروف أن العدل أساس العمران، وأن قيمة العدل من أهم وأقدس وأنبل القيم، لكن العدل وحده لا يكفي، لأنه قد لا يحقق المراد، فنلجأ إلى الإنصاف لتكميل العدل وتتميمه، وجبر نقائصه، وهنا نستحضر أهم وأشهر أطروحة فلسفية في القرن العشرين، وهي أطروحة الفيلسوف الأمريكي جون راولز المعنونة بـ”العدالة كإنصاف”، وقبل هذا، نستحضر مسألة غاية في الأهمية، وهي أن العدل المطلق هو العدل الإلهي، والعدل البشري هو عدل نسبي، لذا لم يأمر الله تعالى بالعدل وحده، بل أمر بالعدل والإحسان، “إن الله يأمر بالعدل والإحسان”، والإنصاف من مشمولات الإحسان حتما، والسلطة القضائية مطالَبة بالحكم بالقانون وبتطبيقه، وليست مطالَبة بتطبيق الإنصاف أو استحضاره، لذا منحت الدساتير الحديثة حق الإنصاف لمن هو أسمى درجة من القضاء، وهو الشعب من خلال ممثليه (البرلمان)، أو لرؤساء الدول، لما لهم من مكانة دستورية ورمزية، وذلك من خلال تفعيل مسطرة العفو.
لقد انقسم المجتمع المغربي بعد أحكام المحكمة على معتقلي الحراك إلى قسمين :
أ – الأغلبية استقبلت الأحكام بغضب وتنديد، وقد عبرت عن ذلك في اللقاءات الخاصة والعامة.
ب – الأقلية استقبلت الأحكام بارتياح شديد، بل عبرت عن شفقة المحكمة ورحمتها، وأن الأولى أن يحاكموا بالإعدام، وقد تبنى هذا الرأي كثير من أتباع الشيخ المغراوي رئيس “شركات” دور القرآن في المغرب، وعللوا كلامهم بتعليلات تنتمي إلى مرحلة قروسطوية، منها أن القوم خوارج، وصدرت من كثير منهم عبارات التشفي، وهي أبعد ما يكون عن أخلاق الإسلام وقيم القرآن. وللإشارة، فإنهم قالوا هذا الكلام وروجوه قبل أن يقول رئيس النيابة العامة الأستاذ عبد النبوي كلاما مقاربا لكلامهم، وإن اختلفوا في التعليل.
ينبغي التنبيه إلى أن هذا التقسيم بين أغلبية وأقلية ليس مبنيا على مقاربة إحصائية دقيقة، ولكن بعد رصد أولي لردود الفعل المصاحبة للحدث.
وبما أن المحاكمة لم تحقق العدالة كما بينت أعلاه، وبما أنها خلّفت ردود فعل غاضبة، فإن مسطرة الإنصاف/العفو هي الوحيدة القادرة على إرجاع القطار إلى سكته، وللعفو مسطرتان :
أ – مسطرة العفو التي يبادر إليها ممثلو الشعب، وهي المسطرة التي بادر إلى تفعيلها نائبا فيدرالية اليسار، وهي مبادرة لا أرى لها أفقا، لأن البرلمانين لن يتفاعلوا معها، لما نعرفه عن أغلب أحزابهم ومدى “استقلاليتها” في بلورة القرارات، إضافة إلى غلوهم وإفراطهم في الرقابة الذاتية التي يحوطون بها أنفسهم، خصوصا في مثل هذه القضايا الشائكة.
ب – مسطرة العفو المكفولة للملك، وهي مسطرة سهلة وسلسة. حيث يصدر الملك عفوا على أناس بعينهم، وهنا قد تثار مشكلة، وهي أن المعنيين بالأمر قد لا يطلبون العفو، بدعوى أن المطالبة به تعد إقرارا بالجرم، وهم يعدّون أنفسهم غير مجرمين. وهذا موقف سياسي نقدّره ونحترم أصحابه.
وفي المقابل، يمكن للمؤسسة الملكية أن تبادر إلى تفعيل المسطرة، خصوصا أن القانون المنظم للعفو لا يقيده بضرورة مطالبة المعتقلين به.
ومسطرة العفو يمكن استخدامها أثناء أو بعد التقاضي، إلا أنها مع توقيف المسطرة القضائية أولى، وهنا أثمّن امتناع بعض المعتقلين من استئناف الأحكام، وأتمنى عدم استئنافها من قبل النيابة العامة، حتى يتوقف مسار القانون، لفسح المجال أمام مسار الإنصاف وعدم التشويش عليه.
وقبل الدساتير ونصوصها، نستحضر ما قاله الفيلسوف ابن مسكويه حول علاقة الملك/الحاكم بالمواطنين، وأن عنايته بهم “يجب أن تكون مثل عناية الأب بأولاده شفقةً وتحننا وتعهُّدا وتعطفا”، وهذه القيم تتجاوز العدل، وهي من مشمولات الإحسان المأمور به قرآنا، وهو ما لا تستطيع المحكمة تحقيقه، لذا ميّزنا ابتداء بين القانون وأهله، والإنصاف وأربابه.
تنبيه :
أمضى معتقلو الحراك عاما في السجن، وبعضهم أمضاها في زنزانة انفرادية كما يشاع، مع ما صاحَب ذلك من إضرابات عن الطعام، وهذه السنة وحدها، تعادل عشرين سنة في سجون الدنمارك، من هنا، يمكن اعتبار المعتقلين قد أنهوا مدة اعتقالهم كاملة غير منقوصة.
أطلق الله سراح المعتقلين. وجمع الله شملهم بعوائلهم وذويهم.