محمد أغبالو

في زمن مضى، من تسعينيات القرن الماضي، أصدر الصحافي المصري عماد ناصف كتابا حمل عنوان “زمن فيفي عبده”، عرّى من خلاله واقع المجتمع المصري في مرحلة الرئيس حسني مبارك.
ومما جاء في مقدمة الكتاب الذي صدر سنة 1994، “في زمن مضى كان عبد الحليم حافظ رمزا لعصر وقبله كانت أم كلثوم رمزا لعصر. أما في هذا العصر فقد أصبحت فيفي عبده هي الرمز والقدوة والمثل!! في زمن كان الوطن العربى يتجمع من المحيط إلى الخليج خلف صوت أم كلثوم واليوم أصبح الجميع يلهثون خلف رقص فيفي عبده ولم تعد فقط رمزاً للفن ولكن أصبحت رمزا لكل شيء؛ السياسة والفكر والأدب والكتابة حتى الاقتصاد..”.
زمن فيفي عبدو المصري وصلنا منذ زمن طويل نحن أيضا إلى المغرب، لكنه اليوم يتبدّى في تجلياته الأكثر بشاعة، حيث تحول إلى مسخ كافكاوي “من كافكا”، اسمه، “زمن طوطو”، الزمن الذي أصبح شخص يشكر وزارة الثقافة “بالسمطة ولتحت”، أمام أنظار وأسماع مئات الآلاف من المعجبين الذين يهتفون باسمه، ويهللون له كما لو أنه “قدم إنجازا لا سابق له”.
ما الذي أوصلنا إلى هاته الوضعية المأساوية؟.. ما الذي جعل مئات الآلاف من شبابنا، تائهون.. عندما يتكلمون فهم ينطقون بلغة غير مفهومة، لغة عدوانية مشحونة بالعنف والكلام الساقط، عندما يلبسون، يرتدون “الهلاهيل”، ملابس ممزقة كما لو نهشتها الكلاب، ويعتقدون أنهم مسايرون للموضة.. بأشكال من الحلاقة، لاعلاقة لها بالأناقة ولا بالجمال.
لماذا تخلت كل مؤسسات التنشئة عن مسؤولياتها، و”رفعت أيديها” مستسلمة لهيمنة الشارع ومواقع “التخربيق” الاجتماعي وليس التواصل الاجتماعي.
ولنبدأ بالأسرة، كأول مؤسسة للتنشئة، لماذا يسمح الآباء والأمهات لأبنائهم وبناتهم بالحديث في المنازل بمصطلحات الشارع، حتى تم التطبيع مع هاته الكلمات، وأصبحت جزءا من القاموس اللغوي داخل البيوت.. هل لأن الآباء والأمهات هم أيضا جزء من المشكل وليس جزءا من الحل.. هم وهن أيضا لم يتلقوا ما يكفي من التربية على فن العيش والأخلاق والقيم المشتركة للإنسان المتحضر الذي يعيش عصره.. مجرد سؤال أطرحه؟
أما المدرسة، فأعتقد أن الأساتذة قد أعلنوا انهزامهم، أمام كل المهام المطلوبة منهم، منذ أصبحوا يفهمون في الوداديات السكنية، وطريقة تأسيسها، أكثر من فهمهم في المناهج البيداغوجية والديداكتيكية. والقلة القليلة الماسكة على الجمر، والتي ترغب في إيصال شيء مما تمتلكه من معرفة، إلى التلاميذ، فيأتي أحد “المشرملين” ليمسح به الأرض، لأنه لم يتركه “ينقل” في الامتحان، أو يتعرض له والد إحدى “المريولات” فيشق رأسه بضربة قاصمة، لأنه لم يترك ابنته تلج إلى الفصل بملابس هي أقرب إلى ملابس مغنيات الكباريهات، منها إلى ملابس التلميذات.
في زمن مضى، من سنوات التسعينات الأولى، كنا شبابا أيضا، كان الكتاب لا يفارق أيدينا، – كانت والدتي تقول لي “أنت بحال الطوبة، تخرج تجمع الكواغط وتجيب للدار..”-، كنا نغادر فصول الدراسة، مساء، في فصل الشتاء، يكون الظلام قد عمّ، لكننا لا نتوجه إلى منازلنا، لنتناول لقمة دافئة من أيدي أمهاتنا، بل كنا نسرع، إلى دار الشباب، لنناقش، اسئلة من قبيل أي دور للثقافة في مغرب اليوم؟ و”ما علاقة علاقة الثقافي بالسياسي؟”، كنا بعضنا يهيئ عروضا في الشأن الثقافي، وآخرون في معمل الغناء، ينشدون أغاني الشيخ إمام والعاشقين وأحمد قعبور، والبعض الأخر فتيانا وفتيات يمارسن المسرح.. ولكن، ولأننا كنا نحمل هم الوطن، ولأننا كنا نسعى إلى الاستفادة من ثقافة جادة، بعيدة عن الميوعة، فإننا كنا نجد في كثير من الأحيان، أن مدير دار الشباب، قد منح القاعات الكبيرة في الدار، إلى جمعيات “لالة ومالي”، في حين يطلب منا نحن التكدس في قاعة صغيرة مظلمة، وبدون تهوية، كما أننا كنا نفاجأ دائما، بأن مجلتنا الحائطية، ممزقة الأوراق.. وبقي الحال هكذا، إلى أن أصبحنا مثل “الكلب المجراب”، بعد أن هيمنت جمعيات، معينة، نصفها كان يطلق العنان لأغاني الكباريهات، والنصف الثاني كان يردد الأناشيد الدينية المشرقية، التي لا علاقة لها بالهوية المغربية، إلى أن يأسنا وغادرنا دار الشباب بلا رجعة.
وإني أرى أن الدولة تتحمل مسؤولية كبيرة في ما ألت إليه أوضاع الشباب بمغرب اليوم، لأنها لم تنظر له أبدا على أنه رافعة للمجتمع، بل تعاملت معه دائما كعبء، وكمصدر للإزعاج الأمني والسياسي. ولم تقدم له تعليما، يحفز على طرح السؤال، ويعلم ملكة النقد، بل راهنت على الحشو فقط، في غياب أنشطة موازية، سواء ثقافية، أو فنية أو رياضية.
كما أن الإعلام العمومي، لم يطرح على نفسه أبدا فكرة الاهتمام بالشباب، خارج برامج تنشر البلادة والغباء، وتكرس ثقافة أن النجاح لا يتم سوى عن طريق الغناء أو لعب كرة القدم. أما الإذاعات الخاصة، فالأكثر انتشارا هي رائدة “التفاهة” وزعيمة “السطحية” ومبدعة “تخسار الهضرة”.
أما الأحزاب، فلم تنظر إلى الشباب، إلا كحشود يجب استغلالها في المحطات التنظيمية لتغليب كفة فلان على علان، وفي الحملات الانتخابية مقابل “دريهمات” و”سندويتش بارد”، بما فيها الأحزاب اليسارية، التي كانت تعمل على تأطير الشباب في الماضي، فقد تحولت منذ وصولها إلى السلطة مع حكومة عبد الرحمان اليوسفي، إلى أحزاب تنشر ثقافة الولاء للزعيم، وتقدم إلى مناصب المسؤولية من يحمل حقيبة القائد الهمام ومن يلبسه بدلته، ومن ينقل له أخبار الحانات والمقاهي، ومن جلس مع من، ومن “شرب” مع من. مما سيّد التنافس على “التبلحيس” و”التبنديق” بين شباب الأحزاب بأجمعها دون استثناء.
إن الغضب اليوم، ليس على وجود نمط غنائي معين، كما يريد البعض أن يوجه النقاش، نمط غنائي يدعي “ظلما وعدوانا” أنه متمرد على كل الأنماط، وأنه له أسلوب في العيش وفي فهم الأشياء بطريقة مغايرة.. إن الغضب اليوم، هو ضد اختراق الفضاء العام وبدعم من مؤسسات الدولة، من طرف أشخاص يحرضون على العنف والكراهية ونشر ثقافة “التسلكيط” و”الكلاشات” بدعوى التمرد، على السلطة والمجتمع، وما هم متمردون و”لا يحزنون”، وأكبر دليل على ذلك، ما ال إليه كبيرهم الذي علمهم السحر.
في النهاية نحن ضد أن نجد أنفسنا أمام اختيارين لا ثالث لهما في المجتمع المغربي، إما “التخونيج السياسي” أو “تشرميل المريولين”.

التعليقات على زمن “طوطو” مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

الرميد يعارض تعديلات مدونة الأسرة: “إذا كانت ستكرس مزيدا من الانحدار والتراجع السكاني فإنه ليس من الحكمة اعتمادها”

مصطفى الرميد* من حقنا- نحن المغاربة- ونحن نعيش في عالم قلق ومضطرب، أن ننوه بمثانة مؤسسات ب…